شهادات ومذكرات

الفقر سجن الطفولة في زمن الحرب

علي المرهجغريب هذا العراق، كُتب الكثير عنه بأنه أرض الخيرات، وأنه أرض السواد، بقصد أنها أرض خيرات، ولكن سوادها لا يبدو لي ولكل عراقي فقير أن في السواد من معنى غير خصب أرضه وكُثرة خُضرته.

وبقدر ما فيه من توصيف لحال العراقيين أيام إزدهار حينما توصف أرضه بأنها أرض السواد، فستجد أن فيه من فقر الحال وسواد أيامهم ما تحير في تفسيره العقول من فرط خرابه جيل بعد أجيال، وكأن هناك قدر إلهي قد كتب حاضرهم ورسم مُستقبلٌ لهم قريب، وربما بعيد: أن السواد هو لباس الفقراء، ومن يبتغون العيش في سواد يشهد له تاريخ التقتيل والتعذيب، مُذ قال الحجاج قولته الشهيرة "يا أهل العراق، وأهل الشقاق والنفاق، أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطاقها"، أو ربما سواده منذ دخل هولاكو بغداد فملئ نهر دجلة بدماء أهل بغداد فقيل أن لونه قد صار بلون الدم، وقيل أنه رمى مكتبات بغداد في نهر دجلة في الوقت ذاته، فاختلط لون الدم الأحمر بلون الحبر، ولأن آلاف من الكُتب قد رُميت في النهر، فقد طغى لون الحبر الأزرق القاني بلون لدم، فصار أشبه بلون السواد، وربما قبل ذلك حينما إسود وجه العراقيين حينما لم ينصروا الحُسين، وربما، وربما،.. وفي المُقابل أستطيع أن أضع لبغداد والعراق من مباهج التاريخ والتأثير والتغيير في مسار الإنسانية صحائفٌ وكُتب، ولكن يبدو لي أن السواد صار صفة لنا نحن العراقيون من فرط الظُلمة التي غشت على أبصارنا، أو من فرط (البغددة) التي رأسماليونا في عصرنا الذهبي التي غيبت بياض ما صنعه العراقيون، فقد ذكرت التواريخ أن هارون الرشيد كان ساعة مُخاطبته للغيمة بقوله "أينما تمطري فإن خراجك يعود إلي" كان نصف سُكان بغداد جياع، واليوم، ونحن نُصدر أكثر من أربعة ملايين برميل بسعر 65 دولار أكثر من نصف العراقيين جياع، فأي قدر أحمق الخُطى هذا الذي نسير على خُطاه نحن العراقيون.

فكُنَا أيام الحرب العراقية الإيرانية أطفالاً، ولكن الفقر لم يشأ أن يُغادرنا، فبعض منَا، أو كثير، كان أبوه جُندياً، راتبه لا يكفيه، ولم يكن أمام الأم سوى البحث عن فرص للعيش بكرامة، ومن فرص العيش، تشغيل أبنائها الصغار، فبعض منهم يستأجر عربة لنقل البضائع في السوق، وبعضهم يعمل في بيع أكياس، أو(كواغد) وهي أكياس من الورق تُضع فيها الفاكهة أو الخُضار، أو (علاليك) وهي أكياس من (النايلون) يضع فيها المُشترون الخُضرة أو الفاكهة، وهناك من يعمل في بيع (الأسكيمو)، وهي من إسمها مُشتقة من برد بلاد الأسكيمو (بلاد الثلج)، وهي خليط من مُطيبات صناعية بطعم الفواكه تُخلط ببعض من الماء والسكر لتوضع بأكياس، وبعد ذلك يتم تجميدها في (فريز) الثلاجة، وبعد تجميدها يحملها الطفل بـ (فلين) (عازل) لحفظها من الذوبان، ليبيعها في محطات البانزين أو في تقاطع الطُرقات، وإن أثبتت الأم صناعتها وإتقان خلطتها وتحسس المُشتري للذتها الفائقة، فهناك بعض من هؤلاء المُشترين يبحثون عن بيت البائع (الطفل) كي يستمروا بشرائها.

بعض الأمهات، كانت تصنع الشيرة، وهي مادة خليط من السُكر والماء طُعوم الفواكه، يتم (تفويرها) في إناء على نار هادئة، وحينما تصل إلى مرحلة (اللزوجة) تُصب بـ (صينية) مملوءة بالطحين، فيها فراغات على شكل دوائر، يُراقب الأطفال صبها كأقراص بألوان زاهية. ألوانها تخترق بجمالها ألوان الطيف الشمسي وتتجاوز تشكلاته. كل طفل ينتظر قرصه الذي يختاره بلون، وكل لون في أقراص (الشيرة) مُزده، وربما كل طفل يختار لونٌ له من الشيرة التي صنعتها أيادي أمهاتنا من حنينها الذي عجنته (شيرته) بطحين يرسم ألوان الطيف الشمسي ويخترق تعدده، ليصنع ألوناً لحياة أزهى وأحلى، فيها من قداح صبرهن وبنفسج جمال روحهن ورازقي طيبتهن ألوان محبة عراقية، لا أمل بزوج أت من براثن الحرب ورُكامها، إنما هي أقراص من (شيرة) لزجة في من بعض من بقيا الأمر في سُكرها، وطحينها الأسمر الذي تصنع به قرص الخُبز قبل أن تصنع منه قرص (الشيرة).

ولا أنسى، ولن تنسوا أن كثيراً من أمهاتنا قد قضين ليال يُنقعن الحُمص ويطبخنه على نار (الجولة) وهي آلة للطبخ وقودها النفط الأبيض بديل للطباخ الغاز ليكون "اللبلي"، وبعضهن يطبخن الباقلاء، بعد تنقيع، لنخرج نحن أطفال في الحرب العراقية ـ الإيرانية، بعد غياب الآباء، من الذين أكلته دوامة الحرب فقُتل دفاعاً عن أرضه أو عرضه، فه شهيد، ومنهم من لم يُعرف مصيره، فقُيَد بأنه فقيد، وآخرون عرفت أُسرهم بعد زمن أنهم أسرى، ولكن زوجات جميع هؤلاء وأولادهم وبناتهم، إنما هم يعيشون في الحياة، ولكن الأجدر أن يُسجلوا في أنهم من ذوي الإعاقة النفسية، ومن ضحايا الحرب التي خرج منها المُتحاربيَن، بُمعاهدة ينطبق عليها قول: (تيتي مثل ما رحتي إجيتي)، فلا مُنصر فيها، ولكن هناك خاسرين، إنهم الشعبين، العراقي والإيراني.

ورغم أن هناك بعض من أطفال الحرب، من صبروا وصبرت أمهاتهم قد حققوا بعض من نجاح، ولكن ماكنة الحرب لم تنته لا في نفوس النساء، ولا في نفوس الأسرى الذين عادوا، ولا في نفوس الأطفال الذين عانوا، ولا في نفوس المُعارضة الذين تسيدوا، ولا في نفوس من كانوا قادة في نظام الحُكم السابق، فما جنوا سوى الاجتثاث، ولم يشعر أولادهم بأنهم أبناء وطن، فالكل مُتحامل على الكُل، والكُل يتحمل الخراب الذي نحن فيه.

ومن كانوا أطفالاً يُعانون في زمن حرب القادسية، بعضهم أو كثير منه اليوم قادة، ولكنهم يتحملون مآسي كل العراقيين، لأنه لم يُتقنوا القيادة، وأتقنوا أسوء ما في الحُكم، وأنا وأنتم تعرفون أن من أمر مساوئ الحُكم هو فساد القيادة.  

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم