شهادات ومذكرات

الجنون في شارع الثقافة والفنون

علي المرهجفي شارع المتنبي جنون وفنون، وفي بعض من الجنون ثقافة وتوقد عقل وعبقرية. وفي شارع المتنبي تصدير لثقافة ونهج لبناء عقل علمي ناهض، وفي شارع الثقافة يجتمع العلم مع الفن مع الثقافة بتمظهراتها في الشعر والرواية أو السرد.

لقد سعي باعة المتنبي لبناء ثقافة تنويرية، رغم كل تحديات السلطة الشمولية.

في الوقت ذاته هُناك تصدير لثقافة ساقطة، ثقافة سلفية، سنية كانت أم شيعية، ففي زمن النظام السابق كان هُناك بعض من العقائديين الشيعة يبيعون الكتب لا لمكسب فقط، إنما لفرط ما فيهم من إيمان بمبادئ الفقه الجعفري بوصفه سفينة النجاة والخلاص. وكان في شارعنا من هو سلفي حد النخاع، فبعضهم كان من الأخوان المُسلمين وآخرون كانوا مؤمنين بفكر محمد بن عبدالوهاب، وكلنا يعرف نشاط الحركة الوهابية في أواسط التسعينيات من القرن المُنصرم بعد أن تبنت السلطة الدعوة لما أسمته بـ "الحملة الإيمانية".

أنعم النظر في مشهدية قولنا السابق وستجد صراعات الأيديولوجيا والعلم والعقيدة المحمومة شبيه بصراع المجانين.

وتلك ميزة من ميزات التعددية المفقودة في حياتنا السياسية، والاجتماعية اليوم، ولكنها موجودة في صراعاتنا المعرفية والعقائدية في شارع المتنبي، وإن لم تكن شاخصة للعيان.

لكل بائع توجهاته التي ستعرفها من عنوانات كتبه المعروضة على الرصيف، وبلمحة سريعة لا تحتاج إلى حصافة ستعرف أن هذا البائع يتبنى رؤية عقائدية أو معرفية مُعينة.

كان أغلب من يعمل في الشارع هم من مجنانين الفكر بكل توهماته ونزعاته (اليوتوبية) أو (الواقعية) سواء أ كانت في الشعر أو في الفكر أو في العقيدة.

فكل منَا له ليلاه، وليلاي التي أتنفس عطر أنفاسها هي ليست ليلى غيري من الباعة، فأنا كنت ولا زلت أتنفس عطر ليلى (الفلسفة)، وغيري يهيم بليلى أخرى ربما تكون بغداد في تاريخها عند من يهوى بيع وشراء كُتب التاريخ، وربما تكون ليلى هي كُتب الحديث والسُنن التي يهيم به أهل الحديث وبعض من أهل السلف من أتباع أحمد بن حنبل. ولكن ليلى لها حضوتها عند يُقبل ذا الجدار فتكون ليلاه كُتب الأصول في الفكر الشيعي، فستجد كتاب (أصول الكافي) للكُليني، أو كتاب الاستبصار لشيخ الطائفة الطوسي، أو كتاب (تهذيب الأحكام) لشيخ الطائفة الطوسي أيضاً، ويلحقها كتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق، وكانت هذه كُتب ممنوعة، ولكن كثيراً من الباعة يتحدون النظام وبعضهم تعرض للسجن ولكنه لم يتخل عن مهمته التي يعدَها مهمة رسالية لا ربحية ألا وهي التعريف بالمذهب والحفاظ عليه من دنس السلطة الغاشمة.

وهناك من الجنون ما يرتقي به أصحابه ليكونوا من صُنَاع الفنون من الشعراء الذين الرافضين لنظام الحُكم ونزعته الاستبدادية في الحُكم، فكتبوا قصائداً بلغة مكثفة وفيها الكثير من أساليب البلاغة في (التورية) و(الاستعارة) و(المجاز)، وقد ساعدهم في نشرها بعض باعة المُتنبي عبر استنساخها بطريق تبدو اليوم بدائية، ولكنها في وقتها تُعدَ نوعاً من الرفض والمواجهة الثورية.

سُجن بعض من أصدقائنا واستدعي الكثير منهم للأمن العامة، وصُودر الكثير من كُتبهم، وتعاطف معنا بعض من رجال السلطة المُثقفين وحمونا، وتحامل علينا بعض منهم.

ولكن شارع المُتنبي بقيَ أيقونة العشق الثقافي لبغداد الأمل، أو بغداد الأزل، ورغم ما تعرض له من هجمات وحشية في زمن النظام السابق واعتقال بعض من باعته، ورغم ما تعرضنا له من نكبة في التفجير الإرهابي عام 2007 الذي رام فاعلوه إيقاف دفقه الحيوي للثقافة العراقية، ورغم كل خساراتنا لبعض من أصحابنا الأثيرين إلى قلوبنا، أو خساراتنا المادية التي تتجاوز مئات الملايين، فنحن آل مرهج فقط خسرنا مخزناً كاملاً فيه الآلاف من الكُتب، وغيرنا خسر حياته، فقد قُتل عدنان، وهُدمت مقهى (الشابندر) وخسر صاحبها (محمد الخشالي) مقهاه وجلَ أولاده، واحترقت (المكتبة العصرية)، وقد فقدنا بعض من أصدقائنا، وفقد آخرون مثل الشاعر (جلال حسن) مخزنه بالكامل، وشاركه المصيبة (المهندس ستار وشريكه محمد فخري) وخسر أستاذ صباح ما كان في (بسطيته) وكتب الله لـ (كريم حنش حياة أخرى، بعد أن خسر مخزن كتبه وتهدمت بعض أركان مكتبته، وكذا الحال مع المكتبة القانوننية ومكتبة (محمد حياوي).

ولكن في الجنون فنون، فقد عُدنا والعود أحمدُ، وكل ما خسرناه من مال أو صاحب أو قريب فقدناه إنما كان لنا دافع لصناعة حياة.

فبعد أن تعاطفت الحكومة مع الفاجعة وتقديرها لأهمية شارع المُتنبي بوصفه أيقونة عراقية وأنموذج يُقلد ويُحتذى في دول عربية وغربية، كان لجنون الباعة فعله الأثير في تجاوز ما كان يرومه التكفيريون من إنهاء لتاريخ هذا الشارع وكتابة لوداع له يرتضيه الظلاميون، ولكننا نحن أبناء المُتنبي لا نرتضيه، فآثر جميعنا تجميع قواهم وقهر قوى الظلام بجنونا الأثير ومحبتنا لنشر وعي التنوير، فتحقق ما نصبوا إليه واليوم نحنة علامة من علامات بغداد، كما هو نصب الحرية، فهل يُمكن لك أن تتصور بغداد وساحة التحرير من دون وجود نُصب الحُرية؟، ولا أذيع لكم سراً لو قُلت لكم أن جنون (جواد سليم) هو من أنتج فنوناً تحكي تاريخ أرض وشعب مثل (بلاد الرافدين). هذا النُصب أو العلامة الفارقة شكل بعض من مشهدية الرؤية الجمالية لبغداد الحديثة.

وأعاود القول، فأسألك صديقي القارئ، هل يُمكن لك تصور بغداد من دون وجود لشارع لالمُتنبي؟، والجواب المؤكد (كلا)، وسأخبرك أن من صنع شارع المُتنبي بعد أن كان الكتاب يُباع ويُشترى في سوق السراي هو جنون أصحابه بكل ما فيهم نزوع للرفض أو القبول بسلطة، ولكنهم فنانون في تصدير الثقافة "ويُؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة".

شارع المُتنبي بجنونه شارع الرفض والمعارضة وإن كان في بعض من باعته ميل لنزعة سلفية وتأييد للنظام في دعوته للحملة الإيمانية، ولكن الغالب على باعته ورواده هو البحث عن الأثير من الخفي و(المظنون به على غير أهله) من الذي يبحثون عن الجديد في تنشيط الوعي لا تنميطه، وفي البحث عن يسارية الفكر لا يمينيته.

فكنت أظن ولا زلت أن سوق السراي وباعته من الكُتبيين يُمثلون يمينية الفكر، أو الفكر بنزعته المُحافظة، وأستثني منهم (مكتبة الفلفلي).

أما باعة المُتنبي وإن كان هناك بعض من باعتهم (راديكاليي) النزعة من المُتطرفين في إنتمائهم العقائدي سُنة كانوا أم شيعة، إلَا أن أغلب باعة شارع المُتنبي وصانعوه إنما كانوا ينتمون لتيار تجديدي يحلم بالتغيير والتجديد.

ولا زال باعة المُتنبي وأغلب رواده من المُثقفين هم من الذين فيه مس من الجنون وهيام بما بعطايا الفلسفة بنزعتها العقلانية، أو نزوع بعض من روادها وميلهم للصوفية ونزعتها العرفانية.

وسيبقى الجنون لصيقاً بشارع الفنون.

إنه شارع الذي نظر الأعمى إلى أدبه ...وأسمعت كلماته من به صصم.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم