شهادات ومذكرات

الشيخ علي الشرقي شاعر المعاناة والحب والنهوض (1-3)

jafar almuhajirكثيرا ماكنت أردد مع نفسي ذلك البيت البسيط في صياغته العميق في معناه للشاعر الكبير المرحوم الشيخ علي الشرقي وهو:

قومي رؤوس كلهم - أرأيت مزرعة البصل؟

وكلما تشتد الحرب الخفية والمعلنة بين الأطراف السياسية العراقية التي تحكم العراق اليوم جاعلة مصالحها الفردية والحزبية والعشائرية أتذكر هذا البيت الخالد لأنه يعبر خير تعبير عما يعانيه شعب العراق اليوم من هذه الرؤوس التي أخذت على عاتقها خوض المعركة مع بعضها البعض إلى النهاية وليأت من بعدها الطوفان على الوطن والمواطن ثمنا لأهوائهم .

لقد كتبت يومها مقالة عنوانها صدر هذا البيت ومن يوم كتابة تلك المقالة أحسست برغبة قوية للكتابة عن هذا الشاعر الكبير الذي يمثل شعره جزءا من تأريخ العراق. وبعد جهد بذلته في الحصول على الديوان بمساعدة أحد الأصدقاء أخذت عيناي تلتهمان كل حرف فيه وقرأته لمرات وأسفرت قراءتي للديوان عن هذا البحث المتواضع أتمنى فد أديت بعض الوفاء لهذا الشاعر الكبير الذي عشق العراق، وكتب أجمل القصائد المعبرة عن معاناة الفقراء من خلال رباعياته الرائعة التي أطلق عليها عنوان (البلبل السجين والبلبل الطليق) وهي القصائد التي تناولت حال الفلاحين البؤساء أمام فيضان الفرات الطاغي الذي أكتسح أكواخهم الطينية وأضاف معاناة أخرى إلى معاناتهم وأوقعهم في أسوأ حال.

لم يقف علي الشرقي يوما على أعتاب ملك أو رئيس أو أمير ليكيل له كلمات المدح والتعظيم مقابل المال، ورحل عن الحياة وهو لايملك من حطام الدنيا شيئا. تاركا دفقا شعريا ثرا كان كل ثروته من بعده.

هو الشيخ علي بن الشيخ جعفر بن الشيخ محمد حسن بن أحمد بن موسى بن حسن بن راشد بن نعمه بن حسين المعروف بالشرقي. ولد في النجف الاشرف عام 1892 م ونشأ فيها ودرس في جامعتها فتعلم الفقه والتشريع والفلسفة الإسلامية والمنطق والأدب العربي بما فيه النحو والصرف والبيان والعروض. وكتب الشرقي في كتابه المطبوع (الأحلام):

(حين مات والدي فترعرعت بحنان والدتي الذي إنساني خسارة حدب الوالد) وأمه شقيقة الشيخ عبد الحسين الجواهري فقد انتقلت وطفلها إلى بيت اخيها لتعيش فيه. وعاش الشرقي في كنف خاله الذي هو والد الشاعر محمد مهدي الجواهري.وكان بيته مجلسا عامرا بالأدب وعلوم الدين .

توفي الشرقي عام 1964م وخلال هذا العمر البالغ 72 عاما عانى الكثير من الفقر والحرمان بعد أن ولد يتيما ولم تتح له ظروفه المادية الصعبة الاستمرار في الدراسات العليا فكان القرآن منهله الثر الذي غرف منه ينابيع معرفته وكانت مكتبات النجف العامرة بشتى الكتب التراثية، وحوزتها العلمية وما تحتوي رفوفها من ذخائر المعرفة لكتاب وعلماء وشعراء رفدوها بغزير علمهم لاتغيب أبدا عن رغبة الشاعر الجامحة في الإطلاع عليها منذ نعومة أظفاره. خاصة إذا علمنا أنه تتلمذ على يد الشيخ محمد جواد الشبيبي والشيخ محمد كاظم الخراساني والسيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني وغيرهم من فطاحل اللغة والفقه والأدب والتراث.

إن شعر الشيخ علي الشرقي شهادة رائعة للحس الوطني والقومي الشريف الخالي من التعصب والاستعلاء والترف. وأشعاره ظلت وستظل رمزا للنضال الدؤوب ضد كل أعداء الإنسان وأمانيه وتطلعاته المشروعة في الحياة الحرة الكريمة ويكاد يكون محور شعره الرئيسي حربا لاهوادة فيها على القهر الذي يمثله حكام لاهم لهم سوى إشباع بطونهم ورغباتهم المادية وحماية الطبقة الإقطاعية الطفيلية التي كانت تعيش في ظلهم، وتمتص دماء الفلاحين، وتسرق ثمرة جهودهم المضنية التي لاتختلف عن جهود الزنج الشاقة في زمن الدولة العباسية لقاء أجر زهيد لايسد الرمق .

صدر ديوان الشاعر الذي ضم جل شعره عن وزارة الثقافة

والإعلام العراقية عام 1979م حيث أشرف الأستاذان الدكتور إبراهيم الوائلي وموسى الكرباسي على جمعه وتحقيقه وذلك بعد عناء طويل لقياه أثناء جمعهما له بعدما ظل أوراقا متناثرة في مكتبته وفي أماكن أخرى لفترة طويلة وكاد يطويها النسيان.

يقع الديوان في 462 صفحة من الحجم الكبير وقد تضمن معظم قصائده ورباعياته ومزدوجاته التي عالجت مختلف شؤون الحياة بلغة شعرية أنيقة ومؤثرة بعيدة عن الحشو والتكلف والغموض.

يقول المحققان في مقدمة الديوان:

(لم يقتصر الشرقي على الشعر فقد كان ناثرا لا نبخل عليه بأن نعده من كبار الكتاب في البلاد العربية وقد كتب في موضوعات تأريخية واجتماعية وسياسية وأدبية وكانت لغته في النثر أشبه بلغته في الشعر فقد وكلما كتب بحثا أو دراسة أو مقالة كأنه كان ينثر شعرا) .

والشاعر له عدة مؤلفات يجدها القارئ في مقدمة الديوان ولكن الذي يهمنا في هذا البحث هو شعره فقط.

إن معظم شعر الشرقي يمثل أخلاقية شاعر أصيل متمكن من أدواته الشعرية بعد تمكنه من اللغة العربية في مدارس النجف وقد وهب نفسه لتجسيد فترة مهمة من تأريخ العراق،وجند قلمه لمقارعة الظلم والظالمين وكل أنواع القهر والتخلف وحين تتفجر قريحته شعرا من أجل وطنه ينقلنا إلى عوالم وجدانية وإنسانية تنبض بحرارة الانتماء إلى تربة العراق وحضارته العريقة الضاربة في أعماق الأرض والتأريخ. وهو أينما حل يصبح هاجسه الوحيد وطنه . وكلما ابتعد عنه يشعر بالحنين الجارف له لأنه قطعة منه لايطيق العيش بدونه . وهو يشبه نفسه بالنبتة التي تستمد بقاءها من تربته الطاهرة المعطاء حيث يقول في أحدى قصائده:

هل المرء قطعة من بلاده

وما اندفعت إلا لتشعر بالجذب

وإني لأوطاني كنبت بحقلها

إذا نزعوه جف عن ناظر رطب.

وهو يتمنى أن تعيش كل شعوب الأرض في محبة وصفاء ووئام بعيدا عن التطاحن والحقد والكراهية وهذا الأمر هو أحب الأشياء إلى قلبه:

حبيب لقلبي أن أرى كل موطن

لآخر موصولا برابطة الحبٍ

وفي قصيدة أخرى يخاطب بها الوطن بأبيات تقطر عذوبة وشفافية وجمالا حيث يقول :

وطني المفدى أي سر

في هواك الطهر عالق؟

أمن الثرى هذي الدمى

ومن الورى هذي الغرانق؟

ومن التراب وما التراب

خلقت أوراق الحدائق؟

لله فيك عناية كبرى

جعلتك مخلوقا وخالق. !

والشرقي غالبا ما يلجأ إلى الرمز الشفاف الموحي للتعبير عما يجول في نفسه من احتجاج على تلك الأوضاع التي كانت تسود في العراق بعيدا عن السطحية والإسفاف والغموض والتعقيد , وهو يكثر من التشبيهات وله أسلوبه الخاص والمميز ويعالج موضوعاته بروح معاصرة بعيدا عن المباشرة والنقل الآلي بل شعره حافل بالصور الجديدة والمبتكرة والمعاني المستحدثة والعبارات الرشيقة . وفي المواقف الوطنية نراه يصعد الحدث، ويثير المشاعر ، ويلهب الأحاسيس من أجل القضايا العادلة ويجعلها في حالة تأجج وغليان . وعندما تُطعن كرامة الأمة في الصميم من قبل أعدائها ، وتداس حقوق الشعب وتصبح خيرات الوطن نهبا للأجنبي الغاصب لايكون للشاعر الصادق مع نفسه ومع شعبه غير خيار الاستنهاض والثورة على هذا العدو الدخيل الذي يسعى للتحكم برقاب الناس ظلما وعدوانا. وقصيدة ( منجل الفلاح ) تعبر خير تعبير عن تلك الرؤى الوطنية المتأججة بروح الثورة . وهو يدين فيها الحكام الذين بنوا قصورهم الشاهقة والمنيفة وسعادتهم ونعيمهم على جماجم الفقراء والمسحوقين والمحرومين. ويبين في هذه القصيدة الجميلة الثائرة كيف سرق الحكام الطغاة قوت الشعب وغرقوا في ملذاتهم ولهوهم وبذخهم دون الالتفات لمعاناة تلك الطبقات المسحوقة والمحرومة التي غدت جيلا من الأشباح لشدة فقرها وتعاستها حتى إن قرى النمل أضحت تحتوي على غذاء أكثر مما تحتويه أكواخ الفلاحين المتهالكة التي تعج بالمآسي والأحزان حيث يقول في تلك القصيده:

أرهقت شدة المظالم شعبي

فإذا همُ جيلٌ من الأشباح

مالهذا الفلاح في الأرض روح

أهو من معشر من الأرواح ؟

هو في جنة ينال عذابا

وهو تحت الأشجار أجرد ضاح!

وقرى النمل لهف نفسي أثرى

من قراه إلا من الأتراحٍ

إلى أن يقول :

رب قصر من فوق دجلة

كالطاووس للزهو ناشرا لجناح

أتراه مدته  دجلة أنفا

حين فاحت روائح القداح؟

نصبوه  كمنبر من زهور

والمراقي كسوسن وأقاحٍ

لو كشفنا أطباقه من أساس

لوجدناه  منجل  الفلاح !

أرهقته ضرائبُ باهضاتُ

وديونٌ ثقيلةُ  الأرباح

لم يفده سلاحه فهو ليثٌ

قتلوه صبرا بغير سلاح !

لو كشفنا عن قلب ذاك المُعنًى

لوجدناه مثخنا بالجراح !

أنه يصف قصور الحكام العجيبة الغريبة التي لها أنوف وخراطيم وكل تكاليف ذلك البناء الشامخ الباهض. لو دققنا فيه لوجدناه مسروقا من منجل الفلاح . وهو يكشف عن تلك الهوة السحيقة بينها وبين أكواخ الفلاحين لشدة المظالم الذي حولت جيله إلى جيل من الأشباح من شدة الفقر والمعاناة والاضطهاد. ولو كان شاعرنا علي الشرقي حيا في هذا الزمن فماذا عساه أن يقول عن حيتان الفساد والسرقات التي أتخمها السحت الحرام وعن البؤساء الذين يعيشون في بلد يسبح على بحر من البترول وما زال الكثير من فقرائه يبحثون وسط أكوام الأزبال، ويعيشون في بيوت الصفيح والطين المنتشرة على مجمل مساحة العراق؟ وهناك من الحاكمين من يذرف دموع التماسيح على الفقراء والمعدمين دون أن يقدم لهم غير الخواء.

 

جعفر المهاجر.

 

في المثقف اليوم