شهادات ومذكرات

ياس الشمخاوي: موفق ساوا عطاءٌ ثرّ في بلادِ المهجر

yaas alshmkawiعُثِرَ في يومٍ ما على لوحٍ عند مقبرةٍ أثريّةٍ وقد كُتِبَ عليهِ العبارة التاليةِ ؛

أيّها الواقف على قبري، إعلمْ أنني كنتُ كما أنت الآن، فأفعلْ شيئا لنفسك وللآخرين قبل أنْ تتبعني .

لا إغراق إنْ قلت، أنّ أحمد شوقي أفضلُ من صنّف قيمة الإنسان الحقيقية شعرا ؛

الناسُ صنفانِ موتى في حياتهم ... وآخرون ببطن الأرضِ أحياءُ .

ولو قلت لي ما حجم رسالتك وما نوعها في الحياة سيسهل عليّ أن أجد وزنك الحقيقي بين معايير المنطق السليم بعيدا عن المتلذذين بصناعة الوهم والزيف الذي سطا بسفسطتهِ على عقول السُّوقة فخطر ببالهم إنّ الباب الذي خرج منه تراجان هو ذاته الباب الذي طرقهُ أوغسطين .

ولعل هذا اللون من الفكر هو نفسه الذي يسبّحُ بحمدِ معاوية ويتبرّكُ بشتم عليّ ويُنبذُ أبا ذر، طالما الشوكُ يُدمي الوردَ والوضيعُ باقٍ والقدّيسُ لم يلبث مشرّدا .

ولكن، هل تستقيم تلك المعادلة العرجاء دائما، وهل فعلا مات عليا فذوى صوتُ أبي ذر، أم ملأ الدنيا والرَّبذة عبقا فأستمر !؟

وقس على ذلك الذين تركوا ديارهم وهجروها خوفا من طغاتهم أو الذين هربوا من جرائم داعش وتفاهة معتقداتهم .

طاقات إبتزّها الجاهلون في أوطانها فأبهرت العقولَ من منفاها .

كثيرةٌ هي الأسماء التي يجب أن نفخر بها، والدكتور موفق ساوا كان واحدا من تلك الرموز الثقافية والعناوين الفنية التي إقتحمت دائرة الضوء بثقة وثبات وعزيمة قلّ نظيرها .

 عرفناهُ شاعرا، مسرحيا، سينمائيا، وأنسانا عذبا.

نظم النصوص الشعرية باللغة السريانية فصدحت بها حناجر المغنين.

وِلِدَ والأبداع توأمان معا، من حاضرةِ الموصِلِ إذ نبتَ الشِعرُ فيها والأدب، ومن فيضها خُلِقَ المسرح وترعرع .

حدباء، ما أحدودبَ ظهرُها إلا لتُرضِعَ المجد فتاها، غيداء منحها موفقٌ وردا بلون شفتيها فأعطتهُ ربيعين بطعم دُنياها .

لا غرو إنّ الأجواء صقلت مواهبه، لكن المَلكة منذ الصبا حتما رافقتهُ.

لأجل امثاله قال أبن كلثوم شعرا ينادينا ولا لغير أقرانهِ يُنظم الفخر بنادينا .

إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ ... تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا .

قد لا يحتاج دكتور موفق لإطرائنا بقدر ما نحن بحاجة لذلك اعترافا منّا بما حققه من مجدٍ وسؤددٍ لنا ولأصدقائهِ وأبناء جلدتهِ .

تنفسنا عبق مودتهِ بقصائد العشق للوطن .. لبغداد وضوع حدائقها وللفيحاء ونخيل بصرتها .

(أرسمُ لحبيبي حُلما، وأفرشُ الطرقات زهورا وسلاما) .

شاطرناه أوجاعه وأحلامه بعراقٍ خالٍ من الأحزان وصور الموت وشعارات التفرقة .

(هاتِ فرشاتك يأبن الأنسان ..هاتِ وأرسم لي وطنا لا يُشبهُ وطني الآن) .

ثوّرَ أديبنا الكلمة والنصوص بوجه الخرافات وخفافيش الظلام التي أبعدت الناسكين قسرا عن أحضان الوطن، فشبّه غربة الأهل بالرحيل الى الموت . 

الربيع على الابواب مشنوق .. والخريف الاسود جاثمٌ في الازقة

وفي العمارات وفي الدور ... خفافيش الليل تعانق الزهور،

تستنشق انفاسي ورائحة العطور ....

في الطرقات العابرة ... نهرب من محطة الى اخرى،

والوطن يبحث فينا عن قميص يشبه قناديل الراحلين قسرا .

ولن يوقف نباحُ الكلابِ قافلةَ الإبداعِ لموفق ساوا ولا صليل سيوف المتوحشين وضجيج العربات المفخخة، ولا حتى ظروف القهر والغربة .

لوى أعنّة المسرح الجامح بالتهريج فعاد به الى خشبة الأصالة وأساطين الفن حيث الزمن الجميل لسامي عبد الحميد والراحل يوسف العاني ومدرسة حقي الشبلي .

أستهدف بمسرحيته الكوميدية الرائعة (انتبهوا القطار قادم) قوى الظلال وديدانهم التي تنخر بجسد الوحدة الوطنية فسخر منهم بفكره المتحرر وشمس تطلعاته الكونية، منطلقا من هُويتهِ الإنسانية التي قفزت على كل الحدود الضيقة .

وبيت القصيد في أنتمائهِ الوطني وعشقه الأزلي للتراث كان حاضرا في روحهِ شعرا ومسرحا وسينما .

وقد سما فتجلّى فأبدع من خلال فلمه (NOT FOR SALE) من إخراج وسيناريو الى كتابة القصة، بمجهوداتٍ فردية وعقلية عراقية معهودة بالتميّز والإبداع، مما أجبر النقاد ولجان التحكيم في المهجر أن تمنحه خمسة جوائز قيّمة .

فأضاف لتألقه النخبويّ وسجله الإبداعيّ في مجال الصحافة والأعلام والأدب وساما آخرا يحتفي به العراقيون والعرب .

ويبدو أن قطار أشواقهِ للحرية والتحرّر لن يتوقف عند أصدار صحيفتهِ العراقيّة في سدني، بل أتوّقع منهُ المزيد، وأنّي لواثقٌ من ذلك، هنا أو في بلاد المهجر، سيبقى عطاء ثر .

 

ياس خضير الشمخاوي

 

في المثقف اليوم