شهادات ومذكرات

عاشق هيت وبها راغب وأستبيت

علي المرهجلا أعرف لماذا كتب ملا عبود الكرخي بيته الشعري الشهير "يالرايح إلهيت لا تستبيت..."، وطبع ملا عبود الكرخي النقد اللاذع، ومثل ذلك نقده لأهل مدينة (عفج) بقوله: (قيم الركاع من ديرة عفج ...).

ولكن كما روى لي أبناء المدينة، أن مدينة هيت كانت مُسَورة، وتُقفل أبواب الأسوار، في وقت متأخرة من الليل، ولأن عبود الكرخي قد قدم في وقت متأخرة من الليل، فقد وجد أبواب هذه المدينة مُقفة، وهي أبوب ضخمة، طرقها فلم يسمع الحُراس صوت طرقاته على باب السور، فإضطر أن يبيت ليلته خارج المدينة، فكتب بيته الشهير هذا، وقت ضجر، ولكن والحق يُقال أنني أعشق هيت وقد زرتها مرات ومرات، فوجدت في أهلها الطيبة والنخوة والمحبة والنزوع نحو المدنية، بل وجدت فيهم الكرم وحُسن الضيافة، فهناك الفرات والبساتين العامرة على ضفافه، وهناك النواعير التاريخية التي تُخبرك عن قدرة الإنسان فيها على تحدي الصعاب وصناعة حياة أجمل.

في هيت (الشاقوفات) وهي أشبه بالمقاه تقع على ضفاف نهر الفرات، وفيها يجتمع شباب وشيب المدينة، ويتسامرون وتحاورون في الأدب والثقافة والسياسة، ومنها وبها بدأ المد اليساري، والوعي الشيوعي القائم على رفض سطوة الرأسمالية، والدفاع عن طبقة الفقراء من "الشغيلة"، حتى قيل (هيت قطعة من السوفيت).

وفي هيت حينما تنحسر مياه الفرات قليلاً تتحول ضفاف النهر الرملية إلى ملعب، لعبت أنا وبعض أصدقائي على رمل ضفاف الفرات فيها، فبعضنا يقف بجهة والآخرين مُقابلين له بمسافة أربع أمتار أو أقل بقليل أو أكثر، فيدوس أحد الفريقين على رمل الضفة التي تحت أقدامهم، فتهتز المال، فيشعر الفريق المُقابل له، وكأنه قد إرتفع عن مستوى السطح ولو قليلاً، فيُبادر الفريق المُقابل بدهس رمل الضفة بقوة، فيلحظ الفريق الأول حركة وتموج برمال أرض الفرات، وبحركات مُتسارعة في دهس الأرض تخرج المياه من جوف الضفة، ومن يتمكن من إخراج المياه بقوة فهو الفريق الفائز.

عيون المها بين الرصافة والجسر جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري

وبين ضفتي نهر الفرات في هيت تهل لك الأهلة بين كرخ هيت ورصافتها، فبساتين هيت أهلة إكتمل بدرها، وأناسها شموسٌ وبعض من فقرائها أقمارُ.

لقد عشقت سكة القطار وتذكرت (الريل وحمد) لأنني سافرت لهيت بأول رحلة بالقطار، فكنت أخاطب القطار وأقول:

يا ريل لا تكعر خاف تفزز السمره...يراويني النهر روجات حبنه وديرة العشرة.

وفي هيت نهر وروجات ومحبة وديرة للعشرة. وأظن شباب هيات تخفق قلوبهم حين مقم القطار، خاف يفزز السمرة، (الحبيبة) التي عشقها كعشق جذور أشجار لماء نهر مثل الفرات، عذوبته عجنت أهل هيت، فصنعت طيبتهم التي فاح جميل عشقها للأرض والإنسان من ينابيعها قبل فراتها.

وفي هيت التاريخ، إكتشف السومريون (القار) أو "القير" الذي استعملوه في تقوية الزقورات، وهيت بأراضيها الخصبة شكلت مصدراً من مصادر الانتاج الزراعي الذي يسد كثير من حاجة السوق العراقية، منذ عصر فجر السلالات.

وهيت تشتهر بصناعة القوارب، وهم أول من عرَف البشرية طُرق إكساء القوارب القير.

وفي العهد الإسلامي بُنيَ فيها أول مسجد سنة 17 هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض).

كنت قد سمعت بهيت في شبابي، لأن هناك خطيباً مشهوراً هو الشيخ صُبحي الهيتي، الذي كانت قناة العراق الأولى تنقل خطبته كل جمعة، وهو خطيب مُفوه، يُتقن استخدام البيان والبلاغة وسحر الألفاظ وتنغيم الصوت بحسب ما يحتاجه الخطاب، فإن كان حماسياً إشتدت نبرته، وإن كان دعوة لإحسان وإتمام لمكارم الأخلاق، هدأ موج الخطاب وإنحسرت شدته، ليكون خطابه مليء بالمواعظ، وأشهد أنه كان فناناً يفوق أمهر الفنانين المسرحيين في كسب قلوب سامعيه ومشاهديه.

ومن ثم دخلت كلية الآداب، للدراسة في قسم الفلسفة، فكان الأستاذ المائز هو مدني صالح بالنسبة ليَ، وبعد مُدَة من الزمن عرفت أنه هيتي النشأة والدراسة، ولا أروم التحدث عن ميزات هذا الكبير في العلم والخُلق، فقد كتبت عنه مقالات وبحوث، ولكنه ساحر في المعرفة، وساحر في الكتابة المقالية والتأليف الفلسفي الحر، هو عقل نقدي بامتياز يستطيع بمهارة لغوية وقراءة فلسفية عميقة تجمع بين ما هو نظري مُجرد في الرؤية الفلسفية مع ما هو واقعي في الحياة العادية، فيُفسر الفلسفة بالواقع، أو يفهم الواقع برؤية فلسفية لا تنفك عن الواقع، وإن كان في بعض من كتاباته لجوء للرمز لما في الواقع من ظلم وفساد وقهر واستبداد، ولكنه لم يُغادر منطقة الحياة ليهيم في غياهب الميتافيزيقا، لأن الرمزية عنده إنما هي شفرات ورسائل لمن يفهمون لغة مدني صالح أنه إنما ينقد كل أساليبنا التربوية والتعليمية والاجتماعية والسياسية وفهمنا القاصر للفلسفة.

بعد ذلك تعرفت على صديق عرفته في المرحلة الأولى هو ذاكر محمود جبارة، وفي المرحلة الثانية توطدت علاقتي به وعرفت أنه من مدينة هيت، وهو أول من دعاني لزيارة هيت، فكان أهله في غاية الكرم والترحاب، ولا زال صديق الأقرب، ولا زال أهله يذكروني بخير رغم مُشاكساتي لبعضهم ممن يُحب نظام البعث، فم من العوائل المُتضررة بسقوط نظام صدام، ولكنهم وهذا ظنهم وأحترمه وإن كنت لا أرغب به جُملة وتفصيلاً يظنون أن العراق بوجود صدام أفضل حالاً، وأنا أظن أن العراق بغياب صدام ورغم فساد من جاء بعده فيه أمل للتصحيح، لأن بنية النظام الحالي فيها نزوع نحو الديموقراطية وإن كُنَا لم نُتقن مضامينها وخدماتها لكل واع حليم. أما في زمن الديكتاتورية فالأمل بالتصحيح مفقود، ولكنهم أهل كرم وطيبة ولا زلت أتذكر طعم ترحيبهم قبل طعم أكلهم الذي يُعبر عن أصالتهم وعراقيتهم، فأنا من الناصرية، وبعض من أصدقائي قدموا من مُحافظات عدَة، من الفرات والجنوب، وكلهم أيديولوجياً مُختلفين، ولكن الهيتي ابن مدينة لا يبحث عن أصول طائفية أو عرقية، إنما يبحث عن إنسان يُحب وطنه.

في أيام دراستي للدكتوراه توطدت علاقتي بشخصين من هيت هما اليوم أسماء لامعة في سماء الفكر:

الأول هو د.طه الجزاع، الصحفي المشهور بطيبته وإنسانيته وعموده الصحفي، والذي تراه مُلفتاً أيام نظام صدام وما بعد سقوط النظام، ولا زال يكتب ويغوص بك في أعماق الأنسنة التي حاول غرسها والتأسيس لها في كتاباته ومقالته المتأخرة، بدءاً من كتاباته عن أسفاره وما حدثنا به عن جلال الدين الرومي، وصولاً إلى مقالاته عن بعض المفكرين والكُتاب العراقيين، من الذين جعلوا من الإنسان موضوعة درس لهم في التصوف أو في الفلسفة.

أما الثاني فهو د.فوزي الهيتي، الذي توطدت علاقتي به في عام 1998، حينما بدأت أهتم بقراء فلسفة ابن رشد ورغبت بتسجيل أطروحتي للدكتوراه عن فلسفته، وكيف فهمه المفكرون العرب المعاصرون، فسجَلت أطروحتي بعنوان "النص الرُشدي في القراء الفلسفية العربية المُعاصرة"، وكان د.فوزي يرتاد شارع المُتنبي، وقد عرفت أنه يكتب أطروحته للدكتوراه عن ابن رشد، ومنذ ذلك الحين بدأنا بالتواصل والتحاور في الفكر والفلسفة، وقد وجدته يساري الهوى، وقد سُجن أيام نظام صدام بتهمة الإنتماء للحزب الشيوعي، وهو فعلاً من عائلة تعشق الفكر الماركسي، رغم أن جُلهم من المُلَاك، فأخوه هندي، إلى يومنا هذا يرفع شعار الشيوعية ويُدافع عنه ويحلم بوجود "وطن حُر وشعب سعيد".

ولهما لـ د.فوزي وأخيه المهندس هندي أصدقاء شيوعيين من شمال العراق إلى وسطه إلى جنوبه، يحتفون بهم، ويحتفي أصدقاؤهم بهما.

إنهما نموذجان من هيت التي أرغب بضيافة أهلها وأعشقُ مُسامرتهم والمبيت.

و (يالرايح إلهيت إستراح وإستبيت بيها ناس التكرم الضيف وتستميت)

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم