شهادات ومذكرات

الفيض والغيض في الفكر الفلسفي العراقي

علي المرهج

الفيض هو الكثرة والغزارة، فيُقال فيض إلهي بمعنى عطاء رباني غزير، ويُقال فيض الماء أو النهر، أي غزارته وتجاوزه الضفاف، وإنسانٌ فيض بمعنى غزير الإنتاج والعطاء، وفيّض صيفة مُبالفة تُطلق على إنسان عرف للدلالة على غزارة علمه، وعلى رجل كريم للدلالة على إفراطه في الكرم، وتُطلق الصفة على اللئام فيُقال فاض اللئام، أي كثروا..

كذلك تُطلق كلمة فيض على جريان الحركة وكثرة إمتلاء القلوب بالمحبة، وذلك المعنى أبيّن عند الصوفية وأهل العرفان، والهائمين بعشق المحبوب من شُعراء الحُب العُذري، أو دُعاة العشق الإلهي كما جاء في كتاب "الفيوضات الربانية

والمُقابل للفيض هو الغيض، أي الشُح في العطاء أو القلة فيه أو في الإنتاج، فيُقال غيض من فيض، أي قليلا من كثير.

أما الفيض في الفلسفة فهو مُقترن حتماً بنظرية الفيض الإفلوطينية (نسبة لأفلوطين)، أو ما تُسمى نظرية الصدور، وتأكيد فلاسفتها مثل الفارابي وابن سينا على أن الواحد لا يصدر منه إلّا واحد. فالواحد هو أصل الوجود، وهو أزلي سرمدي بسيط لا يصدر منه إلّا واحد. وعند الفارابي الواحد هو الله (واجب الوجود) وكل ما عداه هو (مُمكن الوجود)، فالله بريء من صفات المادة وتحولاتها ولا يعتريه النقص، إنما هو مثال الكمال والإكتمال، ولكن وجود (مُمكن الوجود) من عدمه لا ينبني عليه تأثير في في ثبات وأزلية (واجب الوجود)، فإنكارنا لوجود (واجب الوجود) ينبني عليه مُحال، لأن لا بُد لك وجود من من مُوجد، أو (مؤيس الأيسات من ليس) بعبارة الكندي فيلسوف الإسلام الأول. ولم يكن همّ فلاسفة الفيض سوى همّ تخليص (واجب الوجود) من ربط وجوده بالموجودات، وعكس تصوراتنا المألوفة والسعي لربط الموجودات بعلتها الأولى. وهو العقل الأول (الواحد) الذي لا يفيض منه إلّا واحد، وهذا العقل حينما يعقل ذاته يفيض منه جُرماً ونفساً، ويعقل مبدأ صدوره فيصدر منه عقل ثان ...ويستمر الفيض وصولاً للعقل العاشر الذي تصدر منه ا(المادة الأولى) = "الهيولى" ومنه تتعد عناصر الوجود.

ولن أُطيل في شرح نظرية الفيض، وهي ذاتها في فلسفة ابن سينا، وكلاهما الفارابي وابن سينا يسعيان للجمع بين فلسفتي الحكيمين (افلاطون) و (أرسطو) على ما في بعض من إختلاف بينهما في تصوراتهما الفلسفية.

ولن أخوض في مقدار إقترابهما أو إبتعادهما عن مرامي الفلسفة البرهانية كما فعل محمد عابد الجابري.

ولكن يكفيني رداً على إدعاءاته أنه بحث عن غنوصية مشرقية في فلسفة ابن سينا، وتنكر لها وحاول تخليص فلسفة إبن طفيل من هيمنة فلسفة ابن سينا الغنوصية كما يرغب هو بتسميتها، وتوقف وحار في آراء ابن تومرت في كتابه (أعز ما يُطلب)، فاستمات في الدفاع عنه كي يُخلصه من غنوصية وباطنية ظاهرة، في إدعائه للمهدوية وفي تبنيه لعلوم (الليمياء) و (الخيمياء) و (السيمياء) و (الكيمياء).

وقد تنكر لصوفية ابن عربي وبعدها الفيضي وتعابيرها عن (العشق الإلهي) وتبنيه لمفهوم "وحدة الوجود"، والأمر ذاته فعله بقراءته لفكر ابن سبعين وفلسفته الصوفية في " الوحدة المُطلقة"، وهو، أي ابن سبعين الناقد الكبير لفلسفة ابن رشد التي يعدها الجابري أنموذحاً يُحتذى، ولكن ابن سبعين لا يرى في ابن رشد سوى مُقلد لأرسطو "يحذو معه حذو النعل بالنعل، فإذا قال أرسطو القائم قاعد، قال ابن رشد مثل"!.

ولم يُكلف الجابري نفسه عناء البحث عما هو (عقلاني في النص اللاعقلاني) كما يقول علي حرب.

ولن أخوض في تفاصيل أطروحات محمد عابد الجابري والرد عليها، فلك فيما كتبه علي حرب وطه عبدالرحمن وحسن حنفي وطيب تيزيني وهشام غصيب وحسام محي الدين الآلوسي وجورج طرابيشي ويحيى محمد، وكُتّاب كُثر ما يُعطيك تصوراً كافياً لتصوراته ونقده.

ولكنني أبحث عن فيض معرفة كان العراق أصلها وفصلها، سواء في مدارس ابصرة والكوفة أو بغداد، فمن بغداد شع نور الفلسفة وأفاض، ومن بغداد تُرجمت علومها وعلوم طبيعية أخرى يونانية، فكان فيض المعرفة العراقية بمدارسها الفقهية واللغوية والكلامية والفلسفية يستزيد منه أهل العلم في مغرب العالم الإسلامي وغرب العالم.

فمن بغداد كان فيض معرفة لفلسفة وعلوم ابن سينا عند الغرب، ونقد الغزالي للفلسفة الذي تجلت بعض ملامح فلسفته فيما كتبه توماس الأكويني في كتابه (الإعترافات) وما كتبه ديكارت في كتابه (مقال في المنهج)...

ولنا في القرنين الثالث والرابع الهجري فيض نتاج معرفي وفلسفي عراقي ظهر جليّاً فيما سُميّ بمدرسة بغداد الفلسفية، وقبل ذلك فيض في العمل التُرجمي الذي كان بيت الحكمة البغدادي هو مصدر ذلك الإشعاع، ولن أطيل الحديث كثيراً عن نتاج مدرستي البصرة والكوفة وفيض ما قدمته هاتين المدرستين في علوم اللغة والفقه وعلم الكلام والفلسفة.

كان لمدرسة بغداد الإعتزالية دورها في ربط الحُرية بالعقل، وكما أطلق عليها د.عبدالستار الراوي "ثورة العقل"

أما نتاج مدرسة بغداد الفلسفية، فقد بدأ مع الكندي، وكانت بأبهى صورها مع "حُنين ابن إسحاق" و"يحيى بن عدي" و "أبي الحسن العامري" في ربطه الأنسني بين الفلسفة والأخلاق في رسالته "السعادة والإسعاد" و "أبي سُليمان السجستاني المنطقي" ورفضه لمذهب الفلاسفة المُسلمين، لسيما (إخوان الصفا) في سعيهم للـ (التوفيق بين الشريعة والحكمة)، وقد ذكره أبو حيان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" وتمييزه بحسب التوحيدي بين صاحب الشريعة الذي يهتدي بالنص، ويقول ما ينطق به "النقل" أو "النص المُقدس"، بينما تجد الفيلسوف يكد ويكدح ولا يهتدي إلَا بـ "نور العقل".

وصولاً لـ "أبي الفرج ابن الطيب البغدادي" (يُنظر: علي حسين الجابري: مدرسة بغداد الفلسفية، والمقولات المنطقية، دائرة المعارف الشيعية، ج9) وتبنيها للمنطق الأرسطي وربطه بالنحو، وكذلك ربط الفلسفة بالأخلاق

أما الغيض وشُح النتاج الفسفي في العراق، فقد بدى واضحاً حينما كفّر الغزالي الفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة"، وبعده جاء "البيان القادري" في القرن الخامس الهجري، (نسبة للخليفة العباسي القادر بالله) الذي حرّم فيه كل تفكير يخرج لكل تفكير يخرج عن أطره التي وُضعت وفقاً لمذهب (أهل السُنة) وتكفير ما عداه بما فيها مدرسة الفكر المُعتزلي والفكر الفلسفي.

ومن ثم فتوى ابن الصلاح الشهرزوري (577هـ ـ 643هـ) الذي استنكر استخدام الإصطلاحات المنطقية في استنباط الأحكام الشرعية أو فهمها وفق المنطق الأرسطي، إذ يؤكد على ضرورة رفض المنطق والفلسفة لأنهما يضرَان بالشرع والإيمان ومن يظن أنا هُناك فائدة تُرتجى منهما "فقد خدعه الشيطان" (فتاوى ابن الصلاح، ج1، ص211)، و لأن "الفلسفة أس السفه والإنحلال، ومادة الحيرة والضلال"، أما "المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر.."

وأتم المهمة ابن تيمية، بنقضه للمنطق في كتابابيه: "نقض المنطق" و "الرد على المنطقيين"، إذ يقول في كتابه "نقض المنطق" فكان نقده للفلسفة من ناحيتين"مُجنبتها الواضحة للعقل الصريح، ومُخالفتها الحمقاء للنقل الصحيح" (ابن تيمية: نقض المنطق، مطبعة السُنة المُحمدية، ط1، 1951، مُقدمة: عبدالرحمن الوكيل، ص6)، ليصل بنا إل نتيجة مفادها "عدم كفاية المنطق في الوصول إلى الحق، وأنه لا يُفيد أربابه الإيمان الواجب، بل طالما كان المنطقي زنديقاً، وقد يجمع بين الغيمان والنفاق" (المصدر نفسه، ص16).

وكذا الحال مع ابن قيَم الجوزية الذي يُسمي الفلاسفة بـ "الدهرية" أو "الزنادقة" لأنهم يقولون بـ "قدم العالم". وقد لحقه ابن قيَم الجوزية (691 هـ ـ 751 هـ)في نقده للفلاسفة ووصفه لمذاهبهم في كتابه "مفتاح دار السعادة"، (ج2، ص119) حول مذهبهم من مسألة (التوفيق بين الحكمة والشريعة) "بأنه من أفسد مذاهب العالم وأخبثها، وهو مبيٌ على إنكار الفاعل المُختار"

فلم يبق فيض، وصار الغيض حياة لنا، وغار وذهب تفكيرنا ونضب عقلنا وجاء في القرآن الكريم "وغيض الماء"، وأما الغيظ بظاء، فمعناه الغوي مُرادفٌ للغضب، "والكاظمين الغيظ" (آل عُمران/ 134).

وهُناك منعنى مُقارب هو (القيظ) وهو فصل من فصول السنة، ألا وهو الصيف، وهوتعبير عن شدة حرارة الصيف، وكل من يتحمل القيظ إنما هو صديق حميم، لأنه قبل بمُعايشة صديق له أو قريب أيم حر الصيف اللاهب، وتلك تُعد من الفضائل، فهل هُناك صديق أفضل من العراقيين يصبرون ويتحملون (القيظ) ما يقرب على الخمسة عشر عاماً صابرين مُحتسبين، يُحسنون بحكومتهم!.

وشُح النتاج الفلسفي والعقلاني سمة من سمات التفكير، بل وهيمنة الفكر الغيبي والسحري، وأكثر من ذلك أن الفلسفة لم ينضب نتاجها وتمر بمرحلة القيض في العراق فقط، إنما في جُلّ بلاد المشرق العربي، لتبدأ مرحلة فيض جديدة في بلاد المغرب العربي على يد ابن باجة وبن طفيل وبن رشد وابن خلدون.

 

غيض الفكر الفلسفي العراقي بعد فيض

حين دراستي في قسم الفلسفة بجامعة بغداد درَسني أساتذة كبَار، ولكن هناك أساتذة لم تكن لديه القُدرة على شرح فكرة خارج نطاق المحاضرة المكتوبة، أو المُستلة من كتاب كان يُغلفه بغلاف جريدة، ويقضي بعض من وقته في قراءة أسماء الطلَاب، لتسجيل قائمة الحضور والغياب، وبعض من الوقت المُتبقي يُخرج بعض من أوراق صُفر كتبها أيام تعيينه في السبعينيات من القرن المُنصرم، يُملي علينا ما لخَصه من كتاب ما في اختصاصه، ويأمرنا بحزم وشدَة بضرورة الكتابة، وكثير منَا يستجيب خوفاً من بطش الأستاذ هذا، أو إتقاءً لما يُمكن أن يُضمره.

وقد بقيت أوراق بعض أستاذتنا الصفراء هذه حتى بعد أن تخرجنا وحصلنا على الدكتوراه.

يقرأ المكتوب في أوراقه الصُفر، وحينما يتبقى بضَع دقائق قبل نهاية المُحاضرة، يبقى يتأمل بعض وجوه الحسَان من الطالبات، ويطلب منَا نحن الطلبة الذكور ممن يرغب بمُغادرة القاعدة، بالقول (ولدي خاف واحد إيريد يطلع خلي ياخذ راحته، ترى الحُرية ماكو أجمل منها)!.

وكان هناك أستاذ آخر، يُغلف الكتاب الذي يقرأ لنا بعض من مُختارته ويُجبرنا على الكتابة، ولأنني ابن شارع المُتنبي، ولأن روحي همَت به، وأظن أن روحه همَت بيَ، فقد بدأت أبحث عن كل كتاب كُتب حول هذه المادة التي كان يُجبرنا الأستاذ على الكتابة من دون شرح أو توضيح لها، وكأن في الكتاب السرَ المكنون، وبعد لأيَ وفحصِ للجُمل التي أملاها علينا هذا الأستاذ ومُقارنتها مع بعض المؤلفات المشهورة في مادة الدرس، تمكنت من معرفة الكتاب، ولا أُخفيكم سراً، فرحت فرحاً شديداً وكأنني حصلت على جائزة من جوائز (المكر العالمي)، فاقتنيت الكتاب، وذهبت في ذلك اليوم إلى الكُلية باكراً، ولأن الأستاذ كان من المواظبين على الدوام بحكم إلتزامه الحزبي، كونه عضواً عاملاً في حزب البعث آنذاك، فقد وجدَته جالساً في مكتبه، ومكتبه هذا (ميز وكُرسي) في غرفة يُشاركه فيها أساتذة آخرون، فكُنت أمرَ من أمام مكتبه ذهاباً وإياباً علَني أُلفت نظره لأبلغه أنني عرفت (السر المكنون)، وقد تنبه ليَ ولاحظ وجود الكتاب في يدي، فأبدى إندهاشاً، وسألني وكأنه لا يعرفه: (علي إمنينلك هذا الكتاب، أشو جنه كتاب يفيد بالمادة اللي أدرسه إلكم)، ولم يكن أمامي سوى أن أُخاطبه بأنني جلبت هذا الكتاب هديةً لك أستاذي، ولكن هذه الهدية كلفتني تحامله عليَ، فلم يُعطني المُعدل الذي أستحقه، لأنه فهم الرسالة التي أبغي توصيلها له، وبسبب اصراري منذ يوم إهدائي الكتاب له على عدم الكتابة ولا أكتب حرفاً واحداً، لأنني شعرت بأنه يستغلنا نحن الطلبة، وهو قد عرف أنني أمتلك سره المكنون (المصدر الأصلي)، ولكن هذا أمر لا يستحسنه، فبقيَ ينظر ليَ مُمتعضاً، وطلب مني الكتابة أكثر من مرة، ولكنني أخبرته أنني بطيء في الكتابة، وسأنقل المحاضرة من زملائي.

ولكنَي سأستدرك قولي هذا بالاعتراف أنه رغم كل ما ذكرته، هو أستاذ طيَب، وابن عرب ويُرحب، وليَ معه علاقة طيبة.

لا تستغربوا ما ذكرت، بل هُناك ما هو أدهى وما يُثير فيكم الدهشة، فقد كان هُناك أستاذ يحفظ الكتاب المنهجي لمادته عن ظهر قلب، فكان الطلبة يتعجبون لأنه يُغرد بأقوال جميلة، ولفرط ذكاء بعض الطلبة وخُبثهم، ولطالما إختلط الذكاء بالخُبث، ولكن خُبثهم هذا أو ذكاؤهم، سمه ما شئت، مكَنهم من معرفة أمر هذا الأستاذ، وبعد الفحص والتقصي تبيَن أن الأستاذ كان يُلقي المُحاضرة شفاهياً حفظها وكأنها من (سور عم) أو كأنها نشيدٌ من أناشيد الطفولة وكأنها محفوظه، حفظها كما يحفظ الطفل أنشودة أعجبته.

وكان لدينا بعض الأساتذة جُلَ همهم في المُحاضرة التحدث عن مآثر (الحزب القائد) و (الفلسفة النقدية عند القائد المُناضل صدام حسين) أو (فلسفة ميلاد القائد)! وتسجيل أسماء المُنتمين للحزب من غير المُنتمين، ومحاولة كسب غير المُنتمين، والتدافع لتدريس مادة (الثقافة القومية) التي كانت عبارة عن كتابات عن مآثر القائد ونظرية "الحزب القائد".

وهُناك أساتذة لا يحتاجون لهذا ولا ذاك، لأنهم من أصول تتلاقى في النشأة مع "القائد الضرورة"، فهم من صلاح الدين، أو من (تكريت)، فكان أحدهم يمشي في الأرض مرحاً، وهو ليس بعثياً، ولكن يكفيه شرفاً أنه تكريتي!.

وحين دراستي للماجستير درَسني أحد الأساتذة من حملة الأوراق الصفراء، لا يستطيع الخروج عنها (قيد أنملة) كما يُقال، وهو قد نال أطروحته للدكتوراه من مصر في تحقيق كتاب في الفلسفة لفيلسوف يهودي بغدادي تأثر بالفلسفة الإسلامية، ولا أظن أنه قد قرأ كتاباً في الفلسفة الحديثة أو المُعاصرة، ومن طرائف ما أتذكره عنه أنه قرأ لنا نصاً جاء في سياق ما يقرأ ذكر الفيلسوف الألماني (نيتشه)، فقرأه (نيتشهُ) (بضم الهاء)، فقلت له أستاذي أنه (نيتشه)، فرد عليَ أن أبتته هي من كتبت المادة، ولم يُدرك أن ما كتبته ابنته صحيح إملائياً، ولكنه لم يُتقن قراءته نحوياً، لأنه لا يعرف إسم هذا الفيلسوف وكيفية تلفظ إسمه، وأظن أنه لم يسمع به.

لربما يبدو مما كتبت أنني أظهرت مساوئ بعض من أساتذة الجامعة، ولكن فيهم أساتذة كبار تعلمنا منهم، ولولاهم لما كُنَا نحن اليوم أساتذة، فكان الكبير د.حسام الآلوسي في تبنيه للمنهج الماركسي، ومن ثم طرحه للمنهج التكاملي، والكبير د.كريم متى في دراساته في تاريخ الفلسفة اليونانية، وتاريخ الفلسفة الحديثة، والكبير د.ياسين خليل في نزوعه نحو الوضعية المنطقية، وإن كان في ميوله الأيديولوجية بعض من نقد، والكبير مدني صالح في توجهه المُتفرد في قراءة الفلسفة بأسلوب الأدب الرمزي، والكبير د.جعفر آل ياسين في قراءته لفلسفتي الفاربي وابن سينا، والكبير عرفان عبدالحميد في دراساته عن علم الكلام ونشأة الفلسفة الصوفية، والكبير د.كامل مُصطفى الشيبي في دراساته في التصوف وعن الحلاج والفكلور الشعبي، وأستاذتي المُميزة د.فاتنة حمدي، التي أشرفت على رسالتي في الماجستير "البراجماتية عند تشارلس ساندرس بيرس"، فكانت ليَ خير عوَن لما تمتلكه من تمكن من اللغة الإنكليزية، ولما تتفرد به من عشق للفلسفة الحديثة والمُعاصرة، وهناك أستاذة كنسيم عطر الصباح، وهي من أحمل لها ذكرى الطيبة والصدق في التربية والتعليم، الرائعة خُلقاً وعلماً أستاذتي أميمة الشواف، وهي من القلائل من التدريسيات اللواتي كان يجمعن باتقان أكثر من اختصاص، فهي من درستنا المنطق، وهي من درستنا الفلسفة الحديثة، وهي من درستنا، ودرست بعض طلبة كلية الفنون الجميلة (فلسفة الجمال).

وللدكتور عبدالأمير الأعسم فضل تنشيط للدرس الفلسفي في العراق، فهو بعبارة أستاذنا مدني صالح (آواى الفلسفة بعد أن كانت شريدة)، فقد حُرب بعض طلبة الجنوب والفرات في قسم الفلسفة بجامعة بغداد لأنهم أبناء تلك المُدن السليبة، فلما تمكن الأعسم من فتح قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة الكوفة، تمكن بعض أبناء هذه المُدن من إكمال دراساتهم العُليا.

ولا أنكر جهود د.حسن مجيد العبيدي، وجهود د.ناجي حسين جودة في التصوف، وجهود د.ثامر مهدي، ود.نعمة محمد ابراهيم في تنشيط الدرس الفلسفي في العراق، وهناك آخرون مُميزون ممن هم قبلي بزمن قليل، أو ممن هُم من جيلي، أو جيل بعدي، وربما بعضهم جيل قادم هم من طُلَابي وطلَاب زُملاء ليَ.

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم