شهادات ومذكرات

الكاردينيا الفاتنة (حكاية حياة)

علي المرهجأكملت السنة التحضيرية في الدراسات العُليا (الماجستير)، وبعد حين طلب منَا رئيس القسم واللجنة العلمية تسجيل موضوع بحثنا، وكُنت من قبل في السنة التحضيرية قد كتبت بحثاً عن فيلسوف أمريكي لم يحظ بشهرة عالية رغم أهميته في تاريخ الفلسفة عموماً، وفي تاريخ الفلسفة الأمريكية على وجه الخصوص، ألا وهو (تشارلس ساندرس بيرس) مؤسس الفلسفة البرجماتية التي اشتهرت على يدي فيلسوفها الأشهر (وليم جيمس) الذي وصفه (بيرس) بـ (جوهرة البراجماتية)، رغم التباين بين رؤى (بيرس) المنطقي (البرهاني) ورؤى (جيمس) (السيكولوجي) الذي لا يستهويه المنطق، ولا رغبة له فيه.

عشق (بيرس) (كانط) وحاول أن يبني فلسفته البراجماتية على غرار فلسفته (النسقية) معمارياً، فهو المُحب لـ (كانط) منذ صغره، وحفظ كتابه (نقد العقل المحض) عن ظهر قلب وهو لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره.

المهم أنني رغبت الكتابة عن فلسفة (بيرس) الذي لم يُكتب عنه في اللغة العربية سوى القليل، وقد حاورت بعض من العارفين باللغة الإنكليزية، وعلى رأسهم المترجم والناقد المعروف الأستاذ (سعيد الغانمي)، وأخبرته برغبتي في الكتابة عن فلسفة (بيرس) وقد نصحني بتجنب الكتابة عنه، ولكنني كأي شاب مُتحمس، لم أقبل بنصيحته، وبعد فحص لما كُتب عنه في الدراسات العربية، ألححت بأن يكون موضوعي لدارسة الماجستير عنه، وبعد سعي للبحث عن فلسفته وبعد مُساعدة أحبة لي في الترجمة، وجدت في (د.علي حاكم)، والأخ العزيز (أحمد الهاشم)، والكبير (د.يوسف اسكندر)، والأخ الأحب (رزاق عبد شنيف) والأخت المترجمة (فاطمة الذهبي)، وروح الأخوة المترجمة (خالدة حامد) يُبدون استعدادهم للتعاون معي في انجاز مشروعي (المهم) عندهم قبل أن يكون عندي، فآثرت الاصرار على أن يكون هو لا غيره موضوع دراستي وبحثي في الماجستير، وكيف لا؟ وأنا محظوظ بمثل هذه الأسماء الكبيرة التي أصبحت اليوم أعلاماً في عالم الثقافة والترجمة تُحيطني بمحبتها وتحلم بمنجز أحققه أنا ليكون مُنجزاً لي ولهم.

طرحت الموضوع على اللجنة العلمية، فوافقت لكن بشرط وجود من يقبل الإشراف على مثل هكذا موضوع جديد!.

بينما أنا أفكر حائراً بمن يقبل الإشراف على هذا موضوع، وجدت الدكتور طه الجزاع الذي لم تكن تربطني كبير علاقة به، ولكنه نسمة معرفة ومحبة، تمر على الحائر مثلي لتنكشف له سرائر النفس والمعرفة معاً، أظن لأنه يستشف من روح إفلاطون الذي كتب عنه أطروحته بعض من مثاليته، رغم أنني لم أعشق افلاطون بسبب أستاذ أحب إفلاطون وكتب عنه عاشقاً لفلسفته، ولكنه لم يكن يوماً افلاطونياً بالفعل، إنما هو افلاطوني بالكلام!!، وربما نُشابهه، مع فارق التعبير الوقح عنده!!.

سأني (الجزاع) ما لي أراك حائراً (مشدوهاَ)؟، فأخبرته بأن اللجنة العلمية وافقت على موضوعي بشرط موافقة أستاذ مُختص على الإشراف، فسألني وما المشكلة؟ فأجبته بأن المُشكلة أنني لم أجد سوى الأستاذة (فاتنة حمدي) بحكم اهتمامها بالفلسفة المعاصرة يُمكن لها أن أن تقبل الإشراف على موضوعي هذا!، فردَ علي ولتُشرف (فاتنة على الموضوع، فقلت له ولكنني لا أعرف فاتنة ولا تعرفني، ولربما ترفض الإشراف عليَ، فأجابني (هاي سهلة خليها عليه)!!.

وبعد يوم أو يومين قابلت (الجزاع) فقال لي هل ذهبت لعرض موضوعك على أستاذتنا (فاتنة)؟ فتعجبت!، وقلت له كيف لي أن أذهب وهي لا علم لها؟، فأجابني (ها اشبيك أخبرتها بموضوعك ورحبت، ولكنها ترغب باللقاء معك، لتعرف ما مقدار فهمك وتعلقك بهذا الموضوع)، فطارت روحي قبل عقلي، فصفقا فرحاً، وبين جناحي الروح والعقل الطائرين في مرح المحبة للتفلسف وعشق الحياة التي تمثلت برؤية وسلوك أستاذتنا (فاتنة حمدي) حلَقت رؤاي، فاختصرت (بايات) سلم القسم كي أقفز فرحاً لأكون في ممرات الطابق الأول الذي كانت فيه غرفة أستاذتنا (فاتنة حمدي)..

طرقت باب غرفتها، وأنا الذي لا أجيد حُسن طرق الأبواب، لأنني ابن الجنوب وأبواب الكون كُلها أبوابي، إن لم يكن أجدادي هم من صنعوا الأبواب بعد اختراقهم صمت الأرض وجدبها بعد أن لم يكن فيها حياة فكانوا سادة من يصنع دبيب الروح فيها ونبضها، فهم الأحق بخرق قوانين المدنية الخرقاء التي صيَروها مدينة فتعالت عليهم!!.

المدينة (فاتنة) مثل أستاذتي (فاتنة)، سمحة مثلها لا تقبل تصنعاً في الاقبال على المعنى الجميل، لأنها (فاتنة جميل حمدي) تجتمع فيها كل صفات الحمدُ والفتنة والجمال الأخَاذ لرقة فيها وترف..

إنه ترف الجمال فهي أستاذة الجمال في قسم الفلسفة معرفة وتدريساً واتقاناً لعوالم (الموظة) وصرخات الأزياء لا تباهياً، بقدر ما فيها من شغف للعيش في كنف الجمال الذي تستحقه.

طرقت الباب، فسمعت صوت فيروزي ناعم يقول تفضل، ففتحت الباب بروية، ومددت رأسي، فإذا بها جالسة على كرسي يستريح لوجودها، ومنضدة أو (ميز) كره بعض التراب الذي فيه لأن (فاتنة) مثل أستاذتي جلست والثقة تملؤها ولا خوف بعينيها، ولكنني أظن أن آثاث الغرفة قد عاتب نفيسه لأنه لم يرى في وجوده ما يليق بفاتنة الفلسفة وجميلتها!!.

لا أتحدث غزلاً لأنه كأم لي، ولكن الابن يعشق الكلام عن الأم حينما تستحق أن يُقال عنها ما تستحق من الكلام وأحسنه.

مددت رأسي بينما أنا فتح باب غرفتها، فقالت لي تفضل، فأجبتها أنني (علي عبدالهادي)، فبدت على وجهها ابتسامة الترحيب، فطلبت مني الدخول والجلوس على كرسي مقابل للـ (الميز) الذي وجدته غير راض عن وجوده أمام (جميلة الجميلات) (الفاتنة جميل حمدي)، فحدثتها عن موضوعي، فوجدتها فرحة تستبشر بيَ خيَراً، فوافقت على الإشراف على رسالتي للماجستير.

سجلت رسالتي بعنوان (الفلسفة البراجماتية عند تشارلس ساندرس بيرس ـ قراءة تحليلية).

قرأت الكثير حول بيرس في العربية وما كُتب عنه في الإنكليزية، وترجمت الكثير بمعونة الأصدقاء الذين ذكرتهم، وكُنت أعرض على أستاذتي (فاتنة حمدي) ما أكتبه، فكانت تُراجع ما أكتب لتُصححه بحكم معرفتها باللغة الإنكليزية، لأنه مُجيدة لها تمام الاجادة بحكم دراستها للفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت، فكانت خير مُعين لي.

لم أكن أعرف صفات وشكل ورد الكاردينايا من قبل، ولكنني أسمع عنها أنها وردة تبعث البهجة في النفس، وبعد أن توثقت علاقتي بأستاذتي وجدت أنها تجلب معها وردة بكميات لا بأس بها تبعث عطراً يخترق مسافات التوَق للعين التي تعشق قبل الأذن أحيانا!.

لم تمنحني أستاذتي (فاتنة) وردة (كاردينيا) فقط، إنما هي أعادة عندي ترتيب أوراقي في التعبير عن المحبة الصادقة، فهي كانت ولا زالت إنسانة تعرف مذاق الحرية التي تُحسن ربطها بالمسؤولية، فتعلمت منها أن الحياة تصنعها إمرأة باذخة الجمال ببراءتها، ولا يصنع الحياة مُدَعون وسخون بلحى طويلة، ولا ذم عندي لأصحاب اللحى الطويلة لأن فيهم القليل من الذين يُصيَرون أنفسهم وحياتهم من أجل نثر محبة يأيديهم النقية كي يجعلوا من الدين دين سماحة وتلاقي وتعايش.

السماحة في عطر ورد الكاردينايا الذي قطفته يدين ناعمتين من حديقة غنَاء بالمحبة الأسرية والعائلية كعائلة أستاذتي (فاتنة) هي ذات اليدين التي تقطف من دين المحبة الذي زرعه الأنبياء والصديقين والأولياء على اختلاف دياناتهم، لنقطف نحن الوارثون حُب الآخرين وإن كانوا خالفونا في الملَة.

أهدتني الكثير سيدتي وأستاذتي من ورد الكاردينيا، فكنت أوزعه ذات اليمين وذات الشمال على كل من ألاقيه في المكتبة المركزية الثانية لجامعة بغداد، فكانت بعض الموظفات من اللواتي تعودن على قدومي يومي الأحد والثلاثاء من كل أسبوع ينتظرن الكاردينايا وعطرها ولا أظنهن يتذكرن شكلي، لأن في الكاردينيا وسماحة لونها الأبيض وعطرها الأخاذ ما يُنسي الهادي له، وإن يكن مُهدياً أحيانا..

حدثتكم عن بعض من جمال الحياة عن صنف مؤنسن، وأخبرتكم عن حُسن الطبيعة بعطر ورد ولون ورقه وزهره جنان وحنان!!...

كاردينيا فاتنة أنت في توقك للمعرفة، وجميلة أنت في إنسانيتك...

شكراً لك لأنك كُنت بحق (فاتنة جميل حمدي)..

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم