شهادات ومذكرات

سلامة موسى داعية الحرية في زمن غيابها

ali almirhigيعد سلامة موسى أحد المفكرين النهضويين العرب في القرن الذين تتبنوا الدعوة لحرية الفكر والمرأة في زمن غياب الحُريات.

ولد في قرية "بهنباي" أحدى قُرى محافظة الزقازيق بمصر عام 1887من عائلة قبطية مسيحية، توفي في عام 1958.

رأس تحرير مجلة الهلال وهي واحدة من أهم المجلات العربية التي كانت تدعو لحرية الفكر، معروف بولعه بالثقافة الغربية وبميوله للعلمنة.

لقد إهتم بالكتابة عن المرأة والشباب، فكتب مجموعة كتب تدافع عن حقوقهم أهمها: فن الحب والحياة، الذي دعا فيه إلى النظر للإنسان على أنه "غريزة وعقل"، فلا يستطيع إنسان أن يحيا بالعقل وحده أو بالغريزة وحدها، فللعقل أصالته في التعامل مع الطبيعة، وللغريزة وقتها حينما تلتهب المشاعر، فنُسميها "عاطفة"، وفن الحياة لا يقتضي كبت العواطف، ولكنه يقتضي تهذيبها والإعتدال في نزوعنا نحوها، والعقل كفيل بتحقيق هذا الإعتدال .

كان سلامة موسى ينظر للمرأة على أنها ليست لعبة الرجل، وذلك هو عنوان كتابه الذي صدَره في عام (1956)، مؤكداً فيه على أهمية مشاركة المرأة للرجل في بناء الأسرة والمجتمع ومشاركتها له في العمل، داعياً إلى الإختلاط بين الجنسين بما يسمح للرجل بمعرفة طباع المرأة، وبما يسمح للمرأة بمعرفة طباع الرجل، من دون أن يخل هذا التداخل بانظام القيمي والأخلاقي عند الرجل والمرأة .

له كتابات أخرى تُعلج القضية ذاتها، أي علاقة الرجل بالمرأة، أهمها: أحاديث إلى الشباب (1957)، مشاعل الطريق للشباب (1959).

في عام 1906 سافر إلى فرنسا، فشاهد الحياة الفرنسية، وأعاد في ذهنه الحياة المصرية وما تعاني منه المرأة المصرية من تخلف واضطهاد فيما تنعم المرأة الفرنسية بكل مباهج الحياة. في الوقت نفسه اطلع على الثقافة الفرنسية فتأثر بأفكار فولتير ومونتسكيو وهناك قرأ كتابات كارل ماركس، فبدأت مرحلة إعجابه بالفكر الاشتراكي.

بعدها زار إنكلترا فتأثر كثيراً بأفكار الأديب الفيلسوف الايرلندي برناردشو لا سيما عندما إلتقى به فألف عنه كتاباً بعنوان (برناردشو). كان يتزعم هذا الفيلسوف آنذاك الجمعية الفابية التي كانت تروج للأفكار الاشتراكية والدعوة للمساوة الاجتماعية والساسية والاقتصادية وضرورة محاربة الاستعمار الذ يمثل هيمنة الرأسمالية وبقاء رأس المال بأيدي طبقة واحدة هي طبقة الرأسماليين وأعوانهم من الطبقة البرجوازية وضياع حقوق (الشغيلة) أي البسطاء من الناس.

تأثر بالماركسية وبنزعتها الإشتراكية التي طرحها برنارد شو الذي دعى إلى "تأميم الممتلكات التي تحتاج في إستغلالها إلى عمل العمال" . ولذلك نجد أن سلامة موسى يتفق مع قول برناردشو بأن تحقيق أحلام الطبقات المسحوقة لا بُد أن يكون من خلال تطبيقنا للإشتراكية، كونها "تضع الإيثار مكان الإثرة ومصلحة الجماعة فوق مصلحة الفرد" . ويعتقد سلامة موسى أن "الحضارة الأوربية تتجه الآن نحو الإشتراكية بلا جدال..." .

أعجبته فلسفة نتشة فألف كتابه: مقدمة السوبرمان (1910) ليتحدث فيه عن فلسفة نتشه والتي أثارت إهتمامه بسبب نكرانها لمفهوم الحقيقة المطلقة في الحياة الإنسانية، فالحقيقة نسبية ومتغيرة بتغير الظروف العلمية والاجتماعية والساسية والاقتصادية. فضلا عن إعجابه بفكرة (السوبرمان) التي طرحها نتشه أو "الإنسان الأرقى" الذي يُصارع الحياة من أجل تأسيس قيمه هو حتى يعيش في دُنيا هو من شرع قوانينها. الإنسان الأرقى هو الذي يتميز بقوة الإرادة ليعيد بناء القيم الأخلاقية والجمالية. وهو مُعجب بفكرة نتشه عن السولرمان لأنها تُمهد له القبول بفكرة دارون الذي أكد بكتابه "أصل الأنواع" أن "الإنسان حيون، ولكنه يختلف عنه (أي عن الحيوان) من حيث أن نسله العاجز يعيش، والأسد البطيء يهلك جوعاً في الغابة، ولكن الإنسان "الأعرج" يعيش..." .

فبالتالي الذي أعجب سلامة موسى هو هذه الأفكار وتقارب أفكار نيتشه مع ما طرحته نظرية التطور حول مفهوم الصراع والبقاء للأفضل وليس للأقوى كما يعتقد سلامة موسى الذي يدعو إلى ضروة تحويل الصراع إلى تنافس من أجل خلق الأفضل والأجمل لذلك نجده يؤلف كتاباً بعنوان: نظرية التطور وأصل الأنواع (1928). وما أعجبه في نظرية التطور "أنها غرست في الأذهان فكرة تدرج الاحياء ورُقيها جيلاً بعد جيل" .

آمن سلامة موسى بضرورة اللحاق بالغرب كما هو إيمانه بأن لا نهضة للعرب من دون التواصل مع الغرب الثقافي ومحاولة الاستفادة من التقدم العلمي والحضاري الذي وصل إليه، فهو يُفرَق بين الغرب بعلمهه وثقافته والغرب بوصفه مُحتلاً ومستعمراً، لأن "أوربا "الغربية" تُمارس الإستعمار بكل ما فيه من وحشية مع الأمة العربية وغير العربية" .، فقد "تخلفت الأمة العربية عن أوربا لأنها أهملت العلم والصناعة، ولن تستطيع أن تستعيد مكانتها في قافلة الإرتقاء البشري، إلَا إذا أخذت بالعلم والصناعة" .

آمن بحرية المرأة المطلقة لدرجة إيمانه بحرية اختيار المرأة للرجل على عكس العادة أو الطبيعة. فجاء كتابه: حرية الفكر(1927) معبراً عن تبنيه للدفاع عن الحريات بكل أنواعها.

دافع عن التعليم والتثقيف الذاتي في اللغة والفكر والفنون والأدب والعلوم المتزامن مع دعم الدولة، في تطويرها للمناهج وللتعليم في المدارس والجامعات، وفي إهتمامها بالمطابع ونشر المؤلفات والترجمات في العلوم والفنون والثقافة، بما يجعل هذه الثقافات بخدمة الإنسان وعالمه. والثقافة العربية عنده "هي قبل كل شيء ثقافة أدب" . أولاً وعلم ثانياً.

 فلا قيمة لثقافة أو علم أو فن كان همه الأوحد هو الإنشغال بعوالم مفارقة للطبيعة. فأهمية الوعي البشري والإنساني، إنما تنبع من تعلمه الثقة بقدراته العقلية والبدنية في جعل العالم الذي يعيش فيه عالماً أفضل، بعيد عن الغيبيات، وبعيد عن تأثيرات الماضي، عبر جعله المثال الأفضل الذي ينبغي أن يُحتذى، إنما قيمة الإنسان الحقيقية وسعادته تكمن في قدرته على تجاوز عوالم الغيب، وتمكين عقله وخبراته من السيطرة على الطبيعة وتفسيرها تفسيراً علمياً بعيد عن أوهام الميتافيزيقا، وكأن سلامة موسى يُعيد لنا أطروحات فرنسيس بيكون في "الأوركانون الجديد" وآراء جون لوك التجريبية في نظرته للعقل على أنه صفحة بيضاء تأتيها الإنطباعات من الخارج، وهو ليس ببعيد عن هيوم في نقده للميتافيزيقا. وهذا واضح من تبنيه لـ "نظرية التطور الداروني" التي تُعد بشكل وآخر إمتداد لرؤى هؤلاء الفلاسفة التجريبيين .

ـ دفاعه عن النقد والشك بوصفهما أساس بناء العقل البشري المنسجم مع الطبيعة، لذلك نجده يُدافع عن فلسفة ديكارت "الشكية" ببعدها الإستدلالي، كما يُدافع عن فلسفة بيكون ببعدها الإستقرائي، فهو من دعاة تبني النزعة العلمية، بكل مناهجها التفسيرية، وإن كان هو أقرب لتبني فلسفة بيكون التجريبية منه إلى تبني فلسفة ديكارت العقلية.

كان لفلاسفة التنوير الفرنسي حضورهم وتأثريهم في فكره، أمثال فولتير وروسو وديدرو، لا سيما في نزوعهم نحو التحرر ونقد الإستبداد السياسي. ولا يفوتنا أن نذكر أن للثورة الفرنسية وفلاسفتها التنويريين تأثيرهم الفاعل والبيَن والأكثر حضوراً فاعلية من تأثه بعصر النهضة الإيطالي بنزعته الإنسنية، وإن لم نستطع إنكار تأثره بها. أما عن تأثره بما يُمكن تسميته بالنهضة الثالثة "نظرية التطور"، فذلك مما لا شك فيه، ويمكن لنا أن نعدَه أحد المفكرين التطوريين في الفكر العربي الحديث، لا سيما في تأكيده المستمر على أن "الإنسان كان حيواناً ثم إرتقى" .

دعى إلى ضروة إحياء النزعة الفرعونية "الحضارة المصرية القديمة" ليس من أجل العودة القهقري، ولكن لتذكير المصريين بأمجادهم وبقدرتهم على صناعة حضارتهم مرة أخرى، فألف دفاعاً عن هذه الفكرة كتاب: مصر أصل الحضارة (1947)، لأنه يعتقد أن دراسة التاريخ الفرعوني إنما هو "في الحقيقة ليس تاريخ مصر وحدها، بل هو تاريخ الحضارة الأولى للعالم" . ولا أعرف كيف نظر لأسبقية الحضارة السومرية "العراقية" القديمة بوصفها أولى الحضارات التي سبقت الحضارة المصرية بأكثر من ألف عام قبل الميلاد.

إعتقد أن سبب تخلف المجتمع المصري هو عدم إرتباطه بأوربا وبقائه مرتبطاً بالشرق المتخلف، كونه يرى أن المشترك الحضاري لمصر مع الحضارة الغربية أكثر من المشترك الحضاري مع حضارات الشرق بما فيها الاسلام، لأن المجتمع المصري يمتد بجذوره وأصوله للحضارة الفرعونية وليس للحضارة العربية والاسلامية والقرب الجغرافي بين مصر وأوربا يسمح لها بسهولة التواصل مع الغرب وهذا ما حصل في القرون الوسطى حضور الفلسفة اليونانية في الاسكندرية. لذلك لم يتفاعل مع فكرة القومية كثيرا، وإن كان من مناصري عبد الناصر، لكنه ميال لتنمية النزعة الوطنية المصرية. وهذا كان واضحاً بتبنيه الدعوة إلى إحلال اللغة العامية بدلاً من اللغة الفصحى. أهم كتبه التي عبر عن توجهاته هذه هي: ما هي النهضة (1935)، النهضة الأوربية (1935)، البلاغة العصرية واللغة العربية (1945).

ـ يؤمن بضرورة "فصل الدين عن الدولة"، ويرى أن الإسلام لا يشبه المسيحية، فالمسيحية تستدعي وجود رجال الدين "الكهنوت" واسطة بين العبد وربه، أما في الإسلام فلا توجد كهنوتية، "إذ ليس في الإسلام كهنة" .

ـ أنكر البعض على سلامة موسى إعتقاده بقيمة الحضارة المصرية والعربة والإسلامية على الغرب، ولكن هذا مما يسهل علينا دحضه، فهو يرى أن "الأرقام العربية والورق، هما بلا شك أعظم الوسائل للثقافة والحضارة الغربية، "والفضل فيها يعود للعرب، والعرب وحدهم" . ولا يقتصر فضل العرب على الغرب بهاتين النقطتين فقط، إنما فضلهم، يكمن في ترجمتهم لكتب الفلاسفة والعلماء اليونان، بما يجعلهم مُجسرين للثقافة بين أوربا والأغريق القدماء، ففتح بذلك العرب للغرب "آفاق الماضي وجعلتهم (أي الغرب) على وجدان بأن الثقافة البشرية موصولة وليست مقطوعة..." .

ـ نقده للسياسة التركية وفسادها وإنحلالها المعرفي والأخلاقي، رغم إدعائها الشكلي لتبنيها للإسلام، ولكنها تحولت إلى دولة "ثيوقاطية" = "لاهوتية"، تقصي الفرد والجماعة لصالح السلطة المُصَرية على إنكار حقوق الإنسان المدنية، بل وحتى الدينية التي شرَعها الإسلام.

ـ لذلك نجد سلامة موسى مُنسجماً مع تحولات الفكر الغربي في دفاعه عن حقوق الإنسان ونقد السلطة "الثيولوجية"، بوصفها تعبيراً آخر عن رغبات "المستبد" في شرعنة وجوده في السلطة وإستمراره بها، لأنه "المُجتبى" أو "المُختار" الذي إقتضت الضرورة الإلهية وجوده في الحكم!!. بل هو مُعجب بتحولات الحضارة الغربية والأوربية حتى بنزوعها نحو القلق وبكل ما فيها من "أمراض النفس التي لا تُحصى. لكنها أيضاً حضارة الإستطلاع والإستقلال والديموقراطية والعلم والإختراع، أي حضارة المصانع، وليست حضارة المزارع" .

يعد سلامة موسى من المتحررين ويؤمن بسيادة القانون وبحقوق المواطنة وبالتالي فصل الدين عن الدولة فهو لا يعتقد بإمكانية أن يكون الدين أو رجل الدين هو الحاكم وهو بذلك يؤكد على ضرورة فصل الدين عن الدولة.

 

د. علي المرهج – أستاذ فلسفة / الجامعة المستنصرية

 

 

في المثقف اليوم