شهادات ومذكرات

أبو الشيماء البراق عبد الجليل في أربعينية حضوره

559 ابوشيماء البراقفي السابع من الشهر المنصرم، ترجّل عن دنيانا، أحد فرسان المشهدين الأدبي والصحفي ، وطنيا وقطريا، المبدع القيدوم أبو الشيماء البراق عبد الجليل، عن سنّ قارب السبعين، ليورّث ثروة فكرية وأدبية أثرت ساحتنا الإبداعية، وأثّرت بالإيجاب في الجيل الذي تربى على يدي الراحل.

يشهد له نضاله الحياتي والإبداعي الممتد، بحكم ساق سبقه إلى تأسيس جريدتين محليتين، كان لهما الدور البليغ في نشر الوعي وتنوير العقول وإذكاء الرأي العام، عبر منبرين سمّاهما، "العهد الجديد"و "أنس "، تعنى إحداهما بالطفل وقضاياه، فيما تستهدف الثانية كل الشرائح العمرية، بهذا يكون قدّم الشيء الكثير لوطن أحبّه وأخلص له قدر المستطاع ، في سنّ مبكرة جدّا.

ناهيك عن أنّه أسس في أوج شبابه، ناديا يهتمّ بالفنّ في بعديه المسرحي والسينمائي، مؤكدا علو كعبه وموسوعيته في الإحاطة بما يشغل المواطن المغربي المتعطّش لانفلاتات مفضية إلى آفاق كل ما هو حداثي ، ضامن للتطلعات الحقوقية ومسعف في عملية وفعل التكريس لحرية التعبير.

بحيث قام بتأسيس النادي المسمى" شادي عبد السلام للمسرح والسينما" تيمّنا برفيق دربه الإبداعي والنضالي، المصري شادي عبد السلام، فكان هذا المكتسب نافذة ، أخرى أطل من خلالها فقيد الساحة الثقافية والإعلامية، أبو الشيماء البراق عبد الجليل ( 1950 ـــــــــــــــ 2018) ، على حقائق وجودية مغايرة غذّت شخصيته الحداثية ، وزكّت فيه النزعة الإنسانية، في غمرة الانتصاف ما بين أمجاد الماضوية ، ورهانات التقدمية، فقد أفلح ، إلى حد كبير، في الإمساك بالعصا من الوسط كما يقال ، ذاد عن الثوابت والمقدسات وقضايا العروبة الكبرى، دونما الوقوع في مخالب التعصب للقومجية البغيضة، تمّ له مرامه بفضل عقل متفتّح، ينبذ شتى أشكال الأنانيات العرقية واللونية واللسانية والعقدية، ما منح تجربته طابعا عالميا، استحسنته سائر التجارب والأسماء والحساسيات.

وبالمختصر المفيد، نجده وقد أبدع في مجمل جوانب النضال حياتيا وأسريا وإبداعيا، أبدع في أبوته مثلما أبدع في عنايته بأسرته ، وأثبت بجدارة مغربيته، على نحو كأتمّ وأبلغ ما يكون إعداد الأجيال، وصناعة الرجال، والأطر الهامة والوازنة في هذا البلد.

الشيء الذي جعل يوم رحيله يوما كارثيا بامتياز، وشكّل خسارة حقيقية وفادحة، وضريبة حتمية، وفراغا كبيرا، وأفولا صامتا أدمى قلوب عشاق ومحبي ومريدي وأتباع رجل وطني معطاء يكنّى البراق عبد الجليل.

تعرّفت عليه، بالطبع ، عبر الفضاء الفيسبوكي الأزرق، بأشهر قليلة ، قبل أن تسبقني إليه يد الردى، وتحول دون لقائي الميداني والفعلي به، فقد كانت آخر مهاتفة بيننا، تنمّ عن عناق أخوي وشيك، وعدني من خلال تلك المكالمة ، بزيارة يستكشف عبرها هذه المنطقة القصية، الضاربة بجذورها في عمق المملكة، ولو أن أمورا جمّة كانت تجول في خاطري، وأفكار من قبيل :الأولى أن يتأمم التلميذ المدرسة ، لا العكس، ولكن هواجس أخرى ظلت تغالبني، مثل ضرورة تشريف قامة من طينة البراق، لهذه البلدة النائية، بزيارة للاستجمام وتبادل الأفكار وإنعاش السياحة الروحية، التي قد يحتاجها مبدع سبعيني منقطع، يهادن وعكته.

أملت وكان أملي كبير، في أن نلتقي يوما، بيد أن الدنيا غدّارة، لا يؤتمن جانبها، مترعة بالمفاجآت.

أذكر أنه أسرّ إلي مرّة ، برغبة في العودة والأوبة إلى أمجاده الإعلامية، بحيث قرّرنا وبدأنا بالتخطيط لإصدار مجلة ثقافية وطنية، لا لقلّة مجلاتنا النوعية، المحاصرة بشحّ الدعم ، وسلطوية التعاليم والتوجيهات، بل لتمتزج روحينا أكثر، أنا كولد بارّ يكابد عامل الجغرافيا ، في توصيل رسالته الإنسانية والأدبية المتواضعة، وهو كوالد شهم لم يبخل عليّ بالدعم المعنوي ، والترويج لنتاجاتي في عموم ساحات ومقاهي مدينة هي بمثابة معشوقة أبدية اسمها "مكناسة الزيتون".

نشر الراحل بعضا من نصوصه القصصية في مجلات وجرائد عربية رائدة، مثل الآداب البيروتية، وقد قاربت تجربته في مناسبات ولو أنها قليلة، لا تكاد توفّيه حقّه ، كرمز أحببته دون أن ألتقيه.

سرّه ذلك مني، وأثلج صدره، كونه تحسس منه لونا وضربا من الإنصاف، وهذه حقيقة مرة أخرى، تشي بموت شموس الإبداع في كل الربوع العربية، واقفة، مع كامل الأسف.

وقد نبّهني إلى أن غزارتي في الكتابة بشقيها البحثي والشعري والثقافي، قد تكون على حساب صحتي، ونصحني بالتريّث، وأجده مصيبا في ما ذهب إليه، نظرا لعمق تجربته وخبرته بالكتابة والحياة.

فوّتت فرصة حضور مراسيم تأبينه، كوني لم أنتبه لإعلانات نعيه، عبر الفضاء الأزرق، بوقت كاف يسمح لي بالذهاب إلى مدينة مكناس .

وها أنا ذا أرتجل هذه الورقة بحقّه، وقد غادرنا إلى دار البقاء، لأقول أنه سوف يخلد في قلوبنا وعقولنا، بكل ما قدّمه وأبدعه، ولقّنه لجيل صعد بدعمه وتربيته ورعايته ، هو حاضر هذا الوطن الآن، بل ومستقبله أيضا.

إني وفي أربعينية حضورك أستاذي ووالدي الجليل، أشهد أن الحداثة التي أردتها ونريدها، لن تستقيم إلاّ بقافلة الصعاليك النبلاء، المبدعين الموغلين في احتراقهم، ملوك الضلال، وهم يغرقون ويغرقون في ديدن الإمساك بجمرة الكلمة والحياة، توجّههم ، على حدّ تعبيرك، تأسيسا على تدويناتك الفيسبوكية، الريشة غير المنضبطة، وإذن... فلترقد روحك بسلام.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

 

 

في المثقف اليوم