شهادات ومذكرات

رَغَبات الآمر أمر

ahmad alhiliبعد مرور سنة على التحاقي بهذه الوحدة العسكرية المرابطة على خطوط النار في شرق البصرة، وقعت حوادث عديدة داخل الوحدة، في إحدى الليالي سمعنا صوت إطلاق نار صادراً من أحد الحظائر، اسرع الجنود وكذلك نواب الضباط والضباط لمعرفة ما يجري، علمنا بعد ذلك أن أحد الجنود أطلق النار على رأسه من بندقية الكلاشنكوف التي يمتلكها، وهو لم يمض على تواجده في وحدتنا سوى شهرين، سبق لي أن تعرّفت عليه، كان أحد خريجي معهد المعلمين العالي ببغداد، عرفت في حينها أنه كان متعلقاً بأمه، ومن أجل ذلك وجدوا على جثته رسالة موجهة منه إليها يعتذر فيها بشدة أنه قام بفعلته الشنيعة هذه، بصعوبة بالغة حصلت على الورقة التي تركها، فهم قد وضعوها ضمن أوراق ملف المجلس التحقيقي الذي أُجري على عجل، حيث دوّنوا أقوال أفراد حظيرته وكذلك أقوال نائب الضابط رأس عرفاء الوحدة، أثار أحد الجنود الشكوك، أن يكون الضغط النفسي الذي مارسه آمر سريته من أجل أن يجعله يعمل لديه بصفة مراسل، ولكن الرسالة التي تركها تقطع الشك بشأن ذلك، فهو يعلن فيها بصورة لا لبس فيها أن انتحاره لم يكن جراء ضغط من أي نوع مارسه بحقه آمر سريته الذي يكن له الاحترام ويتمنى لك التوفيق ..

وبالنسبة للشعار غير المعلن وغير المفهوم من قبلي الذي يخص آمر الوحدة ، والمتداول داخل كحقيقة مؤكدة يوجّب احترامها والذي نوّهنا عنه آنفاً، وهو (رغبات الآمر أمر)، فقد اتضح لي فيما بعد أنه يمتد لشمل أموراً غير منظورة، ومن ضمنها حق الآمر باختيار مراسل له، ذلك الجندي المغلوب على أمره والذي يرتضي عن طيب خاطر أن يقوم بأعمال دونية كأن يغسل ملابسه ومن ضمنها الداخلية، وكذلك هو يقوم بتلميع حذاء الآمر وما إلى ذلك من أعمال يأباها غالبية الجنود، ولكن بعضهم، ولأسباب عديدة يأتي في مقدمتها أن هذه الوظيفة تعفيهم من الأوامر العسكرية الصارمة والواجبات والخروج يومياً صباحاً إلى ساحة العرض والانخراط كجنود شغل في شتى الأعمال ...

سمعنا ولاحظنا أن غالبية آمري الوحدات والسرايا ممن يحق لهم أن يتخذوا مراسلين، يحرصون على اجتذاب شبان وسيمين، خاصة إذا عرفنا أن الضباط وبسبب احتمالات الهجومات ربما يمكثون في وحداتهم لأكثر من شهر بانتظار إجازاتهم الدورية، الأمر الذي يعني حرمانهم من زوجاتهم ومن العلاقة الحميمية، فكان وجود المراسل الوسيم الذي يلبي احتياجات آمره ليلاً من شأنه أن يسد هذا الفراغ، وهناك الكثير من الحيل والألاعيب التي يجيدونها بمعونة وتعضيد رأس عرفاء الوحدة الذي يكون في هذه الحالة بمثابة " قوّاد" لأمره، من أجل استدراج هذا الجندي أو ذاك ممن تقع عليهم عين الآمر وبالتالي الإيقاع به في الفخ .

سمعت عن الأسلوب الذي يتبعه أحد هؤلاء نواب الضباط، والذي يشغل منصب رأس عرفاء الوحدة، فحين تأتي وجبة جديدة من الجنود المنقولين حديثاً إلى الوحدة فإنه سوف يتم تقديمهم إلى الآمر، وهو سيتفحصهم بدقة، وعندها حين يستقر رأيه على أحدهم، فإن نائب الضابط يستبقيه لديه ويدعه يعيش معه في ملجئه بمعية الانضباط الخاص به، موحياً ومُلمّحاً له باستمرار بأنه سيتم نقله إلى الحظائر الأخرى، وربما إلى الخطوط الأمامية، أما باقي الجنود الذين جاؤوا معه في ذات الأمر الاداري فإنه سرعان ما يتم نقلهم إلى الحظائر الأخرى، وبطبيعة الحال فإن هذا الجندي المنتقى سيعيش في بحبوحة ليس لها مثيل، بينما يرى رفاقه يساقون لتنفيذ شتى الأعمال والواجبات القاسية، وربما ذهبوا بهم إلى الخنادق الأمامية ليلقوا حتفهم هناك، وهكذا يتم تدجينه رويداً رويداً إذا لمسوا فيه شيء من النفور والجموح وعدم الاستعداد للانخراط في هذا العمل . وقد رأيت بعضاً من خريجي الكليات وهم يقعون في هذا الفخ المحكم ...

على أن الأمور ليست ممهدة دائماً وفق مبدأ (رغبات الآمر أمر)، فقد ينقلب السحر على الساحر، مثلما حدث حين جاء عدد من الجنود الجدد منقولين من أحد مراكز التدريب، كان بينهم فتىً في غاية الوسامة اسمه مروان، وفي الحال وقعت عين الآمر عليه ورغب فيه مراسلاً له، ولكن، وكما بدا لنا فإن هذا الجندي لم يكن سلس القياد أو سهل الانصياع، فقد كان معتزاً برجولته، وعلى الرغم من خلقه الرفيع فإنه كان شرس الصباع بهذا الصدد لا يسمح لأحد أن يقترب منه أكثر من اللازم .

كما هو واضح فإنه علم بمخططات الآمر ورأس العرفاء للإيقاع به، رفض رفضاً قاطعاً كل العروض المغرية التي قدمت له، أراد رأس العرفاء أن يجعله انضباط له أي تكون مهمته فحسب تبليغ الأوامر وبعض القضايا الشكلية، ولكنه أعرض عن ذلك، مفضّلاً أن يخرج كـ جندي شغل المرة تلو الأخرى في مهمات حفر الخنادق أو كعامل بناء أو لجلب العتاد، بالإضافة إلى اضطلاعه بمهام الواجبات الليلية، وكلها أعمال قاسية .

استمر ضغط رأس العرفاء عليه، كان بوسعنا أن نرى عيني الآمر وهما تحومان عليه في ساحة العرض الصباحي، ورأينا كيف أنه أصبح يستشيط غضباً وحنقاً لأتفه الأسباب، وقد انعكس ذلك علينا مزيداً من الأعباء والواجبات والأعمال الشاقة التي كان يجيد افتعالها لنا بوصفها واجبات عسكرية ليس إلا .

توطدت العلاقة بيني وبين مروان، الذي أرسلوه إلى حظيرتي، التي لا يوجد فيها أحد سواي، في البداية بدا لي متوجّساً جداً ومتشككاً، ولكنه بمرور الوقت أصبح أكثر سلاسة، أصبحت موضع ثقته وكان يعتبرني بمثابة أخيه الأكبر ... كان يؤلمه ويؤرّقه أن يرى جنود الوحدة يتعرضون لكل هذا العناء بسببه، كنت أشفق عليه وأن فتوته ونضارته يقعان ضحية هوس وجنون آمر وحدتنا الذي اختار أن يكشّر عن أنيابه كأي وحش كاسر .

أخيراً، وبعد مرور أكثر من ستة أشهر، رأيت بوادر الانهيار تتبدى على مروان، ولكني قرأت تصميماً وعزماً لا هوادة فيه في سلوكه، ذهب إلى رأس عرفاء الوحدة وأبدى موافقته أن يُصبح مراسلاً لدى الآمر .

في اليوم التالي اصطنع الآمر مناسبة، وأمر القائمين على سيارة الحانوت بأن يجلبوا من سوق البصرة الكثير من مظاهر الزينة، وأصدر أوامره إلي بوصفي مشغلاً لإذاعة الوحدة أن أكف عن بث أناشيد الحرب الحماسية وأن أقتصر في البث على الأغاني العاطفية ...

فرح الجنود، وبدت على الجميع علائم الارتياح والانشراح لأن المياه عادت إلى مجاريها السابقة، ولأن هستيريا الأوامر التعسفية قد توقفت .

مضى اسبوعان، ثم ما لبثت أن طارت داخل وحدتنا إشاعة هائلة تتعلّق بفحولة آمرنا، وأنه يفضّل أن يكون مفعولاً به لا فاعلاً في الفراش، سمعت عدداً من الجنود يتداولونها بشغف وتشفٍّ وكأنَّ أحدهم فاز بالجائزة الكبرى .

فكّرت مليّاً في هذه القضية الشائكة، فقد أتاح لي الاقتراب من مروان أن أطّلع عن كثبٍ على شخصيته وأنه لم يكن قط ليّناً أو يسهل استدراجه، وأنه لأمرٍ ما أبدى موافقته أن يكون مراسلاً للآمر، خمّنتُ أنه أراد من خلال تنازله وتضحيته الجسيمة أن ينتقم من هذا الضابط العاتي .

كنت أراه لبعض الوقت ولكن على عجلٍ، وأخيراً أتيح لي وقتٌ كافٍ لكي أسأله عن حكاية فحولة آمرنا المثلومة، فكّر قليلاً، ضحك، قال لي ؛

- نعم، أنا أضمرت في نفسي أمر الانتقام منه في نفسي حين وافقت على أن أكون مراسلاً له، أردت أن اقتصَّ منه بذات الطريقة القاسية التي يتعامل بها مع الآخرين، اقتربت منه بما يكفي، لكي أُطلق هذه الاشاعة، التي وكما تعلم ليس بوسع أحد أن يوقفها حتى وإن كانت كاذبة !

 

أحمد الحلي

 

في المثقف اليوم