شهادات ومذكرات

"المايزور الميهول عمره خساره"

علي المرهجفي (قلعة سكر) كُنَا صبية، وكان من ضمن طقوس هذه المدينة زيارة السيد (الميهول) = (المجهول) وقد جاءت تسميته لأنه صبيُ ولدَ ميتاً ويُروى أنه مولود يعود نسبه للسادة الموسوية، ويُقال أن عائلته قد سكنت هذه المنطقة الواقعة بين مدينتنا (قلعة سكر) و مدينة (الرفاعي) = (الكرادي)، وبحسب الرواية المتداولة في هاتين المدينتين أن عائلة هذا السيد عائلة مُباركة، وأن السيد (الميهول) قد كان فيه سرَ إلهي هو شبيه بالسر الذي يضعه الله في أضعف خلقه، وقد كان (الميهول) فعلاً هو أضعف خلق الله، لأنه مات وهو لم يتوسد المهد، وقد سُميَ بهذا الإسم نتيجة لذلك، لأن والدته ووالده رغم توقهم في أن يرزقهم الله بصبي إلَا أن القدر شاء أن يلعب لُعبته، فما إن جاء حتى فُقد، وبفقده كانت له كرامات عوَضت أهله قليلاً أو كثيراً، فقد صار هذا السيد قبلةً لأهل مدينتين عريقتين في محافظة (ذي قار)، فكل من له أو لها نُذرٌ أو مُراد يجد أو تجد في زيارته أو زيارتها للـ "الميهول" استجابة لتحقيق هذا النذر، لا سيما النساء، فكان يُروى في أحاديث أهل مدينتنا أن النساء اللواتي لم يُرزقنَ بأطفال يكفيهنَ أن يزورنَ السيد "الميهول" ليتحقق مرادهنَ بمجرد التبرك بعتبات شباكه أو بأخذ "الجروة" من طينة الأرض الطرية المُحيطة به. "الجروة" هي طين حريَ صلصال، تأخذها النساء من هذه الأرض الرطبة المُحيطة بمقام هذا السيد، ليخلطنها بالماء ويغتسلنَ بها، فكانت قناعاتهنَ أنهنَ سينالنَ المُراد بمُجردَ الاغتسال بهذه الطينة (الجروة).

بُنيَ لهذا السيد مقام في منطقة زراعية تُحيط بها الخُضرة من كُل جانب، وكان يُقال أن أهله الذين لا تحديد لأسمائهم كانوا يقطون هذه الأرض بعد جاءوها وافدين من فيافي أرض الله وقفارها.

العجيب الأثير أن مقام هذا السيد في أرض مخضرة، قد بُنيَ من الآجر (الطابوق) وبعد اكساء الطابوق بالاسمنت تم طلاء هذا المقام أو القبر باللون الأبيض، كدلالة ـ كما أظن ـ بقصد أو من دون قصد على النقاء وما تكنتزه الطفولة من براءة وبهاء.

في اجتماع البياض والخضرة وبركات الصالحين دفق روحي لكل من سكن قرب هه الديار، والأغرب الأحب أن أهل مدينتي (قلعة سكر) و (الرفاعي) كانا يزوران هذا المقام في موعد معروف من السنة هو 21/ آذار، وهو عيد رأس السنة الفارسية، أو عيد (نوروز) وهو عيد الربيع في أدبياتنا (القومجية)، فقد كانت الأمهات والآباء فضلاً عن التحضير لطقوس هذا العيد بوضع أوراق شجرة "الآس" في شقوق الجُدران، أو أوراق "الخس" كدلالة على بدء حياة جديدة، كانت العوائل تصطف بنات وبنين شيوخ وعجائز ليركبوا سيارة "دك النجف" التي كانت تقلنا لزيارة هذا المقام والاحتفاء بهذا اليوم البهيج.

الجدير بالذكر أن سيارة "دك النجف" أو "النيرن" سُميَت بهذا الإسم لأن هيكلها الخارجي كان يُصنع في النجف، وكلمة (دك) تعني صناعة، وهي عبارة عن هيكل خشبي مصنوع من خشب (الصاج) وهي في الأصل من نوع "فالفو" صناعة سويدية، تحتوي على "مسطبات" حديدية مُتقابلة في داخلها، وأحياناً مرصوفة حسب نظام الباصات الحالي، ولكنها في الأغلب الأعم "مصطبات" مُتقابلة تتوسطها باحة داخلية يركب فيها الأشخاص وقوفاً في المُناسبات، وغيرها تُستخدم هذه السيارات لنقل الخُضار وفي أحيان قليلة لنقل الماشية في الأيام التي ليس فيها مُناسبات كالأعياد والزيارات المعروفة للأئمة والسادة والأولياء الذين تنتشر قبورهم على طول أرض العراق.

هُناك من يربط احتفال أهل الجنوب بأعياد (الدخول) أو الربيع بعودة تموز بعد أن أقصته زوجته "عشتار" أو "أينانا" كما تروي الأسطورة السومرية أو البابلية، لذا يرى الكثيرون ومنهم الآثاري الأستاذ الدكتور فوزي رشيد أن هذا العيد عراقي أصيل لا علاقة له بأعياد أهل بلاد فارس ومن يحتفي معهم، بل أنهم هم من توارثوا هذا العيد العراقي جيلاً بعد جيل من الحضارة العراقية القديمة بحكم أسبقية هذه الحضارة في النشوء تاريخياً.

في أيام حزب البعث بعد أن حاول هذا النظام منع الاحتفال بهذا العيد فما قدر، أعادوا تسميته فسُميَ بعيد الشجرة، وهي أيضاً تسمية ذكية تُحافظ على مضمون هذا العيد وتُغير من طبيعة التداول التاريخي الموروث له ولكن لم تنجح خطواتهم هذه وبقيَ العيد له حضوره الاجتماعي والتاريخي المتوارث الذي ليس شرطاً أن يكون مُدركاً حقاً بأبعاده الميثولوجية أو بعلاقته بأعياد "نوروز" الفارسية والكُردية.

ما أذكره عن هذا العيد أنه من الأعياد المُهمة في مدينتنا والمُدن المجاورة مثل: (الرفاعي) و (الفجر) = (سويج شجر)، وكُنَا ننشد هذا المقطع حين ركوبنا بـ "دك النجف" (الما يزور الميهول عُمره خساره) وكأن زيارة (الميهول) تمنحك حياة أخرى أو فيه تجديد للحياة كما هي حياة "تموز" أو "ديموزي" بعد عودته من عوالم الظلام كي يرى النور من جديد وتزدهي أرض الرافدين وتخضر وفق فكرة "العود الأبدي" الذي تحدث عنها فيلسوف "الصيرورة" و"العود الأبدي" (نيتشه).

كان أهل مدينتي (قلعة سكر) و (الرفاعي) يُعلنون بداية حياة جديدة في هذا العيد أثناء زيارة (الميهول)، حياة في التجديد وفي الصراع، فستجد الألعاب القديمة مثل: (الطرام) وهو إطار (البايسكل) القديم أو الدراجة الهوائية المُستهلكة منزوعة القوائم الحديدية لتُدفع بأداة من حديد محني رأسها الأمامي ليُدفع بها هذا الإطار، وهي مُتعة لا ألذ منها في طفولتنا، أو (الدُعبل) بشتى أصناف اللعب فيه، أو (العربانه أم جروخ أو أم الصجم) وهي عبارة عن أطر خشبية وربما حديدية مربوطة ببسامير أو بطرق أخرى فيما يخص القوائم الحديدية حول أسطوانات صغيرة لولبية يُحركها الدفع بحكم تدوير الكوريات في داخل هذا الأطار المربوط بهذه القوائم الخشبية أو الحديدية. وهُناك ألعاب أخرى مثل ركوب الحمير وهو كثير أو ركوب الخيل وهو قليل. واللعبة الأكثر رواجاً هي لُعبة (الزار) أو "الزهر" عبر رمي حجرين من النرد فيما يُسمى (فوق السبعة) و (تحت السبعة) فللمُشارك حق التوقع في رمية النرد أو الزهر المزدوج ليضع مبلغاً للرهان في توقعه لرمية الزهر في أن يكون (تحت السبعة) أو (فوق السبعة)، فإن كان توقعه بحسب رمية الزهر كسب الرهان وبعكسه فلا، وكان في نهاية هذا الاحتفال بالعيد تنتهي هذه الألعاب أو المُنافسات بحرب طاحنة بين أهل القلعة وأهل الرفاعي، فكل له (شقاواتهم) من الذين يشتركون أو يُشرفون على هذه اللعبة، ومرة ينتصر أهل القلعة في هذه الحرب الطاحنة بين المدينتين المُتجاورتين وأخرى ينتصر أهل الرفاعي، وكم من عيد انتهى بصراع دموي ينتهي بالتغاضي أو التراضي، ولا أذكر أن عشيرتين اصطرعتا أو تحاربتا بسبب خلاف على لعبة في عيد أو خلافه... وبقيَ الجميع يتوق لإنشاد نشيدنا الأثير (الما يزور الميهول عمره خساره).

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم