شهادات ومذكرات

هاشم عبود الموسوي: عندما هزمت ثوراً هائجاً

hashem mosawi"كريستبورغر شتراسه" هو اسم هذا الشارع الذي لا يتجاوز طوله الخمسمائة متراً، يقع في أحد الأحياء القديمة لمدينة برلين الشرقية... انتقلت إليه في نهاية عام 1966م لأسكن في أحد الشقق الواقعة خلف الفناء الأوسط لعمارة قديمة.

أمام بيتي في هذا الشارع، كانت تقبع حانة صغيرة يسودها اللغط والأصوات العالية والضوضاء التي لا تنقطع، وتسبح في فضائها سحب الدخان.. وعندما يتقدّم الليل، يتضوّع المكان بشذى عطرٍ نسائي نفّاذ، يجلب إليه الرجال الباحثين عن لحظة دفءٍ ونسيان، بين أحضان امرأةٍ ما.

لم يكن في هذه الحانة أكثر من عشرة طاولات، وتعوّدتُ أن أذهبَ إليها كلّ ليلة تقريباً، وذلك بين العاشرة والحادية عشر مساءً. أدلفُ على عجلٍ، وأرتمي بتهالك وإعياء على أحد كراسي الطاولة الفخرية، والتي حجزتها لنا صاحبة الحانة "ريتا تسوادا".. كان الألمان يطلقون على مثل هذه الطاولات (شتام تِش)، وهي تبقى محجوزة لا يجلس عندها أحد، حتى يأتي روادها المُحبّذون.

نحن كنّا مجموعة من المثقفين من مختلف التوجهات والمهن، جمعتنا الصدفة عند هذه الطاولة، ويعود الفضل في ذلك إلى "ريتا" صاحبة الحانة، هذه المرأة ذات القوام الفارع، والصدر الممتلئ، والجمال الأخاذ، والتي كانت تسحر زائري الحانة، وكأنها هي نقطة الجذب لكثيرٍ من الرجال من رواد الحانة، وهي تمتلك شخصية قوية وصوتٍ باعث على الثقة بالنفس.. كانت تسرق الوقت أحياناً لتجلس معنا على هذه الطاولة الفخرية، تستمتع وتُشارك بالحديث، كانت تمتلك ثقافة متوسطة.. ولكنها ذكية تُحاول أن تسأل وتطّلع.. كانت تُحب لعبة الورق والشطرنج، حيث كانت تُنهي ادوار الشطرنج بالفوز السريع على منافسيها.. ومرارا طلبت مني أن ألاعبها.. لكني لم أكن ماهراً في اللعب ، فكنتُ أكذب عليها، مُدّعياً بأنها لا تزال ضعيفة بلعبة الشطرنج، ولا أُريد حالياً التباري معها خوفاً على هبوط مستواي في هذه اللعبة.. كانت تُصدّق ذلك.. وكل مرّة تقول بأنّها تقدّمت في اللعبة، وأصبحت أقوى من السابق.. ولكن دون جدوى.

كان المُزاح الحميم بيننا لا ينقطع.. ولكن ما كان يُعكّر صفو جلساء هذه الطاولة في بعض الأمسيات هو مجيء صديقها "هانس"، ذلك الرجل الضخم الطويل، حيث كان يبقى ينتظرها على نفس الطاولة، وهنالك تتوقف أحاديثنا الثقافية والملونة بمختلف التوجهات.. وعندما أُغادر دائما في الساعة الحادية عشر أو قبلها، يبقى "هانس" مُنتظراً حتى يغادر آخر الزبائن الحانة ليصطحبها إلى شقتها، والتي لم تكن بعيدة كثيراً عن موقع الحانة، وذكر لي صديقي "لوتس" والذي كان يسكن في الشقة التي تحت شقة ريتا مباشرةً بأنّ هانس يزورها مرتين في الأسبوع، وعندما يكونان هذان الجسمان الضخمان مع بعضهما.. يشعر لوتس في تلك الليالي بسقف غرفته يهتز فوقه، وكان يسمع شهيقهما وزعيقهما يأتي عبر النافذة.

هذه الحانة كانت عالم خاص يعج بالمشاعر والأمزجة والقصص المتنوعة.

المجموعة الفخرية على طاولتنا، تتكون من النحات "بيتر فايس"، والمتزوج من امرأة جميلة وهي راقصة في فرقة برلين إنسامبل، وكان ينظر بشغف إلى مؤخرات النساء، ويذكر لي دائماً، بأن أهم كتلة في جسم المرأة هي مؤخرتها، وربما أثّر عليه تخصصه في النحت وبحثه عن جمالية وتناسق كتل الأجسام.. و"لوتس براند" المهندس المعماري طويل القامة صاحب  اللحية الشبيهة بلحية ليو تولستوي، وهو كذلك كان مُعجباً بأفكار وكتابات تولستوي، ، ومتعود على ركوب الدراجة النارية، والتي يوقفها خارج الحانة أحياناً ويَدخل متأبطاً قبعته الواقية، غالبا يبقى لفترة قصيرة معنا دون أن يتناول المشروبات الكحولية، وكان لوتس بارعاً في الرسم على الواجهات الضخمة للمباني وفي الجوانب التي لا تحتوي على نوافذ.. ومُصممة السيراميك "كريستا باوخ" ذات الأربعين عاماً، وهي كما حدثتني مرة كانت صديقة لأحد الرسامين العراقيين، والذي كان مقيماً في ألمانيا كلاجئ سياسي فيما مضى، ثم رجع إلى العراق، وبعدها إلى المغرب ليموت فيها، كانت تتذكره باستمرار وتسأل عن أخباره.. وكانت "كريستا" تكتب الشعر وتعرضه عليّ لأقوم بنقده، وكانت متأثرة بالشاعرة الألمانية اليهودية "إلزا لاسكير شولير".

وذاك "ماتياس" الصحافي، والذي كان يبكي أحياناً، عندما يتجرّع كميات كبيرة من المشروبات الروحية، ويقف ليقبّلني، مكرراً عبارات انفعالية، بأنّه لا يرى فارقاً بين البشر، وأنّ الناس سواسية، وأنّ عليّ ألا أعتقد بأنّ الألمان كلّهم سيئون، وأنّه لا يكره الأجانب بتاتاً، ولكنه في صحوة يكون شديد الملاحظة، يدرس حركات كل الزبائن الداخلين إلى الحانة، ويُحلّل حركاتهم، ويُعطيني انطباعاته عنهم، وكنتُ أعتقدُ بأنّه كان مُتحرّر قد خَبِرَ الحياة بشكلٍ مُعمّق.لقد كان كاثوليكيا ملتزما ويعتقد إن الإنسان ، يجب أن يعتنق عقيدة ما، أيا  ما تكون هذه العقيدة،من اجل استقراره النفسي وتوازنه العاطفي، وإلا فأنه سيكون هشا أمام مفاجئات الحياة  .

شخصيات هذه الطاولة والذين ربطتني معهم أُلفة توطّدت مع الأيام، وكما ترون هم متنوعي الثقافات والأمزجة والميول. كنتُ أجدُ في هذا التنوع مدرسة متكاملة تعلّمتُ منها الكثير عن مزاج الإنسان الألماني و حياته الاجتماعية، وتأثره بإرثه التاريخي  والحضاري .

وأما "هانس" ذاك الثور الضخم، فكان عندما يراني جالساً إلى جانب ريتا وهي تتحدث إليّ بودٍ وأُلفة، كنتُ أشعرُ بغيرته عليها،  من خلال الكلمات  التي يوجّهها إليّ واصفا إياي بأني آتٍ من بلدٍ مُتخلّف.. لكنّ ريتا كانت تزيد في مجاملتي والتعاطف معي.. ولا أدري إن كانت تُريد أن تُشعل لديه الغيرة عليها، أو أنها كانت تريد أن تغيظه حقاً.. لقد سبق وأن دعتني ريتا ولعدة مرات، لأن أزورها في شقتها، مُدّعية بأنّنا نستطيع أن نتحدث بهدوء، وبعيداً عن صخب هذه الحانة، وأبدت رغبتها في الاستماع والتحدّث عن الحضارات القديمة لوادي الرافدين.. وكنتُ دائماً أعتذر، مؤجلاً هذه الزيارة، وذلك لانشغالي في الدراسة، وتقديم مشروع التخرّج... وبصراحة كانت ريتا من أجمل النساء اللواتي يُغرين الرجال، والذين يتهافتون عليها مثل الفراشات الحائمة حول المصباح.. ولكنها كانت تكبرني بسبع سنوات.. ومن المبادئ التي تربيت عليها بأن لا أُقيم علاقات عاطفية في مكان عملي أو دراستي ولا في المكان المحيط بسكناي، هذا هو ما كان يُلجم شهوتي نحوها.

حدث مرّة أن دخلتُ إلى الحانة في الساعة الحادية عشر مساءً ولم يكن لديّ في تلك الليلة وقتاً كافياً.. حاولتُ أن أمرّ مروراً سريعاً وكأنّ عليّ واجباً يجب أن أؤديه بحضوري للحانة، حيث أصبحت هذه العادة من الطقوس الهامة في حياتي اليومية، شاهدتُ الطاولة فارغة، لا أدري إن كان روّاد هذا (الشتام تِش) قد جاءوا مبكراً وغادروا، أو أنّهم لم يحضروا على الإطلاق.. جلستُ وحدي علي كرسييّ المُفضّل، لمحتني ريتا من خلف كاونتر البار، فأسرعت إليّ، لتجلس معي.. شاهدتُ في عينيها شوقٌ غير مسبوق.. ولتفاجئني بأنّها خطّطت لاستضافتي يوم الأحد القادم لتناول الغداء لديها في شقتها.. وأعادت عليّ نفس الجُمل، وبأنّها تريدني أن أُحدّثها عن بلدي وحضاراته القديمة.. وأضافت أنّها ستزعل عليّ، إن لم أقبل دعوتها.. وفي ذروة تفاعلها العاطفي معي.. فاجأها هانس قادماً وبدون موعد مُسبق، وبعد أن ألقى التحيّة المستعجلة بجفاء، طلب من ريتا أن يتحدّث معها على انفراد، قامت من الطاولة منزعجة، وبادي عليها الذهول.. وقف الاثنان في الزاوية القريبة من الطاولة، حاولتُ ألا أعير لذلك اهتماماً، لأنني على عجل وأريد أن أعود لمواصلة عملي في شقتي.. ولكنّ التراشق بالكلمات وصل بعضه إلى أذني، حيث سمعتُ ريتا تنهره وتقول له اذهب إلى زوجتك ولا تعد إليّ بتاتاً.. لم أفهم شيء مما جرى، ولكنني لأول مرّة أعرف أنّ هانس كان متزوجاً. ً عادت ريتا إلى الطاولة ويبدو عليها بأنّها تخلّصت من حملٍ ثقيل، من خلال تنهداتها العميقة وزفيرها المسموع والهواء الدافئ يخرج محتبساً من صدرها.

ما كان من هانس إلا أن يعود ليقف أمام الطاولة، ويزعق بوجهها.. "لتبقِ مع هذا المُتخلّف من رُعاة الجمال في الصحراء.. فهو قد يُفيدكِ أكثر منّي..."، ولم يكتفِ بذلك، وإنما بصق بوجهي، وخرج مُسرعاً من الحانة.

شعرتُ بغضبٍ شديد مصحوب بحُمّى وشبه غثيان، وأصبحتُ مُخدّراً وأتصرّف بلا شعور، نهضتُ من الكُرسي وجريتُ خلف هانس الذي يزيد عنّي وزناً بثلاثين كيلوغرام وطوله أكثر منّي بـ10 سنتمترات، وكان قد أصبح خارج الحانة. حاولت ريتا أن تمنعني من اللحاق به، ولكنّي أصبحتُ كالثور الهائج، أُريدُ أن أنتقمَ بأيّ شكلٍ من الأشكال، عندما فتحتُ الباب الزجاجي المروحي، وناديتُ هانس بكل غضبي: (تعال يا خنزير.. سأُريك من أنت..) شاهدتهُ يعود مُسرعاً، وكأنّه كان يبحث بشغف عن هذه المنازلة، ولا أُخفيكم بأنّي استدعيتُ مساعدة الله والأنبياء والصالحين الذين حضرتني أسمائهم في تلك اللحظة ورجوتهم بألا أكون مُهاناً أمام الحاضرين.. وكان كلّ همّي أن استدرج هانس للدخول إلى الحانة، لكي أنتقم أمام زبائنها منه، ولم تكن لديّ خطّة لهذه المعركة.. كنتُ أعتبرُ المنازلة هذه هي لُعبة قاتل أو مقتول.. وفجأة عندما أصبح هانس قريباً من الدخول إلى الحانة أغلقتُ الباب الزجاجي الثقيل ثم فتحتهُ بقوة وبسرعة مهولة لأصدمهُ بوجهه، كنتُ أتصوّر بأنّ الزجاج الذي سُمكهُ سنتمتراً واحداً سيتكسّر من شدة الضربة التي سمعتُ صوتها وأنا من الجانب الآخر من الباب، فشاهدتهُ يسقط خلف الزجاج.. انتظرتُ حتى قام بصعوبة منتصباً، كرّرتُ ضربه بالباب المروحي.. هذه المرة بشكلٍ أقوى، سقط هانس بلا حراك، وخرجتُ بسرعة لأركله بوجهه ركلات حاقدة ووحشية، ولتسيل الدماء من أنفه ومن أماكن أخرى من وجهه.. خرج بعض الرجال من الحانة ليساعدوه على النهوض.. وكنتُ أنتظر الاستمرار في المنازلة وإدخاله إلى داخل الحانة من أجل أن يراه الحاضرون، وبذلك أشفي غليلي، لكنّه كان مُهاناً وفضّل الذهاب إلى بيته وبدون رجعة.

ريتا المتوازنة المتماسكة في كل تصرفاتها.. شاهدتُ عينيها تغرورق بالدموع وتُقبّلني من كلتا خديّ وهي حائرة بترتيب جملها وكلماتها مُعتذرة أمامي للإساءة التي تعرّضتُ لها.. ولأول مرّة أسمعها تُناديني باسمي الأول، على غير عادة الألمان بمناداة الأشخاص غير المُقرّبين باسم الجد أو اللقب، لم أستطع سوى أن أواسيها وأقول لها: "لا ذنب لكِ في ذلك".. وفجأة الفرحُ  يشع في عينيها، وتطلب من النادل أن يُوزّع المشروبات مجاناً على الزبائن.. وتطلب منهم أن يُغنّوا ويهزجوا، وينسوا ما حدث، و راحوا ينشدون أهازيج وأغاني ألمانية تراثية يحفظونها عن ظهر قلب،  ومنها أغنية تقول: "لابد من عودتي يا حبيبتي إلى مدينتي (موس إيش دَنْ موس إيش دَنْ تسوم شتيته ليهناوس) لا أستطيع أن أبقى دائماً.. ورغم فرحتي بوجودك معي .

في تلك الساعة خضعتُ لرغبات ريتا، ووجدتُ نفسي متعاطفاً معها ومُنجذباً إليها.. كنتُ أشعر بأنّها خائفة ولا تريد أن تكون لوحدها.

انتظرتُ معها حتى يغادر آخر الزبائن الحانة، فأقفلنا أبوابها.. وتأبطتُ ذراعها الأيسر، وأدخلت يدها اليسرى في جيب معطفي، ورغم البرد القارس والجليد الذي نزل على برلين في تلك الليلة، كُنّا نشعر بدفءٍ متبادل، كنتُ أُحسّ بها وهي تُمسك بكفّي بحرارة وقوة، وكأنها تخاف أن أهرب منها، وهكذا وصلنا إلى المبنى الذي تسكن فيه.

كانت شقتها التي تقع في الطابق الثاني تحتوي على أنتيكات تعكس لمسات الحداثة في تأثيثها، واحتوت غرفة المعيشة على بار صغير به كل أنواع المشروبات الروحية، وحتى تلك النوعيات التي لم تكن معروضة في الأسواق المحلية لبرلين.. كانت شقتها وثيرة وتنم عن ذوقٍ رفيع .

وفي غمرة انفعالها راحت تصف لي  شعورها بالمرارة من آلام دفينة اختزنتها لفترة طويلة.. حاولتُ أن أنسيها كل همومها مع هانس وأُشعرها بدفء وادي الرافدين.. وبعذوبة مياه نهريه، حيث قالت لي "ريتا" عند الصباح: "هذه ليلةٌ ليست ككل الليالي.. لكنّنا لابدّ لنا أن نتحدّث عن تاريخ العراق وحضاراته القديمة في مرةٍ أخرى .

 

د.هاشم عبود الموسوي

 

في المثقف اليوم