شهادات ومذكرات

"الشوصة" القلعاوية محلة من الناصرية مثال للإيثار والتضحية

علي المرهجكُنت أسكن محلة في مدينة (قلعة سكر) أسمها الشوصة، وللشوصة معان عدَة ففي مُعجم الوسيط تعني: الدلك في اليد، وتعني أيضاً وجع الضرس، أو وجع البطن. وفي تاج العروس تحمل ذات المعاني، وفي صحاح اللغة تعني: الغسل والتنظيف، والمعنى ذاته في مُختار الصحاح ولسان العرب، فكل شيء غسلته فقد مُصته كما يقول ابن منظور في لسانه، ولها ذات المعاني في كل معاجم اللغة التي تعرفونها. هذا من جهة الإسم، أما من جهة الفعل، فالفعل هو شاص، ومعناه أيضاً مُرتبط بالإضطراب والوجع، وله دلالة أخرى هي التدليك أو التنظيف أيضاً.

وربما تكون التسمية مُستعارة من إسم محلة الشوصة الكائنة في الكاظمية، فأبناء مدينة (قلعة سكر) كانوا كثيري الزيارة للإمام الكاظم، وربما أُعجب أحد ساكني المحلة قبل تسميتها بإسم هذه المحلة الكائنة في مدينة الكاظمية فأطلقه عليها، وفي كل الأحوال فالمعاني هي هي.

ولكنني أُرجح أن تسمية المحلة بـ (الشوصة) مُقترن بفعل أشاص الذي يُطلق على النخيل في حال سوء تأبيرها أو تلقيحها، فيُقال (أشاصت) النخلة، أي حملت تمراً لم يتم نُضجه، وترجيحي للتسمية متأت من كون المحلة موجودة في مكان تُحيط به البساتين من أغلب أطرافها، فهي "شُبه جزيرة" تُحيطها البساتين والخُضرة من أطراف ثلاث، وكُنت فيما رويت من "حكاية حياة" قد أشرت لهذه البساتين، ومن أهمها بستان "الكواظمة" وبستان (عيلان)، وبستان (سيد إبراهيم)، وبستان (نمر)، ولا تبعد عنها كثيراً بساتين الخماس، فلربما في سنة من السنين، لم ينضج البلح فيها، فشاص التمر، لسبب أو آخر، فسُميت بهذا الإسم. وأظن رغم جرف كثير من بساتين النخيل المُحيطة بها في أيامنا هذه، لكن ما تبقى من هذه البساتين لا سيما بساتين الخماس لا زالت هي المصدر الرئيس لإنتاج التمر فيها.

ولنعود للمعاني التي ذكرناها، فهي ذات الدلالة والمغزى إنثربولوجياً واجتماعياً، فحينما يكون معنى الشوصة "دلك اليد باليد" فقد كان أبناؤها (يطك الراح بالراح) أو (يطك الإيد بالإيد)، والراح مُرتبط لغوياً بالراحة والإرتياح، ومرتبط بالرواح، أي بما فقد الشخص من ماله، ولربما من رواحه، أي مُغادرته للحياة، أو مُرتبط بزيارة المُحب لأحبابه، فراح لهم للترويح عن نفسه.

يا للتعب، ليس في الحياة فقط، بل من تعدد الدلالة اللغوية للمفردة الواحدة في اللغة العربية، فهي تحمل في الوقت ذاته المعنى ونقيضه، ولربما يكون في حياتنا الواقعية العربية أو العراقية ما يُبرر تناقضات المعنى اللغوية، فأنت قد تتعرف على شخص طيب مُفرط في الطيبة، ولكنك ستكتشف أنه شرير في غاية ما يكون عليه الأشرار ساعة غضب وقهر ساعة إحساسه بالظلم، أو ساعة إيقانه بتعرضه للخسارة في الحياة العملية، فاللغة والألفاظ هي نتاج مُجتمعاتها، وقد ذكر ذلك علي الوردي في جُلَ كتاباته، فنحن طيبون مُسالمون حينما تكون مصالحنا الشخصية بمنأى عن الخسارة، ولكننا أشد من الشيطان شراً حينما نجد أن هناك من يروم تعريض مصالحنا للخطر، فلا منزلة له عندنا بين منزلتين، فإما أن يكون معنا أو يكون ضدنا، و(الشر نتحزمله حزام.. إوما عاش العادانه ولا نام)، والعداوة ـ ربما ـ تكون هي إختلاف في الرأي فقط لا غير!!.

وسأعود لمفردة الدلك بمعنى الغسل والنظافة الذي هو من معاني الشوصة، وهو معنى مُفارق لواقع المحلة، وحياة أبناؤها، إن كان المقصود فيه كُثرة التغسيل، ولكن إن كان يُقصد به كُثرة السباحة في النهر، فأغلب شبابها، بل وصبيانها كانوا ممن يُتقنون السباحة في نهر الغراف، ولكن لا نظافة في المحلة، فلم أشهد يوماً عُمال نظافة مرَوا بها، فكانت مياه التغسيل في البيوت تذهب لسواقي في وسط (الدرابين) الملأى بكل ما هو آسن، تأتيك الروائح الكريهة من كل حدب وصوب، أما مياهها الثقيلة، فكانت تُحفر لها خزانات في داخل البيوت أو خارجها، حسب مساحة البيت، فإن كانت صغيرة فهي ـ بالتأكيد ـ داخله، وإن كان البيت واسعاً، فهي في خزان في باطن الأرض يقع خارج البيت، تُغطى فُوهته بصفيحة من "التنك" أو أي قطعة حديد كبيرة مرميٌ عليها بعض من الطابوق أو (بلوكه) كي لا تطير، يأتي (النزاح) كل ثلاثة أشهر ليُفرغ ما فيها، ولم تكن سيارته كما هي السيارات الحوضية الآن، فهو يسحب المياه الخفيفة، ولكن الثقيل منها ينزل هو بنفسه حاملاً صفيحته، ومعه أحد أبنائه، فيدخل الأب في داخل خزان الكراهة هذا فيملأ الصفيحة بثقيل ما فيه، ليُعطيه لولده، والإبن بدوره يحمل (التنكة) التي يتساقط منها أكره ما تشم الأنوف، ليفتح فوهة خزان سيارة النزح الموجود وسط الخزان في أعلاه.

وكان لمختار المحلة (أبو غايب) دوره في ترتيب (درابين) المحلة وتحفيزه لأهلها الطيبين في التبرع لـ (صبها) بمادة الإسمنت المخلوط بالرمل والعمل المجاني، فتفاعل معه أهل المحلة، وصارت (الدرابين) أكثر نظافة، فصار في وسط كل (دربون) ساقية صغيرة من (الكونكريت) لتصريف مياه الغسيل. ألا يستحق هذا الرجل التقدير والإحترام والترحيب والتهليل، لكنه مات بشكل مُفاجئ وغادر المحلة بصمت، وظلت ام غايب لوحدها بعد أن غادرها ابن أخيها سلمان الذي ربته لأن الله لم يشأ أن يتكون لها ذرية، فبعد إكمال سلمان لدراسة الطب البيطري في جامعة بغداد، وقد كان من المُتفوقين، هاجر إلى المنفى من غير أن يعرف الكثير من أقاربه ومُحبيه وجهته، ولكن بعد سقوط النظام عاد سلمان شيخاً ورجل دين يعتمر العمة، وقد تبين أنه قد هاجر لإيران، وقد درس في حورزة قُم، فعاد إلى (قلعة سكر) رجل دين بعد أن غادرها رجل علم، ولكنه لا زال حميماً طيباً ورجلاً وقوراً، ولا زالت أمي تذكره وكأنه واحد من أولادها، وقد إلتقيته قبل مدة وتبادلنا بعض من حديث الذكريات السريع، فكل منا له حياته وإنشغالاته، ولكنه لا زال حاد الذكاء حسن المعشر، يقطن في النجف الأشرف، ولكنه يُعاود أهل القلعة ولا ينقطع عن زيارتها.

لأعود لمعنى الشوصة اللغوي، فمن معانيها الوجع، وهي بحق وجع، وجع في الحياة وشظف العيش، فأغلب أهلها يُعانون الشدة والضيق في توفير لُقمة العيش، فهي من محلات قلعة سكر الفقيرة، هي محلة يقطنها فقراء أرض سومر، وهي محلة تُعطي وتمنح حياة أبنائها من أجل عيش النُبلاء بسخاء، لفرط إيمانهم وعشقهم للأرض والمُعتقد.

كنت أسمع صُراخ الأمهات الثكلى ممن فقدن أولادهن في حرب قادسية صدام من الذين تُجلى جُثثهم من أرض المعركة، فيأتي بها صديق للشهيد ليُسلمه لمركز الشرطة القريب من محلتنا (الشوصة)، فأهرع راكضاً أتبع صدى أصوات الأمهات المُدوية التي جلجلت الأرض، ولكن السماء سكنى، وأنا أبن الثانية عشرة خطواتي كخطوات (الكنغر) لا أركض بل أقفز لأصل لاهثاً لأجد نفسي واقفاً أمام مركز الشرطة المُكتظ باحته بأناس من رجال ملأ التراب جباههم ونساء مزقن أزياق أثوابهن، ونعش مُغطى بعلم أو راية الوطن، وطن نموت ويحيا هو، وكنت أتمنى أن يموت الوطن ويحيا الإنسان، كما كتب صديقي القاص باسم الأنصار "نحيا ويموت الوطن"، فالوطن لا يعني الأرض، إنما هو الإنسان حينما يعيش بكرامة، فلا وطن = أرض بلا إنسان = مواطن من دون كرامة، فكرامة الوطن وعزته هي إحساس الإنسان فيه بأنه مواطن له حقوق وعليه واجبات، ولكن أوطاننا وحُكامها يُطلبونَا بالواجبات وينسون أن لنا عليهم حقوق.

غادرت قلعة سكر وأنا أبن الثامنة عشر بعد تخرجي من الإعدادية، وتمكنت من إجتياز كثير من مرارات العيش بالكد والعمل والدراسة، فأكملت دراسة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وعُينت تدريسياً في الجامعة المستنصرية، ومرت السنون، وبعد سقوط النظام وتغيَر الحال والأحوال، ولا أُخفيكم سراً أنني كُنت ولا زلت من الناقمين على كل حُكم دكتاتوري فردي، وكان نظام صدام من أشد أنواع أنظمة الحُكم الإستبدادي ظلماً وعُنجهيةً، وكُنت أتمنى وأنتظر، بل كُنت من الفرحين بإسقاطه لظني أن أمريكا جاءت لنشر الديموقراطية في الوطن العربي ـ يا لغبائي ـ لأنني كُنت أعتقد أن مثل هذه الأنظمة "التوتاليتارية" الشمولية أنظمة فاسدة ولم تعد صالحة لا للاستخدام ولا للتوظيف (الكولنيالي)، ولكنَي وجدت العراق حاله كحال ديَكة ضعيفة يحكمها ديك قوي، فما أن مات هذا الديك، حتى وجدنا الصراع على أشده بين هذه الديَكة التي كانت تطمس رؤوسها في الرمل، فصار يأكل بعضها بعضاً، فحل ما حل بالعراق مما أنتم ونحن نعرفه من صراع طائفي ومذهبي وعرقي، إلى أن وصلنا لما وصلنا إليه ثلث أرض العراق بيد رجال سفلة متأسلمون جاءوا من كل فيافي البسيطة والثلثين الباقيين يحكمها أُناس جهلة متأسلمون أيضاً ولكن بتصور وتفسير للأسلمة مُعاكس ومُغاير لمن استطاعوا حُكم الثلث الأول من الذين أعلنوا قيام "داعش"، الدولة الإسلامية في العراق والشام، فما كان من السيد السيستاني إلَا إعلان "الجهاد الكفائي" وتشكيل الحشد الشعبي الذي كان له فضل تدعيم القوات المُسلحة العراقية من جيش وشرطة وجهاز مُكافحة الإرهاب، رغم الأفاعيل الشائنة لبعض من المُنتسبين له اليوم، فكان أبناء الجنوب هم أكثر المنضوين والمُستجيبين لهذه الفتوى، وأبناء الناصرية هم أكثر العراقيين استجابة لهذه الفتوى، فتفوقوا في التضحية والإيثارعلى باقي المحافظات، فكانت مُحافظة ذي قار ولا زالت تحتل الصدارة في عدد الشهداء والجرحى من أبنائها، وللقلعة نصيب كبير في أسهم التضحية والتسابق لنيل الشهادة من أجل الوطن الذي لم ينالوا حصة منه سوى أنهم "فتية آمنوا بربهم" ووطنهم، ولكن وعد الله لا يناله العباد بوصفه "قيمة فورية" بعبارة وليم جيمس فيلسوف البرجماتية إنما هي قيمة ينالها العبد بعد حين.

الوطن هو أرض لا تُجازي العبد، فلا مُجازاة عند الحجر للبشر، وأما حُكام الوطن، فهمن "في غيهم يعمهون" أو في "طُغيانهم يعمهون"، بل "دعهم في غيهم يعمهون".

سأعود للشوصة التي زرتها قبل أيام، فوجدت مدخلها المؤدي لمدينة قلعة سكر مليء بصور الشُهداء من الشيب والشباب الذين استجابوا لفتوى "الجهاد الكفائي" من الذين سالت دماؤهم الزكية على أرض العراق في غربه وشماله، ووجدت البساتين المُحيطة بمحلتي (الشوصة) أصبحت مساكن عشوائية وزعت بطريقة بدائية خارج شروط الهندسة المدنية ومُقتضياتها المعمارية، فقد جُرف نخلها ورمانها وكل أشجار الرارنج والتفاح العراقي الذي كُنا نقطفه لسد جوع أو لرغبة في الكسب (البلاش) على قاعدة (ذُقت الطيبات كُلها، فلم أجد ألذ من البلاش)، وكان صاحب البُستان يعرف بأن هناك صبيةً من أمثالي يقطفون ثمر الرارنج والتُفاح قبل أوانه، وهو يقبل على مضض، ولكننا كُنا نأكل ما يسد الرمق، شاء أم أبى صاحب البُستان، لأن في حموضة الرارنج والتفاح ساعة قطفه قبل الأوان ما يُسكن روع "النفس اللوامة" ويُوقف سيل لُعابنا نحن الصبية الذين لا يعرفون ولا يُقدرون مُعاناة ما تعلمته أمهاتنا في سبعينيات القرن الماضي في محو الأمية من عبارات أمثال "راشد يزرع وزينب تحصد" وأُبشركم نحن (الرجال) من كان يحصد، والنساء هن من كُن يزرعن.

ولا زالت أمهاتنا يزرعن الأمل ويحصدن الأمل في الشوصة وقلعة سكر وكل أرض السواد (العراق) من شماله إلى جنوبه.   

     

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم