شهادات ومذكرات

عراقيون مرّوا بموسكو (27): د. وفيّة ابو قلام

ضياء نافعلا اعرف لحد الان كيف اكتب لقبها بشكل دقيق – (ابو قلام) أم (ابو اقلام)، ولكننا كنّا نلفظه ابو قلام في حينها، ولهذا كتبته هكذا في عنوان مقالتي عن المرحومة الدكتورة وفيّة.  تعارفنا اثناء دراستنا في جامعة موسكو في ستينات القرن العشرين، حيث كنت انا آنذاك طالبا في الدراسات الاولية، وكانت هي طالبة في قسم الدراسات العليا . لقد وصلت وفيّة الى موسكو وهي محاطة بهالة من الشهرة والمجد باعتبارها شاعرة (محكمة الشعب) او (محكمة المهداوي) او (المحكمة العسكرية العليا الخاصة)، وكنّا نتصورها شخصية قوية وصلبة ومناضلة ووو، ولكننا اكتشفنا بعد مخالطتها لفترة طويلة نسبيا، انها امرأة عراقية بسيطة جدا وفي غاية الطيبة وحتى ساذجة الى حد ما، وبالتدريج لم تعد بالنسبة لنا تلك المرأة السياسية الحديدية التي تصورناها قبل وصولها الى موسكو.

كانت وفيّة تعرف حدودها كما يقال، وهذه صفة جيدة جدا في الانسان ( الذي يعرف قدر نفسه)، فلم تكن (تثرثر!) في الشؤون السياسية ولم تكن (تتبجح !) بماضيها وقصائدها في المحكمة كما كان يتبجح الكثير من العراقيين، الذين كانوا معنا آنذاك، ولم تحاول ان تبرز في اجتماعات العراقيين ومناسباتهم (وما أكثرها!) او تطلب القاء كلمة او قصيدة او تعليق بمناسبة او حتى بغير مناسبة كما كان يحاول البعض من المتبجحين، ولم تتكلم عن اطروحتها وتتباهى بعلمها وموهبتها مثل بعض الذين كانوا يحيطوننا، بل انها انجزت اطروحتها بصمت وهدوء وبمعزل عن الآخرين، وكانت اطروحتها عن الرصافي، وسمعتها تتكلم مرة واحدة  فقط عن اطروحتها، وذلك عندما قدّمتها كاملة الى مشرفها العلمي، والذي قال لها، ان الاطروحة جيدة ومتكاملة عن الرصافي (كانت وفيّة تعرف الرصافي وابداعه أفضل من مشرفها بلا شك لكونها عراقية وتحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة بغداد)، ولكن تلك الاطروحة كانت – من وجهة نظر المشرف العلمي السوفيتي - خالية من الاستشهادات الماركسية – اللينينية، وان الاطاريح في الاتحاد السوفيتي لا يمكن ان تكون هكذا، اي دون اطار نظري ماركسي واضح المعالم والمفاهيم، واتذكر جيدا كيف سخرت وفيّة من كلام المشرف آنذاك (أمامنا طبعا وليس أمامه !)، وقالت لنا، انها تبحث الان عن مقاطع عامة (واستخدمت وفيّة بسخرية كلمة – آيات بدلا من كلمة مقاطع عامة) حول الادب من أقوال ماركس وانجلز ولينين كي تضعها بين سطور اطروحتها عن الشاعر العراقي معروف الرصافي حتى تكتمل المتطلبات العلمية لمناقشة الاطروحة بنجاح امام اللجان العلمية، وهذا ما تم فعلا بعدئذ.

غادرت وفيّة الاتحاد السوفيتي بعد اكمال دراستها، ولم تحاول البقاء او التشبث بالبقاء كما فعل الكثيرون، متعللين بالاوضاع السياسية في العراق، ولم اتابع أخبارها – مع الاسف -، ولكنني سمعت انها عملت في جامعة باحدى الدول العربية باعتبارها تحمل شهادة الدكتوراه في الادب العربي، ولم أجد انعكاسا لنشاطها الادبي، الا اني وجدت مرة كتيبا صغيرا بترجمتها عن اللغة الروسية حول الواقعية الاشتراكية في الادب الروسي صادر في بغداد، وكان اسلوب الترجمة العربية سليما جدا، رغم ان موضوع الكتيب كان عتيقا (ان صحّ التعبير)، ويحمل وجهة النظر السوفيتية التقليدية الرسمية المعروفة حول مفهوم الواقعية الاشتراكية، وهي وجهة نظر قديمة جدا ولم يعد حتى المتخصصون السوفييت آنذاك (في السبعينات، عندما ظهر الكتيب المذكور) يتكلمون عنه، او يأخذونه بنظر الاعتبار. ولا اعرف متى توفيت المرحومة وفيّة، الا اني قرأت كلمة (المرحومة) مقرونة باسمها اثناء مطالعاتي للصحف العراقية، وكذلك قرأت قبل فترة عن صدور مجموعة قصائد لها لم تستطع نشرها في ذلك العصر الصعب نهاية القرن العشرين، ولكنني لم اطلع على تلك المجموعة الشعرية مع الاسف . لقد  كنّا نرى آنذاك، ان قصائدها لم تكن تتميّز بصور فنية وشعرية عميقة بشكل عام ، وانها لم تكن ضمن الاسماء اللامعة للشاعرات العراقيات الكبيرات، وكان هناك أحد الزملاء المتشددين جدا بيننا (لا اريد ان اذكره  هنا، ولكني اشير فقط الى حرفي اسمه ولقبه – (م.ب.) وذلك لانه توفي منذ فترة طويلة في بغداد) يؤكد دائما انها ليست (شاعرة) وانما (ناظمة) ليس الا، وهو رأي غيرموضوعي بتاتا و يتميّز بالتطرف والقسوة .

الرحمة للشاعرة الدكتورة وفيّة ابو قلام، والذكر الطيب لهذه المرأة العراقية الاصيلة ...   

 

 أ.د. ضياء نافع       

 

في المثقف اليوم