شهادات ومذكرات

الأديب عبد الغني الخليلي والحضور المتجدد

khalidjawad shbaylالكتابة عن الراحلين من الأصدقاء أحسبها مهمةً غيرَ هيّنة، فالحديث عنهم أصبح من الماضي، وكلّما ابتعد الماضي تُصبح المهمة أكثرَ صعوبة، فلئن تقلصت مساحتهم في الذاكرة بفعل جريان الزمن فإن ذكرهم يتجدد في الوجدان..

 كما أجد أن الخوض في التفاصيل قد يجعل الكاتب مُبرزاً ذاته على حساب الراحلين أنفسهم حتى وإن كان الأمرُ عفوَ خاطر لا غير.

وثالثاً أن حدود الكتابة يصعب تأطيرها وقد يؤدي المساق بما لايرضي الراحل حين أودع ما لديه للكاتب بما يدخل دائرة الأسرار وحينئذ يكون الاعتراض ضرباً من المستحيل!

***

 إن أنسَ لا أنسَ أصيل ذلك اليوم الخريفي من عام 1965، حين خرجت من كلية التربية حيث أدرس متجها الى شارع المتنبي، قاطعا المسافة مشياً على القدمين، حيث اعتدت على ذلك كلما فاض في الجيب بعضُ الدراهم لأشتريَ بعض الكتب بما يتيسر لطالب جامعي..

دلفتُ إلى مكتبة البيان المصاقبة لمطعم تاجران الشهير، فاستقبلني رجلٌ بشوشُ الوجه أسمرُه ذو عينين ملونتين أنيق الهندام ... فانتقيت ثلاثة ( أحدها عن ناظم حكمت لأحمد سليمان الأحمد، والثاني عن فابتزاروف شاعر بلغاريا الشهيد للبياتي، والثالث فاتني عنوانه)، فاستلمها الرجل مني وقرأ عنواناتها التقدمية وعبّر عن ابتهاجه: الله الله خليها مولانا على حسابي؛ فشكرته معتذراً؛ ودفعت ثمنها البخس دراهم معدودات!

دخل روعي أن هذا الرجل اللطيف هو صاحب المكتبة الأستاذ علي الخاقاني مؤلف موسوعة شعراء الغري، ومحقق بابليات الشاعر محمد علي اليعقوبي، وكان قد طبع ونشر كتابه عن الشاعرة فدعة علي آل صويح الذي بقي مرجعاً هاماً وفريداً عن خنساء العصر!

وفي عام 1968 نشرت جريدة التآخي قصيدة " أبا الفرسان" للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري مهداة: "إلى أخي الأستاذ عبد الغني الخليلي" وأحسبها المرة الاولى التي سمعت باسمه بعد أن عرفت القاص جعفر الخليلي (ت 1985) بفضل ما توفر لنا من أعداد مجلته " الهاتف" الشهيرة والتي يحمل اسمها شارع هام في النجف حيث كان مقرها قبل أن تنتقل إلى بغداد..

***

في عام 1985 عرفت أن الأستاذ عبد الغني الخليلي في السويد، وذات مرة حيث كنت في مركز المدينة ستوكهولم التقيت به مع بعض من الأصدقاء المشتركين، وكم كانت المفاجأة مبهرة حين التقيت من أخالُه علي الخاقاني وإذا هو الأستاذ عبد الغني الخليلي فامتدت بيننا أواصر الصداقة، وذكر لي علاقته بالوالد وبمعرفته الوطيدة بذلك الرعيل الأول من الشيوعيين النجفيين..

وحين ذكرت له عند لقاءاتنا المتكررة، عن اللقاء الأول به في مكتبة البيان، فرح أشد الفرح وكان يستحثني أن أذكر هذا أمام الأصدقاء الآخرين وأشكل ذمتي في أن أكتب عن هذا اللقاء!

ولد الأستاذ عبد الغني الخليلي في النجف عام 1920 ونشأ في أسرة عريقة امتهن جدها الأكبر حرفة الطب وظلت هذه المهنة تورَث كابراً عن كابر لآل الخليلي.. ناهيك عن الدور العلمي للعائلة التي شيدت مدرسة الخليلي – خلف جامع الطوسي في محلة المشراق- التي خرّجت أجيالاً من الفقهاء والشعراء ! ولا يمكن الكلام عن ثورة النجف (1919) دون ذكر الدور المحوري لعمِّه المناضل الكبير الشاعرعباس الخليلي الناجي الوحيد من المحكومين بالإعدام الذي فرّ الى إيران وقضى هناك غريبا! ( راجع: ثورة النجف لعبد الرزاق الحسني، ومذكرات الشيخ محمد رضا الشبيبي عن ثورة النجف، نشرت فصول منها في الثقافة الجديدة في السبعينات).

في هذه الأجواء نشأ الفتى عبد الغني الخليلي، وشبّ عن الطوق مُحبّا للأدب وولع بالشعر وراح يحفظ عيون الشعر العربي، تشفع له حافظة قوية، نمت وتدربت منذ التحاقه بالمدرسة الابتدائية التي حُرِم منها ليُعين والده البزّاز الذي انتكست تجارته.. واشتغل عامل مطبعة، التي أحب العمل فيها وراح يلتهم ما يخرج منها من كتب! ووجد نفسه محروماً من اللعب مع أترابه الأطفال الذين يلعبون ويمرحون!

ظلّ عبد الغني يروي حادثة أثرت به وهو طفل، حدث أن عثر في سطح الدار على نَسْر صغير مَهيضِ الْجناح، فعمل له كوخاً من الورق المُقوّى وأطعمه قطعةَ لحم وسقاه ماء، وأصبح يخرج كل يوم قبل أن يلتحق بعمله ليجلب له قطعة لحم من سوق القصابين.. وهكذا أبلّ النَّسر من وهنٍ وتعافى، وانعقدت صداقة بينه وبين النسر، حتى أذا جاءه بعد أسابيع قليلة ذات صباح كعادته بقطعة اللحم المعهودة، تناولها النسر وبسط جناحيه ومدّ عنقه وخفق بهما وحلّق بعيداً بعيدا!!

لقد اختلطت المشاعر وهو ينظر بفرح للطائر الذي استعاد حريته جذلاً، وبين حزنٍ لفراق صديق.. ظلّ الخليلي يروي هذه الحادثة وفي كل مرة تترقرق دمعة، فأقول له: إنه الفرح الحزين يا أبا فارس، فيردَ: أحسنتَ احسنت!

***

كان الطفل عبد الغني صغيراً بين الكبار، فتراه ما أن ينتهي من عمله في المطبعة، حتي يذهب إلى مدرسة الخليلي يحضر حلقات الدرس وينصت إلى الكبار في مناقشاتهم وحواراتهم، ثم ينتقل الى حلقات مسجد الهندي، وكان حريصاً أن يحضر مزادات الكتب في الجُمَع، وقد يشتري بما ادّخر بعض الكتب، وهكذا اختزنت ذاكرته الكثير من أسماء الناس ووجوههم؛ خبرهم وخبروه وأحبهم وأحبوه لذكائه وأدبه الجم، وحافظته المدهشة، اختزن فيها الكثير من ديوان العرب، والشعراء وخصائصهم الشعرية، وصادق واستمع إلى بعض من شعراء النجف ممن يقاربونه عمراً أو يكبرونه، وهكذاعرف مصطفى جمال الدين، ومحمد مهدي الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم وإبراهيم الوائلي ومحمود الحبوبي وعلي الشرقي وعلي البازي ومحمد علي اليعقوبي وصالح الجعفري و عبد الرزاق محيي الدين وباقر الشبيبي وآخرين،، حيث كان يحرص على حضور منتديات الرابطة الأدبية، وكان ينظر إلى الشعراء أنهم أناس من طراز خاص، للإجلال الذي يحظون به في مدينة الشعر، وكم منّى نفسه أن يُصبح واحداً من جمهرتهم...

وللخليلي ذكريات يرويها مع أدباء النجف ومنهم مهدي المخزومي وإبراهيم الوائلي وكذلك مع الأدباء الوافدين من لبنان من أمثال حسين مروة ومحمد شرارة ومحمد حسن الصوري وكانوا يومذاك شيوخاً يطلبون العلم في مدارس النجف الدينية ومنها مدرسة الخليلي. يروي أنه رأى الشيخ حسين مروة يحمل طفلأً ملفوفا برداء وخلفه مجموعة من المشيعين متجهين الى مقبرة وادي السلام، وكان الشيخ مروة يكبِّر ويصيح: قتله الفقر.. قتله الفقر!

لقد كان لعمه الأستاذ جعفر الخليلي، رائد القصة العراقية تأثير كبير، وكان قريباً منه في تحريره لمجلة الهاتف، واشتغل معه وكان غني يومئذ يعتمر العقال شأنه شأن المخزومي وكان يساعد عمَّه في جمع الاشتراكات أو الإعلانات، وبهذا استطاع أن يجوب العراق من شماله إلى جنوبه لهذه المَهمة وأن يفهم واقع البلد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. وجعله ينحاز الى اليسار متعاطفاً مع الكادحين والفلاحين الفقراء.

وحيث عرف بأنني عشت طفولتي في الصويرة، روى لي كيف زارها في نهاية الثلاثينات (أو بداية الأربعينات)، وأشاد بسائق السيارة المعروف مصطفى ترك، وعندما سأله عن فندق، أوصله إلى بيت الوجيه داوود الجيجان الذي أحسن وفادته، وبقي الخليلي يذكر الصويرة وأهلها الطيبين الذين اشتركوا بالمجلة والذين زادوا على ذلك بدعمها!

***

 انتقل الأستاذ عبد الغني الخليلي الى بغداد وعُيِّن موظفاً في أحد البنوك الخاصة في بداية الخمسينات بفضل الوجيه عباس كاشف الغطاء، الذي ظل الخليلي يذكر له فضله ويذكره دون كلل بالخير والعرفان بالجميل، وفي بغداد بدأ حياته الجديدة ( أفندياً) أي يلبس الملابس الأوربية؛ وبذلك أصبح قريبا من عمه الأديب جعفر الخليلي الذي سبقه إليها حيث تصدر مجلته، ومن خلاله تعرف على المنتديات الأدبية في بغداد وروادها الكبار من أمثال: أحمد حامد الصراف وعباس العزاوي المحامي وعبود الشالجي و عبد الحميد العلوجي والدكتور مصطفى جواد وفؤاد عباس وسالم الآلوسي وعبد الرزاق محيي الدين والدكتور مهدي المخزومي والدكتور علي جواد الطاهروالأخوين الساعاتي ناجي جواد وفخري جواد حيث سيصاهر الأخير بالزواج من إحدى كريماته (أم فارس) عام 1957....

بيد أنه ارتبط بعلاقة قوية بالشاعر محمد مهدي الجواهري الذي أصدر عدة صحف في بغداد وأشهرها طرّاً "الرأي العام".. وقد وقف إلى جانب الجواهري في كل المشاكل التي واجهته وما أكثرها!.. وكان الاستاذ عبد الغني الخليلي حافظاً جُلَّ شعر الجواهري عارفا بقصائده ومناسباتها واين ومتى نُشرت! وكان يُعتبر بحق راوية شعر الجواهري. وظل وفيّا له حافظاً الود ومن ذا الذي يتحمل الجواهري ومزاجه المتقلب الناري غير أبي فارس!!

وحين غادر الجواهري مكرها في بداية الستينات واستقر في براغ التي دعا لها بطول العمر لأنها أطالت الشوط في عُمره، كتب إلى صديقه الخليلي طالباً منه أن يُرسل له مجاميع الشعراء " من امرىء القيس حتى السيّاب .." وقد نفذً له طلبه وأرسل له ما أراد! وقد ردّ الجواهري جميل الصداقة بقصيدته التي أهداها للأستاذ عبد الغني الخليلي ومنها:

أبا الفرسان إنك في ضميري – وذاك أعزّ دارٍ للحبيبِ

وبي شوق إليك يهزّ قلبي -  ويعصُره فيخفق بالوجيبِ

وذكرُك في فمي نغمٌ مصفّى – يُرتَّلُ في الشروقِ وفي الغروب

سلامُ الله يعبق بالطيوبِ – على ربعٍ تحلُّ به خصيبِ

وكانت المناكدات بينهما لا تكاد تنتهي ولا تُفسد للودِّ قضيّة ولطالما كان السبب فيها الجواهري؛ وسأذكر اثنتين من العيار الخفيف تاركاً الثقيل:

كان الأستاذ عبد الغني الخليلي بصحبة الجواهري يتمشيان في شارع الرشيد، واذا بمجموعة من الموظفات زميلات الخليلي في مصرف الرافدين يبادرن بالسلام عليه بحرارة نظراً لشعبيته ودماثة خلقه، وعندما ذهبن والجواهري كان ينتظر، بادر الخليلي بغضب قائلاً: تبقى غني لئيم ماتصيرلك جارة، شيصير لو قدمتهن إليّ وكلتلهن هذا شاعر العرب الأكبر الجواهري؟!

وذات مرة اتصل الجواهري بالخليلي قائلاً: غني آني وحدي، الأهل سافروا للنجف، تعال انتظرك على الغدا، وعندما وصل وجد الجواهري متدثراً قائلاً: الأكل بالمطبخ آني تغديت؛ فذهب الخليلي ووجد قدر سبزي (سبانغ) فثرد به قليلاً من الخبز وقليلا من الأرز وراح يحمي الطعام على الصوبه (المدفأة) ثم أضاف بيضتين فضاعت روائح السبزي النجفي المشهور بعبقه فنهض الجواهري من الفراش وصاح: لقد ايقظتني الروائح من نومي لقد كانت جدتي تعمل هذه الطريقة! وجلس يأكل أكل صائم منافساً الخليلي !!

***

ما عرفت شخصاً وفيا لأصدقائه كما الفقيد الأستاذ عبد الغني الخليلي، ولأجل ذلك كانت سلواه في غربته السويدية هو كتابة الرسائل وكانت لحظة سعادته هو انتظار ساعي البريد في الواحدة بعد الظهر وما يحمل من رسائل الأصدقاء الكثر فيرقص لها الخليلي طرباً..كانت رسائل أبي فارس من أجمل الرسائل صدقاً وعاطفة وأسلوباً أنيقاً راقياً يعكس شخصيته ولطالما يضمنها أبياتاً شعريه من مخزون ذاكرته العامرة..

كان يفرح عندما يُهدَى كتاباً وكان هو الآخر يُهدِي أصدقاءه كتباً وما زلت أحتفظ بكتاب الديارات للشابشتي بتحقيق كوركيس عوّاد وقد خطّ أهداءه الجميل بقلم حبر عريض الذي اعتاد استعماله ولم يبدله قط!

كان أبو فارس حلوَ الحديث جميل العبارة صادق العاطفة يذكر الأصدقاء بخير ولم أسمعه قط مغتاباً أحداً..كان سريع البديهة حاضر النكتة محبا وعاشقاً متيماً ببغداد والنجف، يذكرهما ويذكر طقوسه اليوميه حين يتمشى فجراً على شاطىء دجلة وكان يقول: إن الفجر في بغداد أخضر ولا يشبهه فجرٌ آخر قط!

لقد رحل الأديب الأريب أبو فارس وخلّف ثروة من الأدب والخلق الرفيعين.

 

خالد جواد شبيل

ستوكهولم في 31 آب/أغسطس 2016

 

 

في المثقف اليوم