شهادات ومذكرات

عاطف العراقي في ذكرى وفاته السادسة.. الإنسان والأفكار

مجدي ابراهيمتمرُّ علينا ذكرى وفاته السادسة فنذكره، مع إنّا لم ننساه، فنذكر المُفكر الذي عاش فكره غير مفصول عن واقعات الحياة. فيلسوف من طراز من الناس ممتاز، تتقدَّم لديه القيم الإنسانية فيوليها كل اعتبار، رعاية وعناية وموالاة، لا يعزل فكره عن إنسانيته، ولا الإنسان فيه بمعزل عن فريضة التفكير. جانبان في حياته هما أهم وأجدر بالحديث عن سواهما، وإنْ كانا هما كل حياته العامة والخاصّة: الإنسانية والتفكير. عاطف العراقي المفكر الإنسان، أستاذ الفلسفة (المولود في مركز شربين - دقهليّة في الخامس عشر من نوفمبر 1935م، والراحل عن عالمنا في يوم الأربعاء الموافق 29/2/2012م عن عمر يناهز 77 عاماً)، رجلٌ هذّبته المعارف فأعطى منها وأبقى، وترك للعقل العربي ذخائر لا يجحدها إلا مُكابر.

عاش أستاذنا إنسانيته وأستاذيته طوال حياته على فضيلة البذل والعطاء ماثلاً في عقلانيته المعهودة، قائماً إلى مُرتقى المثل الأعلى بالإيمان بتلك العقلانية وبتلك الخصائص الإنسانية والفكرية التي تنجم عنها، لم يفت المرض في عضده أبداً مع أخريات حياته، ولا فتر نشاطه تقديساً للواجب ولا نضب عطائه، ولكنه احتفظ بنشاطه الغزير حتى الرمق الأخير. وكان سلطانه على قلوب محبيه : تلاميذه، وطلابه، ومدرسته الفلسفيّة، لا يُضاهى؛ ففوق كونه ملك عزيمة ماضية ومنزلة رفيعة، ملك كذلك فكاهة مرتجلة تنبعث من قرارة وجدانه تدلُّ من الوهلة الأولى على إنسانيته بمقدار دلالتها قطعاً على نزاهته عن تلك القيم الساقطة المبتذلة.

إنما العراقي في فلسفته وحياته كان قيمة كبرى للوعي, وقيمة كبرى للعقل، وقيمة كبرى للنقد وللتنوير. هذا الأستاذ الذي أخلَصَ للفكر إخلاص الصادقين، وتحمل تبْعة الرسالة في شجاعة العارفين، لا يعرف للّين ولا للهوادة طريقاً إذا أتصل الأمر بكرامة القلم والطعن في تقديس الرسالة وخيانة الواجب وزراية الأمانة الفكرية. وبما إنه كان مفكراً طُّلعَة شغوفاً بالتأليف والتدريس وتعليم الطالبين فكان في الوقت نفسه هو هو المفكر "الإنسان" الذي أرتضى لنفسه ولأمته العربية طريقَ النور العقلي تسير فيه : إيمانه بالعقل وقدرته على توظيفه في خدمة قضايا وطنه موصولٌ منذ أن وعي حياةً علميةً منتجةً إلى أن توفاه الله. وفوق هذا كله، أدبٌ جَمُّ في تواضع وعزة نفس، ووفاء وإخلاص ورفق وأريحية صدق، واحترام شديد للمواعيد، والتزام بالواجبات الوظيفية الأكاديمية، وارتباط روحي بطلابه في علاقات إنسانية رفيعة المستوى، وتقدير للصغير وللكبير، وتسامح مع الآخر المختلف في العقيدة أو الدين. في أوصافه الشخصية ومناقبه الخُلقيّة وخصاله النفسية وشمائله الأدبية والفكرية ما لو جمعناه لتألفت منه مكتبة في أدب السيرة الذاتية تقابل في رياض تنوعها وغزارة مادتها وروعة أحداثها مكتبة العقد الفريد ومكتبة الأغاني في الثقافتين الأندلسية والعباسية.

أنا شخصياً تعلمتُ من أستاذي الكثير والكثير .. غمرني بحبه وعطفه وإنسانيته العليا، ووجهني التوجيه السليم من خلال صحبتي له إلى طريقة البحث العلمي الصائب والتنقيب الأمين، وأرشدني إلى أشياء فيما لو كنت بعيداً عنه لجهلتها وما عرفتها قط، ويحفظ صدري منها الكثير.

ولئن كان - طيّبَ الله ثراه - تَرَكَ لنا مدرسةً فلسفية تمتد على مستوى الجامعات المصرية والعربية، ولئن كنّا اليوم بحاجة ماسّة، حرصاً منّا على الجانب الوضيء في هذه المدرسة لا الجانب المظلم الذي يتصارع فيه البعض حول تفاهات ساقطة لا تحمل سوى التنابذ والتشرذم والخلاف ودحض الوفاء : القيم الساقطة التي هاجمها بعنف أستاذنا الرائد رحمه الله، فإننا اليوم، وذكراه العطرة تمُرُّ علينا، نتوقف عند أكبر تلاميذه وأقربهم إليه صلة ومودة وتأثراً، ممَّن خبروه وخبروا حياته عن قُرب، فتوافر لديه مخزون هائل من المواقف الإنسانية للعراقي شهدَها كما شهدها معه كثيرون من أصدقائه ومحبيه، وكلها شواهد صدق على عطاء العراقي النادر، وسماحته وتواضعه وشجاعته وكرمه ورقته وعطفه المشمول ونبل مشاعره تجاه الآخرين، وجميعها شمائل النفوس الزكيّة التي تهفو إليها العقول والقلوب في كل مناسبة؛ هو أستاذنا الدكتور أحمد الجزار أستاذ الفلسفة والعميد الأسبق لآداب المنيا من أوائل تلاميذ العراقي في مصر بل هو أولهم تحديداً، في دراسة كتبها عنه بعنوان (عاطف العراقي .. أفكاره وجوانب من أستاذيته وإنسانيته) ضمن مطويات لم يكن قد نشرها بعدُ، جاءت إضاءة لبعض أفكاره وإشارات ممتعة للقاريء لجوانب أستاذيته ممّا كان لمَسَهُ فيه من قريب.

ويلفتُ نظرنا في هذه الدراسة وقوف الجزار على أفكار العراقي العقلانيّة والتنويرية في مساحة متسعة جديرة بالنظر والاعتبار من جهات كثيرة؛

فهو (أولاً) يُحدّد معياراً لمن يصحُّ أن يطلق عليه صفة المفكر أو الفيلسوف ممّا لا يصح، حتى إذا كانت لفظة الفيلسوف أخصَّ في الدلالة من صفة المفكر وَجَبَ أن يكون المفكرون العظام هم أولئك الذين كرسوا حياتهم رصداً وتحليلاً لواقع الحياة ومشكلاتها في مجتمعاتهم بحثاً عن حلول لها ملائمة.

وهو (ثانياً) يَعْرِض لبعض القضايا الحيويّة التي أوْلَاها العراقي اهتمامه الفكري وطرَقَ عليها دوماً بغير سأم من جانبه ولا فتور؛ كارتباط قضية الأصالة والمعاصرة بفكرة التقدُّم، ثم قضية التعليم التي لا تنفك عن قضية التقدُّم، ويراها "الجزار" إنها بمثابة الشغل والأول والأخير من أشغال العراقي الفكرية لوطنه وأمته. وتجيءُ القضية الثالثة من الخطورة بمكان بحيث لا تقلّ في خطرها عن القضيتين السابقتين، وهى قضية التطرف الديني والإرهاب : واقع أسود من الإرهاب الدامي تعيشه بلادنا فيسبلها النهضة ويعوق تقدمها. بصدق، لو كنا سمحنا لأنفسنا بالاستماع لشيوخ المفكرين التنويريين لأصبح الحال غير الحال، لكننا اعتبرنا كلامهم مجرَّد "حبر على ورق"؛ وهذا هو الواقع يشهد بصحة ما كانوا يقولون. تجيء هذه القضايا كلها مرتكزة على دعائم منهجية : العقل والنقد والتنوير والإيمان بدور العلم في حياتنا الفكرية.

وهو (ثالثاً) يحدثنا عن جوانب من أستاذية العراقي وإنسانته ليدعو خيرة تلاميذه من بعده أن يحملوا الشعلة المقدَّسة، شعلة الوعي والتنوير تماماً كما حمَلَها الأستاذ الرائد بصدق وجسارة، وأن يكونوا جميعاً قبساً من كمال إنسانيته العالية وأستاذيته الرائدة.

واقعياً؛ لن يكون المفكر مفكراً يعرف له دور ورسالة بغير أن تكون وظيفته الحقيقية تغيير واقع الأمة التي ينتسب لها، فلا يكتفي بمجرّد تفسير الواقع أو تبرير ما هو حاصل فيه، ثم يسكت عن تقديم الحلول التي يتغير بها واقع مجتمعه فيما لو تم تطبيقها، لا يكفي هذا؛ لأنه إنْ فعل واكتفى بالتفسير دون التغيير عارض صفة المفكر الذي تؤرقه هموم أمته وقضاياها المصيريّة، فقيمة المفكر الحقيقي لا تتوقف عند حد الأطر النظريّة المُجَرَّدة للقضايا التي تشغله؛ لأن هذا يعدُّ ضرباً من التفسير إنْ هو أفاد من جانب ضرَّ من جوانب أخرى، ولكن قيمته تتحدد بمقدار ما يُسهم به في تغيير واقع الحياة في مجتمعه واستشراف آفاق المستقبل تحقيقاً للتقدُّم, إذْ ذَاَكَ تصبح هموم أمته هى شغله الشاغل فلا يحيا إلا بها ولا يعيش إلا من خلالها.

ولا نزاع في أن أحداً لا يستطيع القيام بهذه المهمة الثقيلة غير المفكر فهو أقدر من غيره على إنجازها, ومن هنا عظمت مسئوليته نحو مجتمعه في حركة دفعه على مدارج التقدم والرقي والحضارة. وفي ضوء هذا المعيار تجيء قيمة المفكر بمقدار ما تكون فريضة التفكير متصلة بواقع المجتمع مرتبطة على الدوام بمشكلاته وقضاياه. وعاطف العراقي بغير مماراة مفكّرُ من هذا الطراز له بصماته الواضحة المعالم في حياتنا الفكرية والثقافية، وهو نموذج للمفكر الملتزم وصورة مثالية مُشرّفة للأستاذ الجامعي القدير وللإنسان بكل ما تحمله الإنسانية والأستاذية من معان نبيلة، تجلت فيه وظيفة المجدّد يقيمها على منهج عقلاني نقدي تنويري بمقدار ما تجلى عنده الإبداع في أتمّ صوره : نبذ التقليد وطرح الجمود وأخذ بروح النقد والاستنارة المعرفية بمثل ما وصف هو فريضة التفكير لدى المفكر الحقيقي أن تكون عقليته مفتوحة تأبى الركون إلى أحادية الثقافة الواحدة أو التخصص الضيق.

فلئن كان المنهج الذي اتخذه العراقي لنفسه وتكوّن عنده منذ أكثر من أربعين سنة هو المنهج العقلاني النقدي التنويري، فلأنه المنهج نفسه الذي سَبَقَهُ إليه مفكرون كبار على مدار نصف قرن من الزمان ممَّن عبدوا الطريق قبله كأحمد لطفي السيد، وطه حسين، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا وغيرهم ممَّن كانت دعوتهم دائمة غير منقطعة لفكرة التقدّم عملاً وعلماً، فالعالم ليس فيه مكانٌ للضعيف نظراً أو عملاً، ليس فيه إلا القوي علماً وعملاً حتى إذا ما أخذ المفكرون دورهم المنشود في مجتمعاتهم لكي يحققوا تقدماً بين الدول المتقدمة رأينا العراقي يصرخ في لوعة مخامرة : أصبحنا كعرب أضحوكة بين أمم العالم، الأمم التي أرادت لنفسها التقدُّم إلى الأمام فلم يعد فيها مكان إلا للأقوياء ممَّن ملكوا أدوات العصر وآلياته، علماً من جهة الإبداع، وتكنولوجيا من جهة التطبيق.

عمليَّاً؛ فقدان الأيديولوجية العربية كان هو الأرق الدائم لبصيرة المفكر التنويري، الأمر الذي غلب فيه على أستاذنا الرائد نزعة التشاؤم التي سَرَتْ في كتاباته، وكان سببها غياب تلك الأيديولوجية ممّا غَاب معها تحديد مستقبل مجتمعنا العربي؛ إذْ فقدنا صياغة موحدّة لبناء ثقافي يُشَكّل في مجموعه إطاراً مرجعياً لحركة العقل العربي في كل ما يُصَادفه من مشكلات وما قد يقف في طريقه من عقبات أو أزمات أو إشكالات يحتم علينا طرحها وحَلّها بالضرورة.

أمّا عن فكرة التقدّم وارتباطها بمشكلة الأصالة والمعاصرة؛ فهى قضية مركزية تدعو إلى الأسى حقيقةً : أن يحاول البعض البحث عن حلول لمشكلاتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية في واقعنا المعاصر بالنظر في تراث الأقدمين غير مراعين فروض التطور واختلاف العصور والأزمنة، وبما إن اللحَاق بركب الحضارة يعدُّ قضية وجود بالنسبة لنا، فمفتاح التقدَّم عند العراقي لا يتحقق بالانكفاء على كتب التراث وعبادة الماضي بدعوى الأصالة، ولمجرَّد أنه ماضي تراث الأجداد، وإنما يتحقق بالاعتماد على العقل ممثلاً القوة المبدعة الخلاقة القادرة على أحداث نقلة حضارية منشودة. عن طريق العقل يمكننا المشاركة في التقدّم، وبغيره تنغلق أمامنا كل التيارات من حيث لا يُرْجَى الإصلاح مع التقوقع والانغلاق.

وتأسيساً على إمكانات العقل والاحتكام إلى منطقه يصبح العلم - في إشارة الجزار عن العراقي - ركيزةً لا غنى عنها في إحداث التقدُّم، لأن منطق العصر وحضارته صَارَ محكوماً بالعلم بوصفه إبداعاً وبالتكنولوجيا بوصفها تطبيقاً، وإذا كان العلم فيما مضي ضرورة، فإنه في حاضر الناس أوجب ما يكون؛ لأننا في عالم جديد أصبح بفضل التطورات العلمية قرية صغيرة.

وكما كان الإيمان بالعقل والعلم قناعةً لا شك فيها عنده، بموجبها والعمل لأجلها يكون التقدُّم الذي يمثل استنارةً واعيةً برسالته التنويريّة، كذلك كانت قضية التعليم، القضية الثانية من تلك القضايا المجتمعية. وأولُ ما يُلاحظه العراقي هو غياب المنهجية النقديّة من مناهجنا التعليمية وبرامجنا الدراسية. ويرى "الجزار" إن التعليم الذي ينشده أستاذنا رحمه الله ويتلاءم مع التقدّم الذي يؤمله هو التعليم الذي يرسّخ مبدأ الإبداع ويزيده توهُّجَاً في استعداد المتعلمين.

لقد كان حُلماً موثوق السياق لديه بتقديس العقل وحرية البحث العلمي أن يكون الربط محكماً وثيقاً بين والتعليم والإبداع. أمَا وقد أخفق نظامنا التعليمي في دحر الأفكار الظلاميّة من المناهج الدراسية وتقويض مساحتها المتسعة واستبدالها بمساحة التنوير، فلا مناصَ من أن تقوم المناهج التعليمية الحالية على الحفظ والتقليد والترديد والتلقين من جهة، ونبذ التجديد والإبداع والابتكار من جهة ثانية. على أن غياب الروح النقديّة في مناهجنا الدراسية الحالية في مستويات التعليم بمراحله المختلفة قبل الجامعة ثم في الجامعة نفسها لهو السبب المؤكد المباشر في قتل روح الإبداع في نفوس الطلاب.

وسيادة نزعات التقليد وتدهور دور الجامعة وقلة صياغة عقول الخرجين صياغة منهجية ودعمها بالروح النقدية المنظمة المبدعة؛ كل أولئك من العوامل التي أدَّت إلى فشل دور الجامعة التنويري في إشاعة الوعي والثقافة والتنوير وتخريج أجيال لها القدرة على صناعة المستقبل الجديد.

بديهيّاً؛ إنّ النظرة التجديدية كما يَرَاها العراقي لا تقوم على رفض التراث جملة وتفصيلاً كما لا تقوم على الوقوف عند التراث كما هو ودون أيّة محاولة لتأويله أو تطويره، بل إن النظرة التجديدية تعدُّ معبرةً عن الثورة من داخل التراث نفسه : إعادة بناء التراث ليكون متفقاً مع العصر الذي نعيش فيه، والفرقُ كبيرٌ جداً بين التمسك بالبناء القديم كما هو بصورته التقليدية وبين إعادة بناء (Reconstruction) التراث ممّا لا يحمل مطلقاً في طياته هدماً أو رفضاً.

وبفقدان نظرة التجديد ممَّا قد يوجد في بعض كتب التراث، وممَّا من شأنه أن يقدّم منه لطلابنا في مراحل التعليم الجامعي من دراسة للآراء العلميّة لدى العلماء العرب أمثال جابر بن حيان وابن سينا والحسن بن الهيثم وأبي بكر الرازي وغيرهم من علمائنا العرب، فقدنا بالتالي الأهليّة التي بها يتكوَّن العلم وتتنامى ناهضةً تلك الروح العلمية، إذْ كان هذا كله لا يساعد على الإبداع ولا يقوّمه ولا يقوّيه؛ لأن الطابع الكمي غالب عليها بدلاً من الطابع الكيفي. وبالنظر إلى دور الجامعة الأكاديمي لم يعد ممكناً في ضوء الآلاف المؤلفة من الطلاب، وفي ضوء مأساة الكتاب الجامعي والمناهج التعليمية العقيمة، وطمع الأساتذة والمدرسين في أكل السحت والمتاجرة بالمذكرات المسروقة من وراء تعليم الطلاب إنْ في المدارس وإنْ في الجامعات، لم يعد ممكناً الحديث عن دورها الثقافي.

إنّ إطلالة عارضة على واقع الجامعة لينذر بالخطر حقاً؛ فليس بأمين على رسالة الوطن من يُلاحظ انهيار الجامعات المصرية سواء في مستوى التعليم الجامعي أو في مستوى الدور الثقافي ولا يرفع صوته عالياً ليحذر من كارثة مُحَققة، إننا توسعنا بغير حدود في التعليم الجامعي، ذلك مُشَاهد في كل إقليم من الأقاليم المصرية الأمر الذي نحمده للدولة، لكن هذا التوسع الذي نجده توسعاً أفقياً وليس هو بالتوسع الرأسي، صارت معه الجامعات مُجَرَّد امتداد للمدرسة الثانوية على الرُّغْم من اختلاف أهداف التعليم الجامعي عن التعليم الثانوي، فليس يكفي لإنشاء جامعة أن تزيل لوحة مكتوب عليها مدرسة ثانوية لتضع بدلاً منها كلمة كلية أو جامعة علماً بأن هذه الجامعات وبعض الكليات يعوزها نقص الإمكانات البشرية بصورة مرعبة حتى أن بعضها لا يوجد بها إلا أستاذ واحد ! ناهيك عن المستوى العلمي المتردي لأكثر الأساتذة، وفاقد الشيء كيف يُرجَي أن يعطيه ؟

فلسفياً؛ هذا تشخيص من مفكر جاهد في سبيل التعليم كتابةً وتدريساً سنوات طويلة، فهو يعي ما يقول ويُخلص فيما يقول؛ فما من هوَّة وسيعة بين فكره وعمله، ولا بين قوله وسلوكه، أتساق واضح بين الخطاب الأيديولوجي والممارسة الفعليّة.

أما القضية الثالثة، قضية التطرف الديني والإرهاب؛ فهى أخطر القضايا الوطنية على الإطلاق، وليس من شك في صلتها الوثيقة بكل القضايا السابقة عليها؛ فتعليم فاسد، وثقافة مُتَرَديّة، وانحراف عقائدي، وتديّن شكلي، وانحلال خُلقي، عوامل هدم تشكل جرثومة التطرف والإرهاب. لم تجد أيديولوجية الإرهاب الفاسدة العناية الكافية من مثقفينا وكتابنا ومفكرينا بتسليط الضوء الساطع عليها فيما يسمح بمجابهتها بأسلحة النقد العنيف، وتحليل عناصرها المؤبوة إلى جذورها العفنة المتآكلة حتى لا يقترب من تلك المنطقة السوداء أحد، وبخاصَّة فيما تضمَّنته بعض كتب التراث أو فيما اشتملت عليه آراء فقهاء الهَدْم ممَّن قيّدوا عقولهم مغلولةً بقيود التقليد. كنّا نأمل أن تتكشف للأعشى قبل المُبصر جوانب التخلف والرجعية في هذا الفكر الظلامي الأسود المحظور، ولكن مع شديد الأسف وجدنا له أنصاراً وأتباعاً ناهيك عن دول كبرى بمؤسساتها التقليديّة الثرية ماديّاً تدَعّم هذا الفكر وتقف من خلفه مساندة ومؤيدة، الأمر الذي أتاح الفرصة سانحة لأصحاب الثقافة المحدودة أن يخرِّجُوَنه للناس باعتباره الفكر المحافظ على الدين، والدين منه بُرَاء، الحامل لروحانيته وسماحته وأصوله، الجاذب لعقول بعض الشباب، وهى عقول كما نعلم فارغة من الوعي والثقافة والتكوين أو تكاد، تغيب عنها الرؤية النقديّة لما يعرض عليها للوهلة الأولى من بضاعة كاسدة فتنساق طيعة مختارة انسياق السوائم مع مثل هذا التطرف الديني المَرَضي أو مقهورة تحت وطأة الظروف الاجتماعية الضاغطة كما يُتَوَهم، وإنْ كان كاتب هذه السطور يرى أن هذه الظروف؛ ومنها الفقر تحديداً، لا تخرَّج إلّا الأبطال، فالقسوة تصنع الرجال ولا تصنع الضعفاء المنتقمين، والثراء الفاحش لا ينشئ عقولاً راقية؛ فيحدث من ثمَّ ما لا قِبَل لنا بمواجهته من وخيم العواقب وشديد النكبات : الإرهاب والتطرف والعنف والكراهية السَّافرة المدمّرة للنفس وللغير.

يكفي مثلاً إن خطر الإرهاب يحمل أبلغ إساءة إلى الدين من ناحية، ويضرب الوحدة الوطنية من ناحية أخرى، ويتسبّب في إهدار طاقة الوطن وضرب استقراره وإعاقته عن بلوغ أهدافه. يُلقي العراقي الضوء حول هذه القضية في أكثر كتاباته، ويوافقه الجزّار ما دام خطر الإرهاب يُهدّد نسيج الوحدة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد من المسلمين والمسيحيين، كما يكشف عن نزعة التسامح لدى مفكرنا وضيقه ممّن يمكرون بإخوانهم ويسيئون إلى الإسلام من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فلا خيرَ في مواطن يكتفي فقط بإقامة الشعائر الدينية دون أن يجعل من سلوكه تعبيراً عن جوهر الدين. إذا كان هناك تلوث مادي يتمثل في الهواء والأغذية مثلاً، فأشدّ منه خطراً هو ذلك التلوث الخُلقي يغرس الفتنة الطائفية بسَفَه عقلي في نفوس أبناء الوطن الواحد.

يرى العراقي إن هذا السلوك فوق كونه مشيناً فهو كذلك غريب ودخيل على مصرنا الغالية؛ لأن مصر منذ آلاف السنين يعيش فوق أرضها أبناء الديانات كلها ولا مكان في مصر لمن يتاجر بالدين ويقوم باستغلاله لتحقيق مآربه الشخصيّة.

إذا رَدَّ أحدهم الإرهاب إلى أسباب اقتصادية، فإن العراقي يَسْخَر من هذا التخريج البليد، فليس الفقر سبباً أساسياً في وجود الإرهاب أو التطرف، هنالك أناس يعيشون في حالة من الفقر، ومع ذلك فهم أناسٌ يؤمنون بربهم ويؤمنون بوطنهم ولا صلة لهم من قريب أو من بعيد بالفتنة الطائفية. ولا يمكن التهوين من التطرف فيما وصلت إليه أحوال المروجين لهذا الفكر المتخلف، ومن بين أسباب ظهوره التي يراها العراقي سبب واضح وشديد الوضوح هو الخلط الشنيع بين الدين والسياسة.

وبما أن الدين هو أولُ ما يمتزج بالقلوب ويرسَّخ في الأفئدة وتصطبغ النفوس بعقائده على حد قول الإمام محمد عبده، فيكونُ له السلطان على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات، فوجبَ من هنا إشاعة حب احترام الإنسان ومعتقداته بغض النظر عن الخلافات بين الأديان، كذلك يجب أن نولي العناية بالغةً في مناهجنا التعليمية بتكثيف الاهتمام بالجانب العلمي والموافقة بين الجانب الروحي والجانب المادي في تصور الحضارة، وتقويض الأفكار الهدّامة البالية المستغلة من قبل المهاجمين للحضارة تحت دعوى التغريب وخرافة الغزو الثقافي؛ فإذا عرفنا هذا وتمثلناه كان من أوجب الواجبات علينا التركيز في مناهج التعليم على الأعمال الشامخة التي قام بها المسلمون والمسيحيون سواء في الماضي أو في الحاضر، حتى إذا وجدنا فلاسفة مسلمين في الحضارة العربية، فإن الفضل يرجع بطبيعة الحال إلى وجود حركة الترجمة وازدهارها على أيدي النصارى ممّن ساهموا باعمالهم الباقية في هذا الدور التاريخي السامي؛ وهو فضلٌ ليس بالقليل. وبالمثل؛ يمكننا التركيز على استفادة الأوربيين من العرب في العصر الوسيط.

هذا هو عاطف العراقي أستاذنا ومعلّمنا ورائدنا كما عرفناه : المفكر، المُصلح، الإنسان. قيمة كبرى لنا وللأجيال القادمة، تصدر عن قيم عاشها حياة وخَبَرَ ثمارها في نفسه، ثم أرسلها عن إيمان وقناعة لأبناء وطنه. قيمة فكرية تحفظ للعقل مكانه ومكانته، تسلحه بالمعرفة، وتغرسه في الوعي، وتصقله بالدراسة والتهذيب، وتوصله بالإصلاح لجوانب الحياة مجتمعة، ومن ورائه استطاعة القصد موصولاً بالله على قدر الطاقة. طيّبَ الله ثراه، وروّح الله روحه، وغَفَر الله له، وجعل أعماله الخيّرة في ميزان حسناته, وبارك في عمر تلميذه الأول أستاذنا أحمد الجزار الذي نسعد اليوم بكتابة كتاب تذكاري عن أعماله الفلسفية والصوفيّة فهو جدير عن استحقاق بتعريف الأجيال القادمة بفضله ودوره ومناقبه العلمية والتصوفية وريادته للمدرسة العراقية في مصر والعالم العربي.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم