شهادات ومذكرات

زكي الأرسوزي بين جماليات الإشتقاق اللفظي وفقدان المعنى الإستدلالي

ali almirhigولد زكي نجيب إبراهيم الأرسوزي في عام 1899 أو في عام 1900 وتوفي عام 1968، في اللاذقية بسوريا، عروبي قومي، دعى لتأسيس حزب البعث عام 1940، وقد تأسس الحزب في عام 1947، ولكن الأرسوزي لم يكن حاضراً  إلا أن لكتاباته في "العبقرية العربية" الأثر الفعل في تأسيس أدبيات الحزب. كان ذا نزوع عروبي بطابع إشتركي. (الأرسوزي: الأعمال الكاملة، ج4، ص352).

سافر إلى باريس عام 1927 لدراسة الفلسفة. تأثر بأستاذ الفلسفة الفرنسي وكاتب تاريخها "أميل بريهييه". كان من الميالين لربط الفلسفة الحدسية البرغسونية بصوفية إبن عربي.

"الفلسفة العربية مدخلها رحماني، نهجها فنيُ، غايتها الذات، إنها نظرة مستوحاةُ من الحياة[1]. الغاية من العيش فيها تحقيق "البطولة"، فهو من المؤمنين بفكرة البطل الذي يستطيع بذكائه تخليص الأمة من الظلم، "ليملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلأت جورا". فالناس عنده صنفان: صنف العوام، الذين يشتركون بروح واحدة هي الروح المشتركة التي تربط أعضاء المجتمع، وهذه الروح يتلمسها العوام ويُفصح عنها النوابغ والزعيم، وهم من الصنف الثاني، فهو (الزعيم) ذو التجربة الرحمانية المثالية سباَق يُبشرُ بُقرب الموسم، والبُشلرة ذات قوة إيحائية تولد النفوس المُتعثرة في إستجلاء الحقيقة الإنسانية". (الأرسوزي: الأعمال الكاملة، ج4، 494).

وهل في هذا الكلام من معنى سوى اللعب على وتر الوجدان والعواطف، لا يفقد جذوره في المخيال والتاريخ الديني، ليصنع الأمل، ولكنه يبقى في حدود الرؤية امثالية الحالمة. فلو سلمنا بأن الفلسفة العربية مدخلها رحماني، فماذا يعني الأرسوزي بعبارة "نهجُها فنيُ، غايتُها الذات، إنها نظرة مُستوحاة من الحياة" أليس في لعبه هذا في الألفاظ ولع في سحر البيان وغياب وشرود عن البرهان، مستخدمين لغة بيانية لينسجم ردنا مع نزوعه الخطابي، فبأي فلسفة عربية نجد نزوعاً فيها نحو الذات بيناً بالقدر نفسه الذي نجدها فيها تتجه نحو "الملأ الأعلى" بلغة الأرسوزي نفسه.

الكلمة العربية تقي صاحبها من العثرات وتُوفر عليه الجهد المبذول في توضيح المٌشبهات" (بعث الأمة العربية، ص2) وكأن "العبقرية العربية أدركت بالسماء رمزاً للنفس كانت تُشير بين وجهي الحقيقة: الوجود والوجدان" (المصدر نفسه، ص3).

من هموم الأرسوزي تأكيده المُستمر على النابغة، الذي "يُكمل بجهده الصرح الثقافي الذي شادته العامة" ( المصدر نفسه، ص5)، ولا أعرف صروحاً ثقافية أشادتها العامة لا في تاريخ الحضارة الإسلامية ولا في تواريخ الأمم والحضارات الأخرى، فكل العامة وفي كل الأمم والحضارات يُحرَكها "الحس الجمعي" أو ما سُمي عند الفلاسفة بـ "الحس المُشترك الجمعي"، وهو في الكتاب نفسه يربط بين مفهوم العامة وإشتقاقها الذي يرتبط بالعمى، فـالعامي عنده هو من "عُميَ عن تجليات الوجود أو طمست عليه الفوارق" (المصدر نفسه، ص40)

يقول: "لكل أُمة أصيلة وجهتها"، ولم يتضح لنا معنى الأصالة التي يقصدها الأرسوزي، وإن فسرها لنا بأنها "البُنيان الرحماني المُشترك بين المُشَرع والجماعة، ذلك البُنيا الذي تشف فيه الصورة عن المعنى بحيث يتلألأ الذكاء موضحاً الأوضاع العامة، بحيث يشتد عزم الإرادة على إحقاق الحق في نفسه وفي العالم"[2]. وهل لنا في هذا الإنشاء في إختيار محاسن الألفاظ وفقدان المعنى البرهاني والواقعي من قول في تفسيراته الحالمة هذه.

 ولم يتضح لنا معنى الأمة عنده وعلاقة هذا المفهوم بالأصالة، كما يُحاول إيهامنا بالربط الجدلي بينهما. فهل توجد أُمة أصيلة فعلاً؟، أم هو تخيل من بنات تصورات "القوميين" في كل الأمم، فهل العراقيون بعمقهم الحضاري السومري الذي يُشك في أصولهم السامية، لينسب المستشرقون أصولهم لمجتمعات آرية نازحة هم أصل في الأمة العربية؟! وهذا ينطبق على الأكديين والآشوريين الذين لا يمتلكون "عبقرية اللغة العربية" ولكنهم يمتلكون عمق الأصالة العراقية في تاريخهم في الإنشاء الحضاري والعمراني في حضارة العراق القديمة. والأمر نفسه ينطبق على الفينيقيين في سوريا وعلى الفراعنة في مصر وعلى الأمازيغ في المغرب العربي.

كانت الشعوب السامية في إشتقاق الإسم من الفعل من "سمى" "يسمو" فإتخذوا السماء رمزاً (المصدر نفسه، ص8)، كما يرى الأرسوزي لذلك بقينا نعيش في االنزوع للسماء، ولا حياة لنا في الواقع إنما هي في سمونا وتعالينا عليه، فصرن نعيش في "رحمانية" ببعدها السماوي، فحضر " الوجد" أو "الوجدان" و "الجدة" وغاب "الوجود" وإن حضر فإنما يحضر بقبول الأنفس والقلوب له قبل العقول لإعتقاد منه بترادف العلاقة بين الألفاظ "بين الصورة والمعنى" (المصدر نفسه، ص59)، فكان للسامي فاعلية التأثير في المثالي في وإنحسار التأثير في الواقعي، لأن التجاوب بين الإنسان والطبيعة إنما يكون "بتجاوب رحماني" (المصدر نفسه، ص16) لا بإستدلال برهاني عقلاني، إنطلاقاً من تمسكنا "بسم الله الرحمن الرحيم" ( المصدر نفسه، ص16) وفق مبدأ "الحب" (ص17) بين الذات الإنسانية و الذات الإلهية "الرحمانية" عبر "إنكشاف التجربة الرحمانية في الوجدان" (المصد نفسه، ص18)، و"النية تدل هي وصورتها الحسية "نواة" على قُطبي الحياة: الإنسانية والنبات دلالة نهتدي بها بين أبسط درجات الحياة" ( المصد نفسه، ص61ـ62)، والأخلاق تدل عل "الخلق" بمعنى الإيجاد والإبداع وعلى معنى الخُلق، ليكون معناها في العربية "هي فن إيجاد الحياة وإبداعها، أي تحقيق الفطرة الموروثة ثم إستئناف النمو الأرقى فالأرقى" (المصدر نفسه، ص65)، ففي الأخلاق سعي نحو السمو والتسامي.

وما صلة الإنسان بالفكر إلَا بصيغة "فك" التي يبتدأ بها إسم "فكر" (المصدر نفسه، ص27) التي تحمل في طياتها سعياً لـ "فك" إرتباط الإنسان بعالمه الرحماني "الملأ الأعلى".

لرحمانية الأرسوزي بعدها التجذيري في معرفة الجذر اللغوي للفظ واللعب على المشتركات فيه، فـ "إنعقاد الحياة على الجنين في الرحم دل على أنه قد أدرك الشبه بين حدي تطور الأحياء" (المصدر نفسه، ص33 وص59) والرحم يشترك مع الرحمة في النزوع الوجداني نحو "الرحمن".

ومشكلة العقل الأوربي عند الأرسوزي أنه توقف عند التأمل والتعقل، فلم "يُدرك الصلة بين الخير المُستفيض والواجب بين المعرفة الرحمانية والإصلاح العام" (المصدر نفسه، ص37)

   يصنع الأرسوزي "الجمهورية المُثلى"[3] على غرار جمهورية إفلاطون وعلى مثل سبق في الفلسفة الإسلامية عند الفاربي في "المدينة الفاضلة"، وفي هذا الكتاب كما في كتابه "العبقرية العربية"[4]، وفي أعماله الكاملة[5] التي جُمعت فيما بعد، وكلها تسير في المنحى نفسه في تأصيل الإشتقاقات اللغوية وربط الحسي منها بالوجداني، في تفضيل بين وجلي منه لبديع الألفاظ ومحاسنها في أبعادها البلاغية في المجاز والإستعارة والبيان.

إنه بحق يصنع جمهوريته اللفظية المُثلى ليسرح بخياله الشاعري ليجعل من الوهم حقيقة، ولينسج بيت العنكبوت المُعجز ليصنع الحُلم العربي في بناء وطن مُتخيَل.

فهو صانع مفهوم "البعث العربي" و "الحدس العربي"، فالحرية والحق يزدان إنوجادهما في الوجدان الذي يتحقق بالتجاوب الرحماني مع العناية الإلهية، الذي صنع الشريعة السماوية  المُشتقة من فعل "شرَع". و "البعث العربي حزب ثقافي سياسي، الغرض من تأسيسه إعادة العرب، إلى أصالتهم إلى سابق مجدهم... ويعتقد مؤسسو البعث بأن الأمة العربية عبقرية مُبدعة لمظاهرها، ومُجهة لهذه المظاهر نحو الإستزادة من الإبداع والحرية..." (الأرسوزي: الأعمال الكاملة، ج6، ص49).

وقد بان وإستبان عبقرية العرب مع حكم البعث حينما حول البعثيون إعادتنل لظُلمات التاريخ، فضيعنا الماضي ولا حاضر لنا، وقد أجهز المتأسامون على بقية الحاضر وبقايا بعض الأمل في المستقبل في التجهيل والفساد وخراب البلاد والعباد.

 

د. علي المرهج – أستاذ فسلفة

................

[1] زكي الأرسوزي: بعث الالأمة العربية، دار اليقظة، سوريا، ط1، 1954، ص1.

[2] زكي الأرسوزي: الجمهورية المُثلى، دار اليقظة، سوريا، ط1، 1965، ص32. 

[3] مصدر سابق.

[4] زكي الأرسوزي: العبقرية العربية، دار اليقظة، سوريا ط1، بلا.

[5] زكي الأرسوزي: الأعمال الكاملة، سوريا، بلا دار، طُبعت بين عامي 1972 و1976، وفيها كتب الأرسوزي التي أشرنا لها في متن مقالنا.

 

 

في المثقف اليوم