شهادات ومذكرات

بدل رفو ووطن جديد في الغربة (شهادة)

badal raffowتعرفت الى الشاعر المبدع بدل قبل اكثر من ثلاثين سنة، عندما كان طالبا في قسم اللغة الروسية بكلية الاداب في جامعة بغداد في ثمانينات القرن العشرين. لقد لاحظته رأسا بين طلبتي الاخرين، اذ كان يساهم بشكل متميز اثناء تدريسي لمادتي الترجمة والشعر الروسي آنذاك، وبدأت اتحدث معه وعرفت منه انه يكتب بعض القصائد، فشجعته على الاستمرار بذلك، وكنت مقتنعا ان هذه البدايات ستؤدي به الى السير الحثيث في طريق الابداع الشاق والرائع بآن، وبالذات في مجالي الشعر والترجمة،وكم كنت سعيدا عندما بدأت اتابع مسيرته فيما بعد. فرقتنا ظروف العراق المعقدة والرهيبة،وعلمت انه استقر في النمسا،هذا البلد الذي يليق بالمبدع ويتناغم معه، وقلت في نفسي انه سيجد مكانته اللائقة به.

765-badalوسارت الاعوام، وفجأة، في عام 2004، دخل بدل عليٌ في مكتب عملي، وكنت آنذاك العميد المنتخب لكلية اللغات في جامعة بغداد. عرفته رأسا، رغم ان الاعوام الطويلة قد بدت واضحة على معالمه، وقمت واستقبلته بالاحضان، ولاحظت الدموع تنساب من عينيه، وبالكاد حبست انا دموعي. كان اللقاء رائعا. وبعد ان ترك المكتب، سألوني الزملاء الذين كانوا حولي – (من هذا الذي بكى وكاد يبكيك ويبكينا معه؟)، فقلت لهم، انه واحد من طلبتي النجباء، الذي احتفظ طوال حياته بذكرى احد اساتذته، الذين درسٌوه الشعر الروسي والترجمة، والذي تنبأ له بمستقبل وضٌاء في عالم الادب الرائع الجميل.

وهكذا عادت العلاقات الطبيعية بيننا، من مراسلات ومتابعات لكل النشاطات الفكرية، وقد سألني بدل قبل ايام، هل يمكن لي ان اكتب مقدمة لهذه المجموعة الشعرية، فاجبته بعد دقيقة من استلامي طلبه قائلا – نعم وبكل سرور، وان هذا شرف كبير لي، فاجابني بدل رأسا قائلا – هذا أسرع جواب لطلب تقدمت به طوال حياتي.

كان بدل (ولا يزال) يجسٌد روح وطنه، واصبح بعد ان استقر في النمسا جسرا ثقافيا وحضاريا شامخا، ينقل ثقافة وحضارة العراق الى النمسا وثقافة وحضارة النمسا الى العراق، ويا له من دور حضاري وثقافي متميز.

طلب مني بدل ان أقرأ القصائد، ومنحني الصلاحية المطلقة بتصحيح وتشذيب ما اريد، وقال لي انه موافق مسبقا على كل ما اقوم به، وقد قرأت القصائد بكل سرور ولم أدخل اي تعديل او تصحيح عليها (وهذا ما كنت اعمله مع كل الكتب المترجمة التي راجعتها في حياتي) وذلك لاني اؤمن، ان الترجمة هي عملية ابداع ذاتي ترتبط بشخصية المترجم، وانه المسؤول حتى عن اخطائها،وانا على ثقة، ان الشاعر يبدع عندما يترجم الشعر من لغة الى اخرى.

ترجمة الشعر مغامرة يخوضها الشجعان، وقد ينجحون، وقد لا ينجحون، ويكفي ان (الشجاع) بدل قد ترجم لنا هذه المقاطع –

فوق بعض الحيوات

لا ينمو العشب

وبعد اجيال

يظل الهوى القديم

والحقد القديم.

 

الوطن...ينبوع عميق

كالبئر وكالبحر

 

لا تسأل من اين قدومه،

ومن هو،

ولكن اسأل عن مدينة

اسمها قلب الانسان.

 

صار الشئ سيدا

والانسان عبدا..

 

عيناك

تقتلان الظلام ببريقهما،

وتنهيان الشوك والموت..

 

ونحن نرتشف نورك

ونهديه لقلوبنا..

 

يداك

عالم ملئ بالاحلام

السرية الملونة.

ما اروع العيش في يديك!

 

هذه مقاطع شعرية رائعة، أليس كذلك؟

 

 

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم