شهادات ومذكرات

لقاء صدفة مع احمد عباس صالح

ali mohamadalyousifحين كنت في الثمانينيات من القرن الماضي اعمل خارج العراق التقيت بالسفارة العراقية بلندن الكاتب المصري (احمد عباس صالح) الذي ياتي للسفارة العراقية مرة واحدة كل نهاية شهر ليقبض راتبه الشهري بالجنيه الاسترليني من محاسب السفارة، اذ كان منسبا للعمل في المركز الثقافي العراقي بلندن، طيلة سنوات بقائي لم اقرأ له انه كتب في صحيفة بالعربية أو مجلة، أو ساهم بنشاط ثقافي، أو اية فعالية تدعم العراق سياسيا، ولم اجده شارك بحفل أو نشاط أو مظاهرة اعتصام، احتجاج نظمته السفارة العراقية...الخ

جاء احمد عباس صالح برفقة امير سكندر، محمود السعدني، فؤاد مطر واخرين من شعراء وكتاب وفناني سينما ومسرح، بعد ان ابعدهم السادات من مصر في اعقاب زيارته لاسرائيل عام 1977 وتوقيعه معاهدة صلح مع اسرائيل، كانوا من ضمن (200) مبعداً استقبلهم العراق، كما استقبل خمسة ملايين مصري يعملون في العراق بعد اندلاع الحرب مع ايران اهل بيت واشقاء (عروبة) ومصير وليس لاجئين، طبع ونشر امير سكندر في بغداد اكثر من اربعة او خمسة  كتب احدهم كرسه بعدة اجزاء لتوثيق حياة صدام حسين منذ طفولته بالقرية  وانتهاء به إلى القصر الجمهوري رئيسا للدولة العراقية، وقبض اتعابا مجزية جدا، ومثله واكثر فعل فؤاد مطر وقبض ثمن الاتعاب ايضا. اما محمود السعدني فلم ترق له الفكرة في كتابة السيرة الذاتية، وتوثيقها تاريخيا، فاكتفى محررا بالصفحة الاخيرة براتب شهري مقطوع مجز، في مجلة (الف باء) الاسبوعية حين كان رئيس تحريرها الاستاذ (حسن علوي) وكانت كتابات السعدني في الصفحة الاخيرة نازلا صاعدا يكيل الضربات واللكمات الموجعة لامين عاصمة بغداد وكلها ضربات تحت الحزام لاتسمي حقيقة الاشياء بمسمياتها. محمود السعدني قبل مغادرته للعراق والعودة إلى مصر بعد صدور عفو عنهم، راح يهاجم في كتاباته العراق واهله ونفطه وتلفزيونه لانهم بخسوه حقه ومنزلته ولم يجر التلفزيون العراقي معه مقابلة واحدة في حين فعلها مع من هم اقل شأنا ومنزلة ثقافية منه. واثارت كتابات السعدني المعيبة الصحافي المخضرم (محمد محفوظ) المقيم بلندن فتصدى له من على صفحات جريدة (العرب) التي كان يصدرها مالكها ورئيس تحريرها احمد الهوني وطلب محمد محفوظ من السعدني تذكر العيش والملح مع العراقيين ولم يطالبه بالتزام الضمير الحي، ولا شرف مهنة الصحافة.

وبعد سنوات طويلة امضاها المربع الذهبي امير سكندر، فؤاد مطر، محمود السعدني، احمد عباس صالح واخرون اقل شأنا من مصريين وغير مصريين تقدموا بطلباتهم إلى صدام حسين يريدون ثمن جزاء واتعاب نضالهم القومي المشرف، وما قدموه للعراق من تضحيات بالكلمة والحرب العراقية الايرانية في اوان اشتعالها والتهابها، فاوفدهم جميعا خارج العراق موزعين على عواصم العالم، احمد عباس، وفؤاد مطر، إلى بريطانيا، في حين اختار امير اسكندر عاصمة غير لندن فاجيب طلبه، اما محمود السعدني  فقد اثر العودة إلى مصر ام الدنيا.

احمد عباس صالح لا اتذكر من كُتبه الآن التي طبعها ووزعها من بغداد سوى كتيب صغير اقل من حجم المتوسط بعنوان (اليمين واليسار في الاسلام) حين وقع الكتيب بيدي وقراته بعد صدوره نهاية السبعينيات من القرن الماضي، لم اتمالك نفسي وانا اردد بدهشة واستغراب ان وراء هذا الكتاب اياد ونوايا خفية. الكتاب يشتغل على ضرب وتر الطائفية، وتأليب الشيعة على السنة بالذات محملا اياهم اخطاء تاريخ لم يعيشوه ولم يساهموا بصنعه. المهم ان الظنون ذهبت بي إلى ان جهة ما منحت احمد عباس صالح اتعابه على تأليف هذا الكتاب المسيء للاسلام بالدرجة الاولى ويسيء ايضا لتاريخه الحقيقي المعتدل، والاكثر من كل ذلك اساءة الكتاب بشكل لايخفى على لبيب للعراق في أوضاعه الحرجة بعيد التغيير الذي حصل في ابان سقوط نظام الشاه، ومجيء الخميني للحكم شباط 1979.

في لندن عام 1987 جلس احمد عباس صالح في غرفة الرجل العراقي المؤمن بمبادئ الرسالة الخالدة على الطريقة العراقية في السفارة، الذي استقبله بحرارة غير طبيعية، وهش وابتش للضيف الكبير، وكأنما اميرة ويلز الراحلة (دايانا) شرفته بالزيارة وليس احمد عباس صالح، حضرت القهوة على عجل، ياهلا يا استاذنا الكبير، تحادثا اكثر من نصف ساعة في كل شيء تافه لا يخطر على البال، باستثناء اوضاع العراق ومطحنة الحرب التي تأكل وتطحن بالمئات يوميا من الشباب العراقي وموارده وثرواته وانا جالس استمع واستشيط من الغيظ. ساد بعض الصمت بينهما... قلت مخاطبا احمد عباس صالح، استاذ حين كنت قبل اندلاع الحرب مع ايران، تعمل كمستشار في وزارة الثقافة العراقية قبل تنسيبك للعمل في المركز الثقافي العراقي بلندن، طبعت ونشرت عن دار الشؤون الثقافية اكثر من كتاب، لعل اكثرهم مدعاة للاهتمام والتأمل والدراسة المعمقة هو كتابك (اليمين واليسار في الاسلام) فنظر الي بغرابة وتجاهل متعمد وامتقع وجهه وهو يقرأ من كلامي ما بين السطور، اجابني باقتضاب وصوت خفيض ان كتاب (اليمين واليسار في الاسلام) ليس هو افضل كتبه وسكت. عاجلته مضيفا استاذ أتمنى ان لا يكون فاتك قراءة كتيب المفكر اللبناني محمد عتياني (القرآن بضوء التفسير المادي الجدلي) لتجد كم خدم فيه الاسلام من جهة، وكم كان عيتاني يقرأ ويتنبأ المستقبل في الحرب الاهلية اللبنانية التي اندلعت في العام 1976. محمد عيتاني، مفكر وكاتب وكتابه المشار له سابقا اصدره قبل الحرب الاهلية وله عدت مؤلفات وقد ترجم كتاب راس المال إلى العربية عام 1982.

نهض احمد عباس صالح مرتبكا مستأذنا الانصراف، كيف يخاطبه قارئ مجهول وهو العبقري الفريد زمانه اشهر من نار على علم في الانتهازية الثقافية والتكسب غير المشروع باسم الشعارات السياسية والثقافة والطامة الكبرى ان احمد عباس صالح يدعي الفكر اليساري. خرج من غرفة مضيفه مشيحا وجهه عني، واخذ يد محدثه الذي رافقه إلى باب المصعد لينزل ولم التقه بعدها ثانية.

 

في المثقف اليوم