شهادات ومذكرات

مكابدة ثقافية (1)

ali mohamadalyousifبعد مرور حوالي ربع قرن، امضيتها في نشر مئات من المقالات في السياسة والثقافة عموما، من كل خمس مقالات مسروقة لي، ترى النور واحدة وتنشر على فترات زمنية متباعدة جداً. تمكنت من تأليف اكثر من مخطوطة كتاب واحد، كلها بقيت مركونة بالظل والحفظ عقودا من الزمن، حاولت جاهدا ومنذ سبعينيات القرن العشرين نشر احدى تلك المخطوطات على صفحات جريدة محلية نصف شهرية ولا حتى مقروءة على شكل حلقات متسلسلة فلم افلح، وكذا الحال مع اكثر من صحيفة بغدادية. ولم يعد ينشر لي سطرا واحدا مما اكتبه لافي صحيفة ولا في مجلة منذ العام 1990. فالتزمت الصمت عملا بالرأي السديد، يكون الصمت احيانا ابلغ من الكلمات والكتابة، وفي ثانية يكون الصمت سيد الاخلاق، وفي ثالثة واهم يكون الصمت راس الحكمة في مخافة السلطة. بعد احتلال العراق نيسان 2003 تمكنت منذ الاعوام 2004-2006 من طبع اربع مخطوطات كتب لي على نفقتي الخاصة طباعة واستنساخ بنسخ محدودة وزعتها على نطاق مدينة الموصل، مكتبات الموصل، بعض الاصدقاء، وقلة قليلة من المثقفين بالموصل ممن اهديتهم كتبي وهم لا يعرفون عني شيئا، بعدها اتضح لي انهم ولأسبابهم الشخصية لايرغبون معرفة عني شيئا!؟ وارسلت (40) نسخة منوعة من كتبي الاربعة إلى مكتب الفضائية الشرقية في بغداد هدايا. الكتب التي استنسختها سارعت إلى توثيقها وعرضها على موقع الكتاب العربي الالكتروني في بيروت ولا زالت لحد الان بموجب عقد بيني وبينهم (www.arabicebook.com) وهي:

1- كتاب سيسيولوجيا الاغتراب Alienation يقع في 352 صفحة حجم متوسط بطبعة جديدة عن دار الشؤون الثقافية ببغداد عام 2010.

2- كتاب اللاتشاكل الثقافي – الحضاري يقع في 210 صفحة حجم متوسط.

3- كتاب العولمة بضوء نهاية التاريخ وبروز ظاهرة الارهاب، يقع في 112 صفحة حجم متوسط.

4- كتاب (توهج العشق واحتضار الكلمات) مجموعة نصوص شعرية غزلية.

5- في عام 2010 اتبعتها بطبعة استنساخ لمؤلفي الخامس (وجع الخريف) نصوص شعرية.

بعد يأسي من النشر لي في الموصل وبغداد طرقت باب اشقائنا الكرد في اقليم كردستان فارسلت بعضا من كتاباتي الثقافية وليس السياسية (الشوفينية) إلى صحيفة (المدى) تصدر عن دار نشر كبيرة بنفس الاسم، ولم يردني سطرا واحدا على عنواني بالانترنيت جوابا. كان يتصدر اعلى اعداد صحيفة المدى مانشيت اعلاني (اقرأ الاعمال الكاملة للشاعر الكبير ادونيس صادر عن دار المدى للطباعة والنشر) ولا نعرف كم دفعت الدار للشاعر ادونيس المقيم في باريس لاكثر من ربع قرن ومن اين التمويل بالدولار!؟ لم يعد الامر سراً.. وقد رد الجميل (ادونيس) في زيارته اقليم كردستان من دون المرور بالعاصمة بغداد في عام 2010 !؟ سؤالنا لماذا لم تختر الدار تكريم الروائي الكبير عبدالخالق الركابي قبل تكريم دولة الامارات له وانقاذه من بؤس الحالة وتردي حالته الصحية!؟ لماذا لم تحتف الدار وتطبع الاعمال الكاملة للروائي المبدع مهدي عيسى الصقر !؟ أو محمد خضير أو جليل القيسي، احمد خلف!؟ وفي مجال الشعر لشعراء عراقيين ما لاحصر له من المبدعين المستحقين.

من المكابرة والادعاء قياس ابداعات المثقفين مقارنة بما قدمه ادونيس من شعر وتنظير ادبي، ولاحاجة لتأكيد انه وبحسب شعراء ونقاد أو مفكرين عرب يعدون ادونيس شاعر وفيلسوف الشعرية العربية، واستشهادي هنا به يأتي من خلال عرضي ومناقشتي لمبدأ ثقافي – اخلاقي وخطاب يسود الثقافة العربية هو ان معايير واخلاقيات النشر المنحرفة لاسباب عدة الحقت ضررا فادحا باجيال من المبدعين العراقيين والعرب على حد سواء، اوصلت الثقافة العربية والشعرية العربية على وجه التحديد إلى ادنى مستوياتها في نمط تغييب مبدعين حقيقيين ابعدوا عن منطقة الاضواء الابداعي والساحة الثقافية ولم يفلت من هذا العدد الكبير المهمش سوى طاقات شبابية استطاعت تأكيد حضورها خارج بلداتها في الغربة.

 (2)

في العام 1972 كنت في بدايات مطالعاتي الدؤوبة لمجلة (الآداب) اللبنانية، صاحبها ورئيس تحريرها الروائي الراحل (د. سهيل ادريس) ودار الاداب للطباعة والنشر والمجلة، يكون من العبث التخريبي غير المجدي واللااخلاقي ثقافيا نكران فضلهما في احتضان شباب الثقافة والادب والفنون العربية، ليكونوا قامات سامقة في سماء الثقافة العربية على امتداد الوطن العربي، من دون استثناء ادباء أو شعراء وفناني قطر عربي واحد، ورغبّتهم وشجّعت على طبع نتاجاتهم الابداعية وقدمتهم من خلال دار الاداب نجوما عربية على الساحة الدولية الثقافية. كما ان فضل دار الاداب في ترجمة روائع الادب والثقافة والفنون والفلسفة الاجنبية إلى العربية لايقل عن تعاملها المدبئي الاخلاقي امام جبروت الانظمة العربية في ملاحقة ومصادرة حرية المثقف والاديب والفنان وحجب كتاباتهم وتصفية البعض منهم جسديا أو الموت بمرض السل في اقبية السجون.

في ذلك الوقت حاولت كتابة شيء، وكتبت مقالة ادبية حول علاقة الشعر الجديد بالجمهور المتلقي، وارسلتها إلى صحيفة الجمهورية العراقية في بغداد – الصفحة الثقافية، ومر اكثر من شهر ولم ينشرروها أو يكلفوا انفسهم الرد الجوابي لي رغم تأكيداتي المتكررة لهم. اعدت كتابتها ثانية بخط اليد وارسلتها بالبريد على عنوان مجلة الاداب، وهي شهرية كما هو معلوم وبعض من اعدادها يترجم إلى لغات اجنبية للتعرف من خلالها على الادب العربي... اليس من الغريب العجيب الذي لايمكن تصديقه ان تنشرها مجلة الاداب لي بعد ان رفضتها صحيفة يومية في بغداد!؟ الذي ادهشني ان المجلة نشرتها في عددها الشهري التالي مباشرة. (مجلة الاداب، ع11، 1972) . لازلت احتفظ بالعدد، وضحكت في حينها على هذه المفارقة، اذ كانت المادة صحفية كيف  يمكنها عبور ضوابط وشروط هيأة تحرير مجلة مثل الاداب تعتبر اهم مرفق ادبي ثقافي ليس في لبنان وحده بل في الوطن العربي باكمله. ولازلت اقر واعترف ان مجلة الاداب ليس من مهامها ورسالتها الثقافية الادبية الناضجة ان تأخذ بيد المبتدئين في الكتابة، وما اهمية وقيمة ما كتبته في بداية السبعينيات على صفحات الاداب مقارنة ومقايسة بكتابات كبار الفكر والثقافة والادب والفنون على صفحات الاداب!؟ امثال محمود امين العالم، محمد عيتاني، محمد دكروب، صبري حافظ، سامي خشية، جورج طرابيشي. ومن الشعراء نزار القباني، محمود درويش، سميح القاسم، ممدوح عدوان، فدوى طوقان، وعشرات اخرين من المفكرين والادباء والاعلام العرب.

 (3)

وفي نفس المنحى من المكابدة، اني كتبت منتصف السبعينيات من القرن الماضي ايضا دراسة تحت عنوان (مؤثرات الفكر السياسي في انبثاق حركة التجديد الشعري) في ظروف اشتد فيها الجدل طويلا حول حسم مسالة الريادة التاريخية في التجديد الشعري، والمفاضلة بين السياب والبياتي، ونازك الملائكة من جهة، ومن بعدهم بلند الحيدري، شاذل طاقة ,  صلاح عبدالصبور، ادونيس، احمد عبد المعطي حجازي، يوسف الصائغ، خليل حاوي.... من جهة ثانية. وذهبت بعض وجهات النظر النقدية التوثيقية لتاريخ الادب العربي في محاولات سحب الريادة التجديدية من العراق، وارجاعها إلى مصر في سبق مؤلفات علي احمد باكثير- من اصل يمني- المسرحية، وكذلك ما قام به لويس عوض في مجلته (ابولو) . اما التيار اللبناني فذهب إلى توكيد ارهاصات التجديد الشعري كانت لدى شعراء المهجر اللبنانيين والسوريين والى الدور المهم الذي لعبته حركة الترجمة الادبية والثقافية بخاصة عن الفرنسية والانجليزية في لبنان، ودور مجلة (شعر) بداية الخمسينات القرن الماضي اللبنانية في اشهر اعلامها، ادونيس، أنسي الحاج، سعيد عقل، يوسف الخال على ان هؤلاء هم رواد التجديد في الشعرية العربية  .

المهم ارسلت الدراسة المشار اليها اعلاه إلى مجلة (آفاق عربية) في بغداد، كان رئيس تحريرها يومذاك الشاعر الكبير الراحل شفيق الكمالي، ومسؤول القسم الثقافي الشاعر الراحل بلند الحيدري، بعد عودته من الاقامة في لبنان منتصف السبعينيات ولم يمض على وجوده بالعراق اكثر من سنتين حتى غادر العراق واستقر المقام به في لندن حتى وفاته. مضى على الدراسة اكثر من شهرين ولم استلم ردا، وصادف اني كنت في بغداد فذهبت إلى مبنى تحرير مجلة افاق عربية قبل انتقالها إلى مجمع في الراشدية. هناك قابلني بمزاج مرح ودماثه خلق الاديب الصحفي المتفلسف في كتاباته (حميد المطبعي) كان يعمل في المجلة ايضا. بعد ان فض شراكته مع مجلة (الكلمة) العراقية التي ارادت احياء (مسار) مجلة شعر اللبنانية، كان رئيس تحرير مجلة (الكلمة) القاص الراحل موسى كريدي والى جانبه الشاعر فاضل العزاوي، وسرعان ما التف حولها العديد من الشعراء الشباب، وتبنت المجلة تجديدا شعريا يتجاوز شعر التفعيلة ذلك هو (قصيدة النثر). كان خط مجلة الكلمة في العراق مجاوزة وعبور شعراء الستينيات، وامتدادا شعريا تجديديا لما كانت بدأته مجلة (شعر) في لبنان، لم يصدر اكثر من خمسة اعداد من مجلة الكلمة حتى تناوشتها الطعون بالشبهات والاتهامات العديدة، لعل في مقدمتها من يقف وراء المجلة، التي كانت تطبع وتصدر من النجف، ومن يتبنى تمويلها رغم بداياتها المتواضعة جدا في الطباعة ونوعية الورق، والتنسيق والاخراج وحجمها، ولم يسلم لا المحررون ولا المساهمون في المجلة من تهمة الشبهة (الاجنبية) في التمويل والتوجيه، ونعتوا الجميع بالزندقة الشعرية والمروق الهدام، في اضاعة هوية وجنس الشعر العربي ربما اكثر مما اتهم به اقطاب مجلة (شعر) في لبنان التي عرفت الادباء العرب باشعار بودلير، رامبو، اندريه بريتون، عزرا باوند، اراكون، مالارميه، فاليري...واتهام اعمدة مجلة شعر بالشعوبية والعمالة,وكذلك مجلة الكلمة     الخ.

اغلقت ابواب مجلة الكلمة وتبخرت اعدادها القليلة من السوق، لكن المفارقة الغريبة انه بعد اكثر من عقدين على وأد ودفن مجلة الكلمة في العراق، تم تأبين محمد الماغوط الشاعر السوري رائدا كبيرا في الشعرية العربية الجديدة (قصيدة النثر) ربما باكثر مما ناله بدر شاكر السياب رائد حركة التجديد الشعري العربي الاول منذ منتصف اربعينيات القرن الماضي.

بعد هذا الاستطراد اعود الى مجلة افاق:

- سألني حميد المطبعي الذي كان يعمل في مجلة آفاق عربية كما سبق واشرت، عما اريد؟

- قلت: استاذ لدي دراسة عندكم قبل اشهر لم تعلموني نتيجة نشرها!؟

- اجابني مبتسما، النتيجة ان دراستك غير صالحة للنشر، والمادة التي لاتنشر لاتعاد لاصحابها!!.

- قلت له: استاذ هذه النتيجة اسمعها منك الآن، ولم تخبروني بها كتابة،عليه فأنا اصر على استرداد مخطوطة دراستي.

- اجابني هذا مخالف لتقاليد النشر والتعامل الثقافي، ولم يسبق معنا مثل هكذا تعامل، فنحن لانعيد المساهامات غير الصالحة للنشر لاصحابها.

- قلت باصرار اكثر استاذ من فضلك اريدها الآن!؟

- عبثا حاول ثنيي عن طلبي ونهض قائلا: انتظر سابحث لك عنها واعطيك اياها ان وجدتها!! بعد اكثر من نصف ساعة عاد وبيده الدراسة (فايل) تقع الدراسة باكثر من اربعين صفحة، سلمني اياها قائلا: خذ اقرأ مطالعة الخبير المختص على الغلاف بقلم الشاعر بلند الحيدري (قلم حبر وردي غامق) : (الدراسة لا تخلو من اجتهادات ادبية ثقافية جديدة صائبة، تهم توثيق كتابة تاريخ حركة التجديد الشعري، مطلوب زيادة تكثيفها وحذف الاستطرادات الزائدة، واعادتها لنا ثانية لنشرها) .

حين وصلت البيت في الموصل، ركنت الدراسة باكملها واحتفظت لحد الان فقط بالغلاف عليه ملاحظات وتوقيع الشاعر الكبير بلند الحيدري. كانت الفرحة لاتسعني، ليس المهم نشرها بل المهم الذي اعطاها حقها.

(4)

قبل وفاة د.سهيل ادريس كتب صفحات قليلة نشرتها له مجلة (العربي) الكويتية في احد اعدادها تحت زاوية (ذكريات) يقول فيها الكاتب الروائي ادريس، في بدايات مطالعاتي وكتاباتي تأثرت برواية فرنسية انكببت على ترجمتها للعربية بشغف كبير. وارسلتها لعميد الادب العربي د.طه حسين ليطلع عليها ويثبت لي ملاحظاته وتوجيهاته. نامت مخطوطة الرواية المترجمة – الكلام لسهيل ادريس – على رفوف مكتب طه حسين، وأنستني الايام ومشاغلي في مجلة الاداب والدار متابعتها، إلى وقت اختارني اتحاد ادباء وكتاب لبنان مندوبا عنهم لأسافر إلى القاهرة وادعو باسمهم طه حسين لزيارة بيروت واقامة مناظرة ثقافية معه واحد اعضاء الاتحاد، يكون محور المناظرة وموضوعها (الالتزام في الادب).

ويكمل ادريس بعد ان قمت بواجب دعوته التي كنت مكلفا بها، تبادلنا في مكتبه بالقاهرة احاديث متبسرة عن الادب والمثقفين، وبعد ان انهيت شرب قهوتي استأذنته بالانصراف، فبادرني قائلا انتظر دقائق دكتور ادريس، وطلب سكرتيره الشخصي (فريد شحاته) قائلا له: اعط الدكتور امانته التي عندنا، مخطوطة الرواية المترجمة التي كان قد ارسلها لنا... وبعد ان استلمتها نهضت مودعا له شاكرا، منهيا كلامه معي: دكتور نحن لا نضيع جهود المثقفين ولا ننسى اتعابهم وحقوقهم. انتهت شهادة سهيل ادريس.

اين هذا المبدأ الاخلاقي – الادبي المسؤول في وقتنا الحاضر!؟

(5)

في العام 2004 اخذت مخطوطات كتبي الاربعة احدها طبعا (كتاب سيسولوجيا الاغتراب) وسافرت إلى دمشق عملا بنصيحة صديق لي نصحني ان اذهب إلى مقر اتحاد الكتاب العرب بدمشق واقابل رئيس الاتحاد علي عقلة عرسان. هناك في المقر دخلت غرفة استلام المخطوطات، سألت احد العاملين عربي غير سوري – اعتقد كان فلسطينيا – استاذي الكريم سبق لكم ان استلمتم مخطوطة كتابي (سيسولوجيا الاغتراب Alienation) بموجب وصل استلام هذا رقم 152 في 3/4/1999 واشعرتموني بكتابكم رقم 316/ص.م في 20/1/2000 – صورة الكتاب رفقة المقال – اعتذاركم عن نشره وجئت لاستلام المخطوط. اجابني بعد تدقيق الوصل والكتاب، انزل ابحث عن مخطوطة كتابك في (السرداب) مع المتروكين!! قلت له استاذي انا احمل معي حاليا نسختين أخريتين من الكتاب... خوفي ان تكون مخطوطة كتابي التي عندكم (لغفتْ) و (شفطتْ) وتركت الغرفة ولم استلم لحد الان مخطوطة كتابي الاولى منهم.

دخلت صالة علي عقلة عرسان، رئيس اتحاد الكتاب العرب, أومأ لي بالجلوس بعد ان حييته بحرارة اذ كان حاملا سماعة التلفون بتحادث بشأن ترتيب موعد سفره إلى لبنان بعد ساعتين حسب ما فهمت، عرفني عراقيا، وجاءني احدهم بشاي، اخرجت مخطوطات كتبي الاربعة، ووضعتها على حافة منضدته، كي يتصفحها أو يقرأ عنواينها ومحتوياتها، اشهد الله كأني وضعت (جذاما) امامه وليس كتبا، ولم يبارك كتابا واحدا منهم بلمسة من يده الكريمة!! وبادرني على عجل قبل ضياع وقته، نحن آسفون لا نستطيع اخذ مخطوطة أيا من كتبك هذه، علينا زخم كبير، مع ذلك كونك من العراق وقد جئت سوريا، اخابر لك (دار الفكر) للنشر والطباعة بدمشق، فهمت اثناء المكالمة انه اوصى (شوقي ابو خليل) بي خيرا. وانا اّهمّ بالانصراف واقفا حاملا مخطوطات كتبي الاربعة، والعرق يتصبب مني، ورد بذهني مالم اكن امتلك ولا تسمح لي به اللياقة الادبية والاخلاقية، وفي بلد غير بلدي، ان اسأله كم مكتبة ملأتموها بأرذل الكتب وأتفهها من مجاميع شعر وقصة ونقد ورواية وملأتم بها الغث من النتاج الثقافي الموزع على ارصفة شوارع الاقطار العربية ايضا. وعلى وفق اعتبارات وتقييمات ومعايير بعيدة جدا عن ضوابط النشر الادبي – الثقافي  السياسي المؤدلج. واهملتم الجاد الرصين على حساب تسويق منتوج المعارف والدعوات والشلل. وأي امانة ورسالة ثقافية يحملها أو يتحملها اتحاد الكتاب العرب بدمشق سواء ايام علي عقلة عرسان أو من كان قبله أو جاء بعده!؟ اتحاد كتاب دمشق معروف بمواقفه المعارضة المتعنتة على ابسط الامور في جميع المؤتمرات الدورية العربية التي يعقدها الاتحاد العام للكتاب العرب، كان ولا يزال اتحاد الكتاب السوريين منبع مزايدة واثارة خلافات وتكتلات وانشقاقات في كل دورة عربية، حتى في مجال الدفاع عن حرية المثقفين في الوطن العربي، يكون للوفد السوري ألمعية وأسبقية  في المزايدة الشعارية على من يريد توحيد الكلمة ووصل وحدة الثقافة العربية، وجميع هذه المواقف مثبتة في وقائع مؤتمرات اتحادات الادباء والكتاب  العربية العامة المليئة بالمهاترات الدائمية للوفد السوري بالضد من اتحاد ادباء وكتاب لبنان والعراق ,وعلى وجه التحديد اتحاد مصر وامثال ذلك مع اتحادات اقطار خليجية. الكثير من الكذب والنفاق والدس الرخيص مررتموه انت وامثالك المؤدلجين من الادباء والكتاب العرب المتنفذين بسطوة السياسة والمال والشهرة الكاذبة. امثال علي عقلة عرسان بالعشرات موزعين في جميع اقطار الوطن العربي ممن نصبوا وينصبون انفسهم اعلاما قيمّين على رسالة الادب والثقافة والفنون العربية، اين ضمائركم وامانتكم المهنية في التزام الكلمة الجادة النظيفة التي لم تدخروا وسيلة قذرة الا واستعملتموها في الحجر على الابداع مع اصحابه في عزلة المقاطعة والتضليل والانزواء والنسيان. ليظهر نجوم ونجمات ثقافة الارتزاق وثقافة التغريب الحداثوي، حتى وصلت حال الثقافة العربية وحتى الصحافة بما لا يسر صديق من الفساد المستشري في الاوساط الثقافية اكثر مما هو موجود من فساد حكومي أو اداري أو مالي. كم من السموم الثقافية والادب الرخيص يطبع وينشر باسم الحداثة. وهي نصوص مليئة بالتهويمات والتجريد السريالي واللغة المقعرة التي لايفقه القارئ منها سطرا. حتى وصلنا إلى ازمة مزدوجة ازمة ثقافة وازمة قارئ. اما فضاءات طلاسم القصة القصيرة والرواية لما بعد الحداثة، فهي عوالم عصية على الفهم والتلقي والاستقبال، يحتاج فيها القارئ المطاولة والصبر كي يتمكن من انهائها ويصل إلى مقاربات مدلولاتها الفلسفية العميقة! لم يبق في مجتمعاتنا العربية من مظاهر الانحطاط الا ان نرسم على اسلوبية تكعيبية بيكاسو، وتجريدية سلفادور دالي، نقيم المعارض في العواصم العربية والعالمية للتعريف بحداثتنا. في مجتمعات تتفشى فيها الامية والفقر بنسب عالية جدا، ومستوى تلقي مجتمعاتنا العربية وثقافاتها بالمحصلة الجمعية أو حتى النخبوية بالكاد تستطيع تفكيك معاني بوستر (ملصق جداري) أو معاني كاريكاتير في صحيفة!! ندرس ونجرب ونكتب عن تجارب توماس مان، فوكنر، جيمس جوبس، كافكا، والقارئ العربي لايزال في مرحلة ذرف الدموع على (عبرات) المنفلوطي.

 (6)

ذهبت إلى دار الفكر في دمشق وسألت عن الاستاذ شوقي ابو خليل الذي كان مفترضا به من باب المجاملة المهنية لغريب لا اكثر مقابلتي بعد المكالمة التلفونية معه من قبل رئيس اتحاد الكتاب العرب علي عقلة عرسان امامي، وربما كانت التوصية بعد مغادرتي غرفة رئيس الاتحاد اكثر حرارة!!. دخلت غرفة يجلس فيها شخصان موظفان، وكررت سؤالي عن الاستاذ شوقي.. اجابني احدهما غادر المكتب قبل ربع ساعة - بين وقت المكالمة وتوقيت وصولي لم يتعد عشرين دقيقة - واردف احدهما تفضل أجلس. التفت نحو خزانة خشبية إلى جانبي، وقرات عبر الزجاج اعلانا مكتوبا على قطعة من الكارتون يقول: نعتذر عن قبول طلبات طبع ونشر الكتب حتى نهاية عام 2006/ كما اسلفت انا زيارتي كانت عام 2004 وفهمت المقصود الواضح. اخرجت مخطوطات كتبي الاربع، وضعتها على جانب منضدة احدهم، وبعد ان تبادلا قراءة العناوين وتقليب بعض الصفحات بتكاسل سألني احدهما: هل حصلت على موافقة رقابة المطبوعات على طبع ونشر كتبك!؟  من وزارة الثقافة السورية؟ قلت باستغراب ساذج على طريقة عادل امام وهل اصبح عندكم انتم ايضا رقابة مطبوعات!؟ الذي اعرفه انكم مع حرية الكلمة الملتزمة كما هي الحال في لبنان اذ يوجد عشرات من دور النشر غير الحكومية تطبع وتنشر ما تشاء من غير تدخل رقابة المطبوعات الحكومية!! فمن اين جاءتكم عدوى رقابة المطبوعات من الجار الشقيق (العراق) أو بالعكس. رد عليّ احدهما: كل شيء اختلف اليوم، واغلب دور النشر في لبنان اغلقت ابوابها من الافلاس، وبعضها باع مطابعه في سوق الخردة... رددت مع نفسي بيروت مهد وطفولة وشباب وشيخوخة الكلمة الحرية والرأي الديمقراطي والمعتقد الديني المتعدد المذاهب، بيروت ضمير الثقافة العربية جرى فيها الذي اسمعه، قطع عليّ احدهما صمتي قائلا: يمكنك ان تجد في بيروت اكثر من دار نشر تطبع لك ما تشاء لكن على نفقتك الخاصة، تمويل من جيبك!! تحسست ورقة المائة دولار التي معي تكفيني للعودة إلى مدينتي الموصل سالما خائبا مع مخطوطات كتبي وهو ما حدث فعلا.

هممت بالنهوض والمغادرة، طلب احدهما مني الجلوس قائلا: بالتأكيد سمعت قبل مدة قصيرة عن معرض الكتاب العربي – الدولي الذي اقيم في بيروت بمشاركة غالبية الدول العربية، قلت قرأت الخبر في جريدة، قال دعني اعطيك مثلا عن بعض ما آلت اليه حال طباعة ونشر وعرض الكتاب من خلال حضوري هذا المعرض الاخير واضاف بكلام تشوبه المرارة: شارك الشاعر الاول في سماء النجومية الشعرية (ادونيس) بمجموعتين شعريتين هما اخر اعماله الشعرية، والشاعر مقيم في باريس منذ ما يزيد على العشرين عاما يكتب باللغة العربية، ويترجم عن الفرنسية، كما ان اعماله الشعرية ترجم بعضها في دول عديدة حاله حال عشرات من الشعراء العرب الموزعين في بقاع العالم، مع زمهرير البرد الذي لايرحم دمائهم الحارة، ولم يعد يأمنو ا شبهة التمييز العنصري وشبهة الارهاب. بعد ان اعياهم النضال والتضحية من اجل اوطانهم وتخليصها من دكتاتوريات انظمة حكم الوراثة والاستبداد – اضاف محدثي ان الشاعر النجم الكبير الاخر محمود درويش شارك هو الاخر في معرض الكتاب بمجموعة شعرية جديدة هي اخر نتاجه الشعري.

حضر الشاعران الكبيران المعرض منذ اول يوم الافتتاح يوقعان اهداءات النسخ المباعة. فهمت مؤخرا – والكلام لي. ان هذا الطقس الثقافي عادة مكتسبة بالتطبع والتقليد وليس بالانتماء الطبيعي العروبي، هي نوع من تسليع الكتاب بهدف ترسيخ نجومية المؤلف ليس الا. لذا لم استغرب الامر فمغني (فيديو كليب) أو مغنية من الدرجة السادسة في المجون الغنائي وفحش الكلام والتعري الراقص، توزع تواقيعها على آخر صيحات تسجيلاته الغنائية الهستيرية على المعجبين والمعجبات، تماما كما يفعل لاعب كرة القدم ونجوم السينما والتلفزيون، بفارق ان نجومية المبدع الشاعر أو الكاتب أو الفنان من المفروض ان تكون في اولوية التسلسل، في حين واقع الحال انه اخر السلسلة في الترتيب، واخرهم في العائد المادي لبضاعته.

-ينهي محدثي قائلا: لا اظنك لم تقرأ لهذين القامتين الشعريتين وشهرتهما النجومية عربيا وعالميا وكلاهما ترجمت بعض اعمالهما لاكثر من خمس لغات اجنبية، اشرت له بالايجاب.

- وهنا اتكأ محدثي على كرسيه مسترخيا قائلا: كم تتوقع مبيعات الشاعرين من ثلاثة مجاميع شعرية منذ اول يوم الافتتاح وحتى اخر ايام المعرض، يوم اغلاق قاعة المعرض وختم اقفالها بالشمع الاحمر إلى اشعار اخر!؟ بيع لهذين النجمين الشاعرين – والكلام له – اقل من ثلاثمائة نسخة لاغيرها. وان كنت غير مصدق فتأكد من حقيقة رقم المباع من غيري. خرجت مودعا اياهما على امل ان نلتقي على حكاية الالف كتاب والقارئ الواحد.

 

علي محمد اليوسف

 

 

في المثقف اليوم