شهادات ومذكرات

حديث مع فيرا

التقينا (فيرا وانا) في ايلول / سبتمبر عام 1960 في شعبة رقم 6 في الصف الاول بالقسم الروسي في كلية الآداب بجامعة موسكو. درسنا سوية وافترقنا عام 1964 . كنا نظن انه فراق ابدي، ولكننا التقينا – على الرغم مما كنا نظن - مرة اخرى عام 2015، اي بعد أكثر من نصف قرن من الزمان . تحدثنا وتحدثنا وتحدثنا وتحدثنا .....، وحاولنا ايجاز الاحداث التي عشناها طوال نصف القرن هذا وضغطها في ساعات ليس الا ...و قلت لها في نهاية اللقاء ضاحكا - اريد ان اكتب مقالة عن احاديثنا هذه، فتعجبت فيرا من ذلك، وقالت - لكنني لا أتميز باي شئ عن الآخرين، فقلت لها نعم، هذا صحيح، وأنا ايضا لا أتميز عن الآخرين، ولهذا السبب اريد ان اكتب ذلك، لان التاريخ يصنعه هؤلاء الذين لا يتميزون بشئ عن الآخرين، اي الناس الاعتياديون، الذين يسجلون- بصدق- ما شاهدوه اثناء مسيرة حياتهم، وان ذلك بالذات هو الذي يجسٌد ويمثٌل حياة (الناس الاعتياديين الآخرين كافة) في كل مكان وزمان في عالمنا الواسع الكبير، والضيق والصغير في آن، سواء كان في العراق أو روسيا أو في أي مكان آخر .

توقفنا طبعا في أحاديثا تلك اولا عند مصائر طلبة شعبتنا في جامعة موسكو آنذاك . كان معنا اربعة طلاب من فيتنام الاشتراكية (كانت هناك دولة فيتنام الجنوبية). اثنان منهما أكملا دراستهما، والاثنان الآخران سافرا الى فيتنام عندما كانا في المرحلة الاخيرة ولكنهما لم يعودا الى موسكو لاكمال الدراسة، وانقطعت أخبارهما نهائيا . قالت فيرا انها التقت (بعد اكثر من عشرين سنة تقريبا من انهاء الدراسة) في موسكو بواحد من الخريجين بالصدفة، وانه أخبرها بان الفيتنامي الآخر(الذي أكمل دراسته ايضا) قد كتب عنهما تقريرا الى السلطات الفيتنامية آنذاك في كونهما لم يكونا متعاونين مع سياسة الحزب الشيوعي الفيتنامي ومنظماته في موسكو، ولهذا تم عرقلة رجوعهما لاكمال الدراسة، وان مصيرهما لحد الآن لازال مجهولا (اي بعد عشرين سنة من ذلك التقرير) . تألمنا بشأن هذه الحادثة التراجيدية طبعا، وتذكرنا كيف انهما كانا من أبرز الطلبة الآخرين، بما فيهم الفيتناميين الاثنين الخريجين، ولم يمارسا اي نشاط سياسي ابدا، وكانا محبوبين ومحترمين جدا من قبل الاساتذة والطلبة جميعا، ويتقنان اللغة الروسية بشكل جيد جدا لا يمكن مقارنته ابدا مع مستوى الاثنين الآخرين، وكانا يتفاعلان بحيوية الشباب اليافع مع الحياة الثقافية الروسية بشكل عام والحياة الجامعية بشكل خاص . قلت لها، انني أعرف بعض الحالات المأساوية المشابهة في بلداننا، حيث كتب البعض من خريجي المعاهد السوفيتية عن زملائهم، وما الذي أدٌت اليه تلك التقارير المأساوية . سألتها عن مصير هذا الذي كتب التقرير، فقالت انه قد تم تعينه ملحقا ثقافيا للفيتنام في موسكو نهاية الستينات، وبقي بمنصبه عدة سنوات، ثم عاد الى الفيتنام في بداية السبعينات من القرن الماضي. سألتها عن الطالب الايطالي، الذي كان يدرس معنا ضمن زمالات الحزب الشيوعي الايطالي، فقالت انه أصبح بعد تخرجه معاديا للاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية بشكل عام في بلده، ولم يتميز بمعرفته العميقة للغة الروسية وآدابها، ولم يساهم بحركة الترجمة من الروسية الى الايطالية كما كان مفروضا ومتوقعا، فقلت لها ان هناك الكثير من المشابهين له بين خريجينا في الجامعات والمعاهد السوفيتية، الذين كانوا (يتاجرون بالافكار الاشتراكية!) وبشكل هائل اثناء دراستهم في الاتحاد السوفيتي، وان أحد أصدقائي المرحين كان يصف هذه الظاهرة بانها (تحوٌل فكري جذري يحدث في الطائرة من موسكو الى بغداد !). سألتني عن غازي العبادي وناشئة الكوتاني، اللذين كانا في شعبتنا، فقلت لها ان غازي العبادي قد توفى منذ فترة طويلة، وانه اصبح قاصا وروائيا معروفا في العراق وصحافيا مشهورا ومترجما عن اللغة الروسية، واصدر العديد من الكتب القصصية والروائية، وانني كتبت عنه عدة مقالات، أما ناشئة الكوتاني، فانها عادت مرة اخرى الى موسكو بعد تخرجها، وحصلت على شهادة الدكتوراة في اللغة الروسية من جامعة موسكو، وان استاذتنا المرحومة البروفيسورة فالنتينا بروخوروفا كانت مشرفتها العلمية اثناء دراستها في قسم الدراسات العليا، وهكذا اصبحت ناشئة الكوتاني استاذة لامعة ومتميزة في قسم اللغة الروسية في كلية الآداب بجامعة بغداد في السبعينات، بعد حصولها على شهادة الدكتوراه من جامعة موسكو، الا انها اضطرت ان تترك العراق مع عائلتها في بداية الثمانينات أثناء الحرب العراقية – الايرانية، والاوضاع العراقية الرهيبة والمتشابكة آنذاك، وسافرت الى لندن، وبقيت هناك لحد الآن واصبحت مواطنة انكليزية ولكنها احتفظت طبعا بصفاتها وروحيتها وشخصيتها العراقية الاصيلة والمتميزة، واحتفظت باختصاصها ايضا، اذ انها أخذت تعمل في مجال تدريس اللغة الروسية هناك.

سألت فيرا عن حبها المتوهج والعظيم للشعر الروسي في تلك الايام الخوالي، وخصوصا ليرمنتوف، وهل لازالت محافظة على هذا الحب ؟ قالت نعم، لكن ليرمنتوف قد تراجع قليلا في روحها وقلبها، مقارنة مع أيام الدراسة في جامعة موسكو قبل نصف قرن، عندما كانت الرومانسية مسيطرة عليها، ولكنها لازالت مندهشة امام ابداعه العظيم، ولم تفهم لحد الان كيف استطاع هذا الضابط الروسي الشاب ان يصف الارض متوهجة باللون الازرق في بداية القرن التاسع عشر في احدى قصائده، وهو ما أكٌده رجال الفضاء في نهاية القرن العشرين، عندما شاهدوا كرتنا الارضية وهم يحلقون في أجواء الكون والفضاء، ولا زالت لا تستوعب كيف وصف ليرمنتوف كل احاسيس الحب الانساني واعماقه وهو في ذلك العمر، اذ انه عاش 27 سنة لا غير . قلت لها باني لم انتبه فعلا الى تلك الكلمات، التي وصف ليرمنتوف فيها الارض وهي تتلألأ باللون الازرق، وانني سأشير حتما الى ملاحظتها الدقيقة والعميقة والجميلة هذه حول ذلك، واعتبرها اضافة نوعية وجديدة واصيلة الى الدراسات النقدية والتحليلية حول ابداع ليرمنتوف، واخبرتها بأني كتبت مقالة عنه ونشرتها، وأشرت في بدايتها الى اندهاشي ايضا من كونه قد استطاع انجاز كل تلك النتاجات الابداعية ضمن هذه السنوات القصار . قالت فيرا انها كانت تحلم ان تكتب بحثا بعنوان (بوشكين وليرمنتوف والحرب)، وانها ارادت ان تقارن موقفهما من ظاهرة حياتية كبيرة في تاريخ روسيا، وانها لازالت تعتقد ولحد الآن، ان ليرمنتوف اكثر واقعية وعمقا في وصفه للحرب من بوشكين، فسألتها – ولماذا لم تكتبي هذا البحث ؟ فقالت مبتسمة، ان الحياة عرقلت كل تلك الاحلام الادبية يا ضياء، وانا الآن – في هذا العمر - لا استطيع تحقيق هذا الحلم، وضحكت فيرا وأضافت – (لكني رجعت نهائيا الآن الى بوشكين – النبع الخالد والصافي للشعر الروسي، ولا زلت أقرأ بين فترة واخرى رواية بوشكين الشعرية (يفغيني انيغين) واتمتع بها، وقد قرأت مرة الفصل الاول من تلك الرواية عن ظهر قلب امام أصدقائي، وقد اندهشوا وهم يستمعون اليٌ وكذلك اندهشت انا ايضا، لأني لم اكن اعرف اصلا باني قد حفظتها عن ظهر قلب نتيجة تلك القراءة شبه الدائمة !). سألتها عن ماياكوفسكي، والذي أتذكر انها كانت تتغنى باشعاره بعض الاحيان وتستشهد بها فقالت - نعم، كنت معجبة به وبمواضيعه المتفردة والمدهشة والغريبة، ولكني ابتعدت عنه بالتدريج، وأعتقد انه انتحر فعلا (عندما وصل الى عمر بوشكين !)، وليس مثل يسينين الذي اظن انهم قتلوه ولم ينتحر، وسألتني فجأة – هل تعرف قصائد روبتسوف الذي قتلته خطيبته؟ لقد كان ايضا بذلك العمر. قلت لها لا اعرفه ولم اسمع به، فتعجبت من جوابي، ثم قالت متذكرة – (ها، لانك تركت روسيا في ذلك الوقت) .

حديث فيرا استمر طويلا، اذ تشعب الكلام عن مسيرة الادب الروسي، وربما يتطلب مني ان اكتب حلقة اخرى حول هذا الحديث الممتع والرشيق، لهذا اتوقف الان، واختتم هذه المقالة بشئ ما عن روبتسوف الذي أشارت اليه فيرا .

ولد نيقولاي ميخايلوفيتش روبتسوف عام 1936 وتوفي عام 1971 / أول ديوان له صدر عام 1962 بعنوان – (امواج وصخور) بشكل سري / أصدر بعدئذ أربعة دواوين عن طريق دور نشر رسمية وهي – ليريكا 1965 / نجم الحقول 1967 / الروح تحتفظ 1969 / ضجيج الصنوبر 1970 /،وصدرت بعد وفاته دواوين – الأزهار الخضراء والسفينة الاخيرة والثلج الاول والسنونو وغيرها .. كتب عنه بلاتونوف ما يأتي –

.. علاقة الاحترام والحب تجاه القرية، وتقبٌل الانسان للطبيعة بتناغم متكامل، والاخلاص للبيت والوطن والمٌثل الروحية للاجيال الروسية السابقة – كل ذلك جعل شعر روبتسوف استمرارا متوازيا لشعر يسينين، وقد امتزج هذا الشعر بقصائد توتشيف وفيت وبونين ...

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم