شهادات ومذكرات

نفير الحرب ضد الزراعة

saleh alrazuk2قرأت مقالة الدكتور علي مرهج عن ذكرياته في شارع المتنبي*. وتحركت أشجاني فورا بسبب العلاقة الروحية مع شاعر غلبه الطموح وأصبح رمزا للبحث عن السلطة والمجد معا. ولا شك أن المتنبي جمع طرفي المعادلة التي توزعت بالتساوي بين الجنرال والكاهن في رواية معروفة لغراهام غرين وحملت عنوان (السلطة والمجد Power and Glory). لكن ليس هذا موضوعنا.

توجد تقاطعات مع ذكريات الدكتور مرهج.، وهي ليست ذات شأن، لأنه لم يسبق لي أن عملت بأي مجال تجاري، لا في البيع ولا الشراء، ولم تكن لي علاقة متينة مع أفراد الأسرة، ضمنا الأشقاء. كان لكل واحد فينا عالمه المنغلق على نفسه. وهو عالم يخلو من الأسرار، ويغلب عليه روتين الحياة والانفراد والعزلة والتباين في الاهتمامات.

ولأختصر طريق ذكرياتي الطويل أبدأ من العقدة.

فقد كنت أميل بطبعي للشخصيات التراجيدية. وربما هذا هو السبب الأساسي في تعاطفي المبكر مع فلسطينيي سوريا، والأقليات التي تشعر بالغربة، مثل نبات في غير موطنه.

وهذا هو مربط الفرس، النباتات والمناخ الغريب. لقد أجبرت على الانتساب لكلية العلوم الزراعية (كانت أربع سنوات وحاليا هي الهندسة الزراعية وتتطلب دراسة تصل لخمس سنوات). وكانت رغبتي أصلا هندسة البترول. وأعتقد أن اهتمامي بفوكو وحفريات المعرفة جاء من هذا الباب، أن أتخيل حفارة عملاقة تثقب الأرض لتصل إلى ما فيها من كنوز.

لم أجد نفسي إذا في جامعة حلب، ولا أعتقد أنني سوف أكتشفها وسط هذه التناقضات من العلوم المتنافرة. وكنت أقاوم الضجر والسأم والجفاف العاطفي بتسخير وقت الفراغ والعطل في تنمية موهبة الكتابة. وساعد ذلك على مضاعفة العزلة التي أعيش بها. لقد كونت عالما خاصا بي، لا يشاركني فيه أحد، لا في البيت ولا الجامعة. وبدأت أقرض مؤلفات زكريا تامر وغادة السمان، وأعمال كاتبين من أهم من مروا على الحياة الأدبية في حلب، وهما جورج سالم وووليد إخلاصي. وبينهما شاعر سيء الحظ، هو سعيد رجو. وللأسف كانت حياته لا تنتعش إلا في ظل المأساة، وداخل تشاؤم مطبق. ولم أطلع على إنسان رومنسي وثوري، وفي نفس الوقت يعاني من الفراغ العاطفي، مثله. ومع ذلك كانت لدي حصانة من شهرة أول إثنين وتبعاتها، ومن النتائج المترتبة على سوء معايير حياة الثالث. وهذه الحصانة هي الفرق بالعمر. فقد كنت في منعطف العشرين وهم في العقد الرابع. يعني فرق يبلغ عشرين عاما. ولذلك راوحت على مسافة بعيدة وخارج محيط الدائرة التي جمعت شملهم، وساعدت على إبراز تناقضاتهم، وهي دائرة فرع حلب لاتحاد الكتاب. فقد كان وليد إخلاصي أمين الصندوق (المسؤول المالي)، والنكتة في الموضوع أنه مهندس زراعي، عمل لفترة بسيطة محاضرا في كلية الزراعة، ثم أجبر على العمل في وزارة الاقتصاد. وهناك تسلق المراتب بسرعة وتحول لمدير تسويق من حقه السفر مرتين في العام لعواصم دولية لبيع منتجات تحتكرها الدولة. وكان يعود بخبرات ثقافية مع مؤلفات لا نحلم بدخولها إلى البلاد. ولا زلت أذكر كيف اقتنى من روما (آيات شيطانية) لسلمان رشدي، وكيف لم يستكمل قراءتها بسبب عائق اللغة. ليس الإنكليزية وإنما الهندو التي استعملها رشدي بغزارة. وقد فتح لي أبواب مكتبه ولم يبخل علي بنشر المقالات والنسخ المجانية من أمهات الكتب. أما جورج سالم فقد كان أمينا للسر، له ترسانة دوام يومية بين 9-1 صباحا ثم بين 5-7 مساء. وخلالها يجلس وراء طاولة من حديد وتحت صورة للمرحوم صدقي إسماعيل. ولا أعرف سر تعلقه به. هل لأنه ليبرالي قومي فعلا أم لمكانته عند رئيس الجمهورية؟.

ومهما كانت الدوافع لم يأل يوما جهده للدفاع عن برنامج صدقي إسماعيل، ومكانته المرموقة كمفكر ملتزم لكن فوق الخط الأحمر. فكلنا يعلم معنى أن تكون قريبا من السلطات في بلد تديره الآلة العسكرية ويعيش حالة استنفار دائم.

لكن صدقي إسماعيل حافظ على التوازن بين الالتزام وبين حرية أن تختار وتأخذ قرارك. واستعان بمجموعة من المستشارين المستقلين والمعروفين من أمثال عبد الرحمن منيف (حتى أنه كتب مقدمة أولى روايات منيف وهي "الأشجار واغتيال مرزوق")، ناهيك عن كاتب من وزن جلال فارق الشريف مؤلف (الجذور الطبقية للشعر العربي الحديث)، وخلدون الشمعة (الليبرالي المتزمت المتهم بالترويج الشكلانية في الأدب). وفوق ذلك زكريا تامر ومحمد عمران وآخرين من رموز الحداثة والدعوة لحرية التفكير وعدم توظيف الأدب والفكر في المهاترات على المناصب.

لم أكن ضمن هذه الدائرة المشتعلة، والتي خاضت عدة معارك ثقافية ضد السلفيين وتجار الكراسي، وكان أقصى ما أحلم به أن أنشر في الصحف التي يديرونها. وأتاحت لي الفرصة تحقيق هذه الأمنية جزئيا. لكن التنغيص جاء من طلاب الصف الأول في كلية الزراعة. لأنه دائما بعد نشر أي مقالة لي في الصحف الحكومية كان السؤال التقليدي ما هي مراجعك؟.

فالافتراض السائد في ثقافة روتينية وباهتة ومحرومة من التجديد أن تنقل المعلومات. يعني أن تكون عبارة لتمرير معلومة، أو لتلخيص وتبسيط فكرة. ولم يكن أحد ليقبل فكرة أنني مؤلف. لقد حاصرتني كلية الزراعة وسخافة علومها، ولا سيما ما يتعلق بالارتباط بالأرض. كانت المناهج ولا تزال سكونية، مريضة، مصابة بالسقام.

ولا زلت أعاني الأمرين من سوء الإدارة وصعوبة التفاهم مع ضرورات التجديد وعدم توارث تركة من سبقنا. فالحسنات تذوب بسرعة إن لم تتعرض للشمس والهواء النظيف، والسيئات تتراكم وتكون جاهزة لتدفنك مع مخلفات الأجيال السابقة حتى تصبح جزءا من فلسفة الحجر والغبار، لا جزءا من دورة الحياة الآمنة والمتفتحة.

لقد كنت أجد أنني خيال أو ظل ملقى على الأرض في كلية زراعة حلب، دون أية قابلية للمشاركة بشيء مفيد. وكان لا بد لزهور قلبي أن تذبل، وأن تسقط أوراقها على الأرض وتدوسها الأقدام. وكل ما كسبته من أربع سنوات عناء وكد وشقاء هو تكبير حجم العقدة التي يعاني منها أي مراهق.

وتضاعفت الحالة في كلية الزراعة في جامعة نوتنغهام (إنكلترا). لقد كنت أشعر بالهوان كلما نظرت لموضعي في الحضارة. كان العالم من حولي يدور حول محوره بسرعة البرق، وأنا أحمل آلامي وأوجاعي واحتياجاتي المكبوتة، كأنها درع من عظام، وأدبّ بها على الأرض ببطء السلحفاة. وإذا كسبت من الدكتوراة شيئا فهو اليأس المطبق. لم أكن أجد أي جاذبية في ربط نفسي على الكرسي في غرفة مساحتها 1-2 متر مربع. ولذلك كنت أسرع بإنجاز العمل في المخابر لأتفرغ لكنوز نوتنغهام الحقيقية.

و منها تراث د. هـ . لورنس. وهو من مواليد نوتنغهام، ومن طلبة جامعتها، وله تمثال قرب بحيرة صناعية استلهمته في معظم كتاباتي المتواضعة. وكانت متعتي الحقيقية هي في الجلوس قرب تمثاله والقراءة في كتاب من مؤلفاته. ولا زلت أحتفظ بالطبعة الأولى من روايته الإشكالية (عشيق الليدي شاترلي) التي اقتنيتها بالصدفة من بائع كتب مستعملة في مدينة كولشستير.

ومع أن لورنس لا يزال كاتبا مفضلا عندي، لكن التهمته كله في غضون شهور قليلة، وتابعت مع هيمنغواي وغراهام غرين ورموز الشتات من الأدب الروسي مثل نابوكوف وباسترناك وسولجنتسين وآخرين.

لا تزال العلوم الزراعية لغزا في حياتي. وهو لغز غامض ومعقد، وأمقته لأنه يشل عقلي عن التفكير المسؤول، ويوسع من مساحة الاستعباد والروتين. أو الجانب الببغائي الذي أمقته. وإن كنت أمقت شيئا في حياتي فهو هذا الاختصاص الذي أشعر حياله أنني وضيع ومكسور القلب. فهو سلاسل قيدت حركتي، ومنعتني من الإعراب عن معدني الحقيقي.

طبعا المشكلة ليست في الزراعة ولكن في علاقتي بهذا الموضوع. فهو بعيد كل البعد عن أن يثير اهتمامي، أو أن يحرك شهيتي للمغالبة، أقصد للحوار وبناء الصداقات. ومع الوقت تحولت الزراعة إلى قبر أحمله معي في مشواري المضني في هذه الحياة الكئيبة، أو في أحسن الأحوال لثلاجة أشعر فيها بالتجمد.

لأم كلثوم، المطربة المعروفة، كوكب الشرق،أغنية تقول فيها: أعطني حريتي/ أطلق يديا / لقد أعطيت/ وما استبقيت شيا.

آن الأوان للزراعة أن تموت من الحسد والغيظ. ليس لها في حياتي أي فضل يذكر. أصلا تلقيت تدريباتي في بولونيا على تكنولوجيا اللحوم في مسلخ حكومي في مدينة ريبنيك، وفي إنكلترا على تصنيع وضبط جودة المواد في معهد بولتون للتكنولوجيا. وهناك كل التجهيزات من الحديد. والحديد بلا زهور ولا ثمار. والنباتات الوحيدة التي كنت أراها هي نباتات الزينة في الصالونات.

د. صالح الرزوق

 

....................

*حكاية شارع المتنبي، منشورة في المثقف الإلكترونية عدد4197 السبت 3 آذار 2018 .

للاطلاع

حكاية حياة "شارع المُتنبي" / د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم