شهادات ومذكرات

طه جزّاع: الصحافة والقضاء وتمثال العبودية

لا يخلو تاريخ العمل الصحفي في العراق من الطرائف واللطائف التي وثقتها كتب ومذكرات وذكريات وحكايات تناقلتها الأجيال الصحفية المتعاقبة، فضلاً عن المواقف الجريئة والشجاعة في علاقة الصحافة بالسلطات الحكومية بمختلف العهود والحكومات المتعاقبة، وفي علاقة الصحفيين مع بعضهم البعض، ومع الإدارات الصحفية. كما لا يخلو من وقوف الصحفيين أمام المحاكم، وتلك حكايات في غاية الأهمية ينبغي أن يطَّلع عليها الجيل الجديد من الصحفيين الحقيقيين أصحاب القلم والمهنة الصحفية الخالصة من شوائب المصالح والمكاسب والعلاقات المنفعية مع المتنفذين وأصحاب السلطة والثروة والجاه والنفوذ.

وأفضل من لخَّص تلك المعارك الصحفية في سوح القضاء وداخل اقفاص المحاكم، الصحفي والمحامي والمؤرخ «أحمد فوزي عبد الجبار» في كتابه الممتع «أشهر المحاكمات الصحفية في العراق» الصادر عام 1985 والذي تضمن نصوصاً ووثائق حصل عليها من سجلات المحاكم، وآثر أن ينشرها كما هي في نصوصها الأصلية بأغلاطها اللغوية والإملائية.

وتناول الكتاب تفاصيل عدد من محاكمات الصحفيين، ومنها محاكمة إبراهيم صالح شكر جريدة «الأماني القومية» 1931، ومحاكمة كامل الجادرجي «صوت الأهالي» 1946، ومحاكمة عزيز شريف «الوطن» 1946، ومحاكمة قاسم حمودي «لواء الاستقلال» 1947، ومحاكمة قدري محمود عزت «الدفاع» 1953، وأخيراً محاكمة المؤلف نفسه سنة 1953 مدير تحرير جريدة «الجريدة» لفائق السامرائي، ليتم تجريمه والحكم عليه بغرامة قدرها خمسون ديناراً، وعند عدم الدفع تكون العقوبة الحبس الشديد لمدة 45 يوماً !.

كثيرة هي الكتب التي أنجزها أحمد فوزي عبد الجبار، غير ان كتابه هذا يسرد حقبة مهمة ومفصلية من تاريخ صراع الصحافة العراقية مع السلطات الحكومية، ليكون واحداً من أهم المؤلفات التي توثق للصحافة في حقبة العهد الملكي التي كثرت فيها محاكمات الصحفيين مع التبدل المستمر للحكومات والوزارات ورؤسائها ووزراء داخليتها وقوانينها وتعليماتها للمطبوعات الصحفية، وكانت تلك المحاكمات تعكس واقعاً يتأرجح بين التضييق على الحريات الصحفية من جهة، وبين فضاء الحرية الواسع الذي تحميه استقلالية ونزاهة القضاء في ذلك العهد، والتعاطف الشعبي الواسع مع الصحفيين المحالين الى القضاء، متمثلاً بتبرع العشرات من المحامين للدفاع عنهم، والحضور الى المحاكم نصرة للصحفيين، وصونًا لحرية الصحافة والدفاع عنها بصلابة.

وفي هذا السياق التاريخي غير الأكاديمي والمكتوب بلغة صحفية مشوقة، قَدّم فوزي أكثر من ثلاثين كتاباً مطبوعاً أو مخطوطاً، منها ما يتناول سيرة وذكريات عدد من رجال الفكر والأدب والقانون العرب، أمثال طه حسين، والسنهوري، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، ومنها ما يتناول صفحات مثيرة وحساسة من تاريخ العراق المعاصر، فقد خص حقبة عبد الكريم قاسم بأكثر من خمسة كتب لامَّهُ عليها بقسوة أنصار الزعيم لاحتوائها على حكايات عَدّوها ملفقة بسبب معارضة المؤلف له والذي كان شاهد عيان لما جرى في الساعات الاولى لسقوط الملكية في العراق صبيحة 14 تموز 1958، وفي الليلة التي سبقتها، وذلك ما تناوله في كتابه» اليوم الأخير للملكية في العراق 13 تموز 1958-14 تموز 1958»، مع كتب أخرى عن الملك فيصل الثاني، والمهداوي، وسيرة ومحاكمة ومصرع عبد السلام عارف، وانقلاب عارف عبد الرزاق، وجمال عبد الناصر والعراق، وأشهر الاغتيالات السياسية في العراق، وليلة سقوط الملكية في العراق 13 تموز 1958، هذا عوضاً عن كتابه الطريف «شخصيات وتواقيع»، الذي جمع في وحلَّل خطوط وتواقيع 24 شخصية سياسية وحكومية عراقية وعربية التقاها، ومنهم محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات والملك حسين ونوري السعيد ومحمد فاضل الجمالي.

ومن أبرز المحاكمات، التي يرويها فوزي، محاكمة قاسم حمودي أواخر آذار 1947 بسبب نشر جريدته قصيدة بعنوان « تمثال العبودية « مذيلة باسم « صقر» وهو الاسم المستعار للدبلوماسي والاقتصادي والأديب الدكتور عبد الحسن زلزلة، وتم إلقاء القبض على حمودي بتهمة أن المقصود بالتمثال هو تمثال الملك فيصل الأول، في حين أن المقصود بالقصيدة هو تمثال الجنرال الإنكليزي ستانلي مود، وحكمت المحكمة عليه بالحبس لمدة سنة أمضى منها ثلاثة أشهر: «وأصدر حزب الاستقلال كراساً تضمن سير المحاكمة وكانت صورة غلافه لقطة فوتوغرافية لقاسم حمودي بملابس السجن والسلاسل في يديه».

ومن الطريف أن هذه المحاكمة تحولت من محاكمة سياسية إلى محاكمة سياسية أدبية، بعد أن اختارت المحكمة بعض المحكمين من الشعراء والأدباء ومنهم مع حفظ الألقاب محمد رضا الشبيبي، ومحمد مهدي الجواهري، ومحمد بهجة الأثري، وعبد الحسين الأزري، ومصطفى جواد، وعلي الشرقي، ومنير القاضي، وصادق الملائكة، وغيرهم الكثير، وقد قدّم هؤلاء درساً عظيماً في الوطنية والموقف الشجاع والاستبسال في الدفاع عن حرية الصحافة وعن زميلهم الصحفي المتهم، ونجحوا في إفاداتهم الأدبية من إقناع المحكمة بأن المقصود بالتمثال هو الجنرال مود، وليس: « المغفور له الملك فيصل الأول».

وتلك أيام مشرقة في مسيرة الصحافة العراقية، وفي مسيرة القضاء العراقي، وفي علاقة السلطة بالصحافة والصحفيين التي كانت تتسم بالنّدية والمناكدة والسخرية اللاذعة، لكنها كانت أيضاً تتصف بالرحمة والتسامح والطرافة والأريحية، وثَّقتها أوراق أحمد فوزي قبل أن توافيه المنية وهو لم يتجاوز الرابعة والستين من العمر.

***

د. طه جزّاع

في المثقف اليوم