شهادات ومذكرات

عبد الفتاح ابراهيم والديمقراطية الشعبية

ali almirhigتأسست الدولة العراقية في عام 1921 وكما هو معروف إن هذا التأسيس لم يكن ضمن خيارات الدولة المحتلة آنذاك، ولكن فرض عليها نتيجة ضغط الجماهير العراقية في ذلك الوقت وكان أختيار الملك من قبل بريطانيا قائماً على ضرورة الاخذ بنظر الإعتبار مطاليب الشعب العراقي ونخبه السياسية وفي الوقت نفسه مصالحها كدولة محتلة، لذلك جاء إختيار الملك فيصل الذي يحظى بتأييد واسع من الجماهير العربية كونه يحمل تاريخ عائلته التي تعود الى شجرة النبوة من جهة اخرى طموح عائلته في بناء دولة عربية تؤسس بمعزل عن هيمنة الدولة العثمانية وهذا الأمر يدفع بإتجاه قبول الجماهير لهذه الشخصية كونها تسعى لنفس الحلم الذي ناضل من أجله المجتمع العراقي، فضلأ عن ذلك فأن هذا الأمر يحقق جانباً من طموحات الدولة المحتلة لأن شخصية الملك فيصل ليست بغريبة عنها كونها كانت الشخصية الثانية بعد الشريف الحسين بن علي. هاتان الشخصيتان اللتان سعياتا من أجل بناء دولة عربية مستقلة عن الدولة العثمانية وذلك بمساعدة دول التحالف آنذاك لاسيما بريطانيا كذلك كانتا محط قبول من لبريطانيا كذلك .

من ذلك نستطيع القول أن تشكيل الدولة العراقية الحديثة كما يبدو لم يكن في ضوء رغبات المجتمع العراقي بقدر ما كان عبارة عن صراع بين إرادتين، إرادة المحتل وإرادة الجماهير، وتكون هذه الدولة جاء نتيجة هذا الصراع بين الأرادتين . لذلك جاء هذا التشكيل للدولة العراقية على الأقل بشكل سياسي هو صياغة بريطانية وكانت الحكومات التي تشكلت في ذلك الوقت تتساوق وإرادة الدولة المحتلة وفي الوقت نفسه تريد أن تحقق بعض مطاليب الجماهير العراقية . في هذا الجو ظهرت وعاشت وتبلورت شخصية مفكر يعد رائداً للفكر الديمقراطي في العراق هو عبد الفتاح إبراهيم ساعياً الى التخلص من صراع الأرادات هذا محاولة بناء دولة ديمقراطية مستقلة من خلال طروحاته في الديمقراطية الشعبية موضوع بحثنا .

من هو عبد الفتاح إبراهيم؟

هو السيد عبد الفتاح إبراهيم أبن السيد عبد الحميد . أبن السيد إبراهيم المدرس الذي أختص بالتدريس بالحضرة الكيلانية أما جده السيد عبد الحميد - الملقب بحديد -  فقد كان أماماً وخطيباً بجامع حديثة الكبير وهو مدفون فيه .

ولد في عام 1907 في مدينة الناصرية، اذ كان والده يشغل وظيفة واعظ غرب الفرات. فكان المفكر كلما يذكر الناصرية يزداد به الحنين والشوق لهذه المدينة حتى قال عنها "أن الناصرية  تبقى ما حييت نابضة في ذاكرتي" .

شارك والده في معركة الشعيبة عام 1914 مع الشاعر الثائر محمد سعيد الحبوبي بعد إكمال دراسته الإبتدائية في البصرة، حط رحاله في بغداد في منطقة باب الشيخ في دار جده السيد إبراهيم المدرس الواقعة قبالة باب الحضرة الكيلانية.

تتلمذ عبد الفتاح أبراهيم في البصرة وأكمل دراسته الابتدائية هناك ثم أكمل دراسته الثانوية في بغداد سنة 1920ـ1924، بعدها سافر الى بيروت في عام 1924 للدراسة  في الجامعة الأمريكية وكان أول كتاب قرأه هناك للكاتب الأمريكي الليبرالي (Heyas) بعنوان . (تاريخ أوربا الاجتماعي والسياسي) وكان حينذاك أول مرة يسمع فيها عن الاشتراكية  التي أصبحت أحدى اللبنات الأساسية في تشكيل تفكيره .(3)

بعد إكمال دراسته في بيروت عاد  الى بغداد ليعمل في حقل التعليم، ولكنه لم يستمر في ذلك إذ سافر الى أمريكا عام 1930 لإكمال دراسته العليا في جامعة كولومبيا وأول ما بدأ به هو تأليف كتابه (على طريق الهند)، إذ إستفاد من وجوده في أمريكا في جمع كل المعلومات المتعلقة بالعلاقات الإنكليزية - العراقية والتي كانت موضوع كتابه سابق الذكر.

كان عبد الفتاح إبراهيم ومنذ شبابه مهموماً بكيفية إصلاح الوضع الإجتماعي والسياسي  في العراق وكان يسعى بإستمرار الى تأسيس جمعيات وروابط شاغلها الأساسي  بناء وعي ديمقراطي عراقي يستلهم التراث العربي الإسلامي الشوري وتجارب الأمم الديمقراطية كأميركا وبريطانيا وفرنسا.

ومن أولى نشاطاته هو تأسيس (جمعية النشيء العراقية) في عام 1924 هو ومجموعة من رفاقه في بيروت وقد أصبح رئيساً لها في عام 1926، وأصبح نشاطها الى حد ما سياسيًا يواكب من بيروت الحركة الوطنية في العراق .

من هذا التجمع نشأ تجمع آخر سمي (النادي العراقي) وقد ضم نفس الجماعة التي أسست الجمعية  وهم عبد الفتاح إبراهيم رئيسًا ومحمد حديد ونوري روفائيل وجميل توما وعلي حيدر سليمان وآخرون.

جماعة الأهالي

بعد مجيء عبد الفتاح إبراهيم من بيروت هو وجماعته لم يتركوا ذلك التطلع لإصلاح المجتمع فقاموا بإصدار جريدة الأهالي في عام 1930 وتألفت إدارتها من عبد الفتاح إبراهيم وحسين جميل وعبد القادر البستاني وخليل كنه وأصبحت هذه الجريدة فيما بعد هي الناطقة بإسم (جماعة الأهالي) التي تأسست عام 1933 من أغلب الشخصيات التي أسست (جمعية النشيء ) و(النادي العراقي).

ما يميز جماعة الأهالي أنهم نخبة مثقفة إطلعت على الحضارة الغربية فضلاً عن إطلاعهم على التاريخ العربي والإسلامي، وأدركوا أهمية الثقافة بوصفها السلاح الذي تتقدم به الأمم وتتخلص به من الإستغلال والإستعمار، "فيما كانت  الأحزاب والإتجاهات الأخرى التي شكلت في العراق عبارة عن تجمعات عشائرية او تجمعات لتحقيق أغراض مؤقته فتولد وتموت.

فضلاً عن ذلك فأنها كانت حركة تقفز على الصراعات الطائفية والعرقية والقومية وتهدف الى بناء مجتمع ديمقراطي حرمتعلم مؤمن بالمساواة بجميع تمظهراتها  وكانت هذه الغاية التي تصرح بها الجماعة في جريدتها (جريدة الأهالي)، وكان هذا واضح في موقفهم من الطائفية حينما نشرت الأهالي مقالها الافتتاحي بعنوان (الإستغلال الطائفي أبشع أنواع الاستغلال) في عددها 224 الصادر في (19/7/1933 ).

كان عبد الفتاح إبراهيم العضو الأكثر فاعلية في هذه الجماعة لاسيما على المستوى الفكري، بل يمكن أن يعد مفكر (جماعة الأهالي) وهو صاحب فكرة (الشعبية) التي تبنتها الجماعة بوصفها فلسفة جديدة تحقق طموحهم في تحقيق النهضة .

أصبح نشاط جماعة الأهالي أكثر فاعلية بدخول كامل الجادرجي فيها الذي برز نشاطه السياسي في عام 1926 حينما عين معاوناً لوزير المالية للشؤون التي تتعلق بالبرلمان . وفي عام 1927 أنتخب نائباً في البرلمان وأنتسب الى حزب الشعب (المعارض) الذي كان يتزعمه ياسين الهاشمي. ثم دخل الى حزب الاخاء الذي تزعمه أيضاً ياسين الهاشمي على أنقاض حزب الشعب 1930، وكان من أشد المعارضين لمعاهدة 1930 فكراً وسلوكاً لذلك حكم عليه بالسجن في وزارة نوري السعيد الأولى.

وقد برزت جماعة الأهالي على الساحة  السياسية حينما تبنت المظاهرات التي قام بها الطلبة إعتراضاً على فصل النصولي الذي كان كتابه ذو النزعة الطائفية (تأريخ الدولة الأموية) سبباً من أسباب فصله، وكان اعتراض جماعة الأهالي ليس على فصل النصولي تحديداً بقدر تخوفهم على حرية الرأي أو سعي الحكومة الى إلغاء التعددية. تزامنت هذه المظاهرات مع  زيارة الفريد موند الى بغداد.

بالإضافة الى دخول الجادرجي الذي جعل الجماعة أكثر حضوراً على المستوى السياسي، فقد شكل  دخول (جعفر أبو التمن) بين صفوفهم نقطة تحول في تاريخ هذا التشكيل لما كانت تتمتع به هذه الشخصية من ثقة بين الحكومة والجماهير معاً وقد أعجب أبو التمن بكراس (الشعبية) الذي كتبه عبد الفتاح إبراهيم بقوله (أي أبو التمن) "بأنه قبل كل شيء مسلم حقيقي والدين الإسلامي جاء على أسس ديمقراطية وإشتراكية، والمباديء موضوعة البحث (أي الشعبية) هي أقرب الى الإشتراكية منها الى أي مذهب آخر، وكل ما فيها لا يخالف القواعد الإسلامية الصحيحة".

لم تستمر العلاقة بين الجادرجي وعبد الفتاح إبراهيم طويلاً والسبب هو الإختلاف الفكري بين الإثنين وقد علل الجادرجي ذلك بقوله " مما لا شك فيه أن السيد عبد الفتاح إبراهيم يُدين أصلاً بالماركسية لأن ثقافته كلها مستمدة من الماركسية غير أنه لما كان يعلم بعدم إمكان تصريف الماركسية في هذا البلد فقد حاول مراراً أن يطور الماركسية حسب ظروف العراق بزعمه، فأراد في بدء إشتغالاته السياسية أن يبتدع نظريات جديدة كانت دائماً تنقصها الجرأة والصراحة، بالإضافة الى ذلك كان يعطي لشخصه المقام الأول في جميع إشتغلاته ومحاولاته الخاصة... فهو ... يعتبر نفسه زعيم الحركة الفكرية في العراق.

نتيجة لذلك حاول عبد الفتاح إبراهيم أن يؤسس حزب الإتحاد الذي لم يستمر طويلاً، فقام بعد ذلك بتأسيس (جمعية الرابطة الديمقراطية) إنسجاماً مع خطه الفكري القائم على ضرورة تبني الديمقراطية منهجاً في الحكم والذي تبناه في بداياته سواء في (جمعية النشيء) أو (النادي العراقي) أو حينما أصدر (مجلة العلم الحديث) في عام 1937 التي كانت جل مقالاتها تهتم بنشر الوعي الديمقراطي ونقد الإستبداد والدفاع عن حرية الرأي .

أذاً فجمعية الرابطة الديمقراطية هي جمعية ثقافية مهمتها نشر الوعي الديمقراطي وسميت بجمعية الرابطة الثقافية رسمياً بعد أن شطب الرقيب السياسي كلمة الديمقراطية وأحل محلها الثقافية، فكان تاريخ التأسيس هو في( 24/1/1944) حينما تم إنتخاب أول هيئة أدارية لها . كان عبد الفتاح إبراهيم مديراً لأدارة الجمعية والنادي، وكان مقرها في النادي الملكي الأولمبي في الأعظمية وصدر عن الجمعية مجلة بعنوان الرابطة، وصدر العدد الأول منها في ( 26 /3 /1944 ) وكان من انجازات هذه الجمعية :

جمعية الرابطة الثقافية، مجلة الرابطة، نادي الرابطة، لجنة التاليف والنشر، لجنة المحاضرات والمناقشات، لجنة مكافحة الامية، رابطة الدفاع عن حقوق المرأة، دار التوزيع والنشر، مكتبة ومطبعة الرابطة.

ولكل مؤسسة من هذه المؤسسات إدارة منتخبة وفق المواصفات التخصصية.

نشر عبد الفتاح إبراهيم كثير من الدراسات و المقالات لاسيما في جريدة الأهالي ومجلة العلم الحديث ومجلة الرابطة وكل هذه المقالات والدراسات انصبت حول ضرورة نشرالتعليم عن طريق مكافحة الأمية والإهتمام بالطبع والمطبوعات و إعتقاده بإن هذه الخطوة ضرورية للوصول للديمقراطية والإيمان بتعددية الرأي .  إتضح ذلك جلياً في جل مؤلفاته لاسيما (الطريق للهند ) و(مذكرات المهاتما غاندي ) و(دراسات في علم الإجتماع) و (الاجتماع والماركسية ).

الديمقراطية الشعبية

كما أشرنا سابقاً أن أهمية عبد الفتاح إبراهيم تكمن في كونه من أوائل الذين أهتموا بالبحث عن أهمية الديمقراطية ليس فقط على المستويين  الاجتماعي أو السياسي بل على المستوى الثقافي أيضاً وهنا بإعتقادنا تكمن أهمية طروحات عبد الفتاح إبراهيم في الديمقراطية الشعبية وقد وصف الديمقراطية بأنها "نظام للحياة ولاتعني بذلك نظام سياسي فحسب أو أنها نظام إقتصادي فحسب، أو انها نظام للتربية والتعليم أو طريقة في التفكير أو أسلوب في العمل أو هي سلوك في الأخلاق، أو سجايا نفسية أو ميول أو نزعات فنية". "إن الديمقراطية تشمل كل هذه الأمور لأنها جمع من عناصر الحياة الإجتماعية ومظاهرها " أنها ثقافة على كل المستويات يتكامل فيها المجتمع حينما يتحصن بهذه الثقافة كونها تفسح المجال للفرد والمجتمع معاً للتكامل وتحقيق النمو والتقدم الثقافي والفني والإجتماعي ولايتحقق ذلك إلا من خلال الديمقراطية، والديمقراطية التي يؤمن بها عبد الفتاح إبراهيم هي الديمقراطية الشعبية والتي تقتضي "أن تكون إرادة الشعب هي الحاكمة في الشؤون العامة وأن تكون حقوق الفرد المقررة مصونة، على أن تكون الحكومة هي القائمة على مشيئة الشعب متمتعة بقدرة الإلتزام ضمن حدود القانون دون تفريق" وهي التي " تمكن فقراء الناس وعامتهم من ممارسة حقهم في الإختيار والحرية بعد أن كانت وقفاً على فئة خاصة "

إن الشعبية عند عبد الفتاح إبراهيم هي عبارة عن ملاحظة لواقع المجتمع العراقي في ذلك الوقت وتحديد الداء ومن ثم الدواء، وقد شخص عبدالفتاح إبراهيم الداء بأنه الإستبداد وبأن الدواء هو الديمقراطية الشعبية التي هي صياغة لمجموعة من المباديء التي ظهرت في الغرب وقد حورها بمقتضى حاجات المجتمع العراقي كما يعتقد هو وذلك من خلال الجمع بين طروحات الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الإشتراكية وهذه الديمقراطية قائمة على مجموعة من المبادىء أهمها :

وجود دولة لضمان الاطمئنان والرفاه والتقدم .

تكون هذه الدولة ذات سيادة داخلية وخارجية تامة، وسيادة للشعب لاتنفك منه .

تكون الدولة دستورية ديمقراطية . ومن مهمات هذه الدولة :

أ‌- تقليل الفروق الاقتصادية للحيلولة دون قيام السلطة لمصلحة  الأغنياء على حساب الفقراء .

ب- توفير المقدار الكافي من الثقافة والمعرفة للسواد الأعظم للحيلولة دون إنحسارها في طبقة معينة وإستخدامها المجموع لفائدتها.

ج- إجراء التمثيل في المؤسسات الديمقراطية على أساس الأعمال بحيث يكون ممثلوا كل صنف من عين ذلك الصنف .

ولربما نجد أفضل توصيف للديمقراطية الشعبية هو ما ذكره عبد الفتاح إبراهيم عن التجربة الكمالية في تركيا حينما كتب بإعجاب عن النهضة التي حققها أتاتورك ووصف هذه النهضة بأنها كانت " جمهورية وقومية وشعبية وعلمانية ودولية وثورية " وهو يفهم الجمهورية بانها مشاركة الشعب في الحكم، الأمر الذي يقتضي تطبيق الديمقراطية، ويفهم القومية باعتبار أن مصلحة الدولة فيها هي الأصل في التشريع وفي تقرير الشؤون العامة، وشعبية بإعتبار أنها تتألف من مجموع متجانس لا تفاوت  بين أفراده في الطبقات أو المنافع، ودولية كون المصالح الفردية فيها لا تضمن إلا في حدود مصلحة الدولة وفي سبيلها، وعلمانية لأخذها بقاعدة الفصل بين الدين والدولة ومراعتها مبدأ التسامح والتساهل في الشؤون الدينية، وثورية لأنها تقر بأن الدولة يجب أن تتماشى على أساس التطور المستمر، لاسيما شؤون الادارة والثقافة والإقتصاد ونظم الإجتماع .

تحاول الديمقراطية الشعبية الاجابة عن سؤال اليقظة المعروف وهو لماذا تقدم الآخر وتأخرنا نحن؟، واختلفت الاجابة عن هذا السؤال بحسب الخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية للمفكرين العرب وهذه الاجابة شكلت ما يمكن تسميته مشروع نهضوي عربي اشترك فيه المفكرون العرب والمسلمون على اختلاف مشاربهم .

تشكلت هذه الاجابة من خلال الاخر وكما اشرنا مع دخول نابليون الى مصر فاستيقظ العرب بفعل الصدمة التي احدثها الاحتلال، لاسيما وإن هذا الآخر (المحتل)  كان يتسلح بكل الامكانيات الفكرية والثقافية والتقنية تلك الاشياء التي غادرت المجتمع العربي الإسلامي منذ سقوط بغداد على يد هولاكو، ما عدا اضاءات بسيطة لم تستطع ان تستنهض العقل العربي .

 آمن عبد الفتاح ابراهيم بتقدم الغرب وبضرورة تبني كثير من مقولاته مع ضرورة تبيئتها بما يتلائم مع الواقع التاريخي والاجتماعي لمجتمعنا . فلم يكن يرفض التراث برمته بل يجده خزينا معرفيا يمكن الافادة منه في الحاضر وبناء المستقبل، لكن يجب قراءة هذا التراث قراءة نقدية وليست قراءة تبجيلية تقديسية فضلا عن ذلك فإنه لا يتبنى كل ما جاء من الغرب بل يرى ضرورة قراءة هذا الفكر الذي سبقنا أصحابه في التقدم لمعالجة كثير من القضايا المشابهة لمسيرتنا ومعاناتنا الثقافية فليس من المعقول ان نبدأ من الصفر كما ليس من المعقول ان ننغلق على تاريخنا وماضينا فالحياة في تقدم وتغير مستمر، لذلك نجد مفكرنا ينفتح على المختلف مستفيدا بطبيعة الحال من التجارب العربية التي ذكرناها سابقا فضلا عن افادته من ملاحظة الواقع  العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص، ولربما يمكن القول ان هذه النقطة هي التي كانت تحرك عقل مفكرنا وتجعله في بحث دائم عن الطريقة التي يمكن من خلالها معالجة الواقع المتخلف .

لذلك نجده ينهل من مشارب فكرية مختلفة مستفيداً من تنوع الفكر واختلافه ناظراً الى الآخر بايجابية جاعلا منه معيناً في فهم مشكلات التخلف في المجتمع العربي وامكانية حلها، غير ناسيا بطبيعة الحال الجانب السلبي الذي يحمله هذا الفكر والمتمثل بالاحتلال وانهاك الشعوب النامية واستغلال ثرواتها وهذا ما بدى واضحاً في كل كتاباته لاسيما (الطريق الى الهند) و(الاجتماع والماركسية)، لكن هذا لا يمنع الإستفادة من التجربة الغربية الغنية لاسيما " بعد أن إنتقلت الحضارة من ربوعنا نحو الغرب" فأهم ما جاءت به الحضارة الأوربية هو "الاصلاح الديني" المتمثل بثورة مارتن لوثرعلى الكنيسة وإضعاف سلطة رجال الدين التي مهدت بدورها الى إصلاحات على عدة مستويات، لاسيما على المستوى الفلسفي تمثل ذلك بالفلسفة الحديثة وتحديداً عقلانية ديكارت وتجريبية فرنسيس بيكن لتحويلهما النظر من الميتافيزيقا الى الانسان و اللتان مهدتا السبيل للاصلاح العلمي  المتمثل بالثورة الصناعية التي يعدها مفركنا "اساس كل نهضة".

 

د. علي المرهج – استاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم