شهادات ومذكرات

شعبان عبد العزيز خليفة.. رائد علم المكتبات

محمود محمد عليخلال الأسابيع الماضية غيّب الموت الأخ والصّديق الأستاذ الدّكتور" شعبان عبد العزيز خليفة "( 29 سبتمبر 1941= 23 يونيه 2019)، (أستاذ علم المكتبات والمعلومات بكلية الآداب – جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية) تاركا سمعة وسيرة عطرة ستخلّده في قلوب من عرفوه.. صمتّ وحدي عندما قرأت الخبر الفاجع.. تعطّلت قواي، عادت بي الذّاكرة إلى مواقف كثيرة لا تنسى.. تذكّرت مقولة للإمام عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول فيها: "أكره الحق، وأهرب من رحمة الله، وأصلي دون وضوء! فسئل: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أكره الموت وهو حق، وأهرب من المطر وهو رحمة من الله، وأصلي على الرّسول دون وضوء." .

ووالله إنّ الموت مكروه مع أنّه حقّ على الأحياء كلهم، خصوصا إذا ما اختطف إنساناً أخاً وصديقاً وفيّا كالدّكتور " شعبان خليفة " الذي ينضح حبّا إنسانيّا قلّ مثيله. رحل الإنسان النّقيّ الذي لم يحمل ضغينة لأحد كما اعتقد، رحل ليترك غصّة في قلب من عرفوه كلهم، فوالله إنّ العين لتدمع وإن القلب ليحزن، "وإنّا لفراقك يا شعبان لمحزونون".

أما أن ترحل قامة علمية مثل الدكتور " شعبان خليفة، دون كلمة رثاء فى الإعلام المصري والعربي، فتلك علامة من علامات التردي، ودليل من أدلة الرداءة والعشوائية، فهذا الرجل كان من أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعملون بما يؤمنون، لقد كان هذا الرجل ( كما قال هو بنفسه في أحد حفلات تكريمه) :" كنت في صباي أمثل صورة ذلك التلميذ في المرحلة الابتدائية الذي عشق القراءة والكتب وعهدوا إليه بإدارة مكتبة الفصل بين أقرانه ووصفوه بدودة الكتب .. صورة ذلك الطالب في المرحلة الإعدادية والثانوية والذي أنشأ أول مكتبة في الشارع الذي يسكن فيه باشتراك أسبوعي قدره قرش صاغ واحد.. صورة ذلك الطالب الجامعي الذي خُير بين دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية أو المكتبات والمعلومات فاختار المكتبات والمعلومات .. صورة ذلك الخريج الذي حرمته السياسة من الابتعاث إلي الخارج فآل علي نفسه أن يحج إلي المكتبات الأمريكية كل عام".

وهنا تتداخل المشاعر وتختلط الأحاسيس تطفو علي سطح الذاكرة صورة ذلك اللقاء الأول بيني وبينه علي متن الطائرة الأمريكية (TWA) المتجهة من مطار القاهرة إلي مطار نيويورك في أوائل شهر مايو لعام 2001م، التقيته داخل الطائرة، فسألني إلي أين ذاهب، قلت له إلي جامعة جورجيا لقضاء عدة أشهر في مهمة علمية منحتني إياها جامعة أسيوط العظيمة، وأخذ طوال الرحلة يحدثني عن مغامراته ورحلاته إلي نيويورك وآسيا والصين ودول كثيرة، وطلب مني وأنا في أمريكا أن أتواصل معه، وبالفعل تواصلت معه، واستمرت علاقتي به إلي أن لقي ربه خلال الأسابيع الماضية.

ولذلك أقول أي الكلمات لديها القدرة أن ترثى عالماً ومفكراً بالغ الصدق والنبل والنقاء، مثل شعبان خليفة؟! أي الكلمات لديها القدرة؟!، فالذين يتسمون بالصدق والنبل في مهنة المكتبات والمعلومات قليلون، وقد ازدادوا برحيله قلة!.. لا أظن أنه من قبيل المبالغة أن أقول إنه من أكثر الذين قدر لي أن أعرفهم من أساتذة المكتبات والمعلومات (علي مستوي أساتذة الجامعة بلا مبالغة) بعداً عن المداهنة أو المتاجرة بالمهنة لحساب أي سلطة من السلطات بما في ذلك سلطة الرأي العام ذاته الذى كثيراً ما يغازله بعض الكتاب على حساب الحقيقة الموضوعية!.

والحقيقة التي لا يعرفها الكثيرون وهي أن الدكتور شعبان خليفة هو من أهم وأشهر علماء المكتبات والمعلومات المصريين الذين دونوا سيرتهم الذاتية في كتاب بعنوان " نهر العمر ودهره"، حيث وصف العمر أو حياة الإنسان بنهر بكل ما تتسم به الأنهار، فمشاعر وأحاسيس الإنسان تتدفق، مثل مياه النهر، ويتولد عن هذا التدفق تفاعلات وانفعالات تنتج أحداث، وجعل للعمر أيضاً دهر بكل ما يعرفه الإنسان عن الدهر، فالأحداث تنتج عمر يعيشه الإنسان في رحلات قد يبلغ مداها دهر، وحتى يكون هذا العنوان واضحا للقارئ، وضع شعبان خليفة عنوان فرعي توضيحي وشارح هو "قصة حياة"، ليوضح للقارئ أن هذا العمل عبارة عن قصة حياة هذا النهر وهذا الدهر. وقد قسم الدكتور شعبان نهر عمره ودهره إلي خمس فصول أطلق على كل فصل منها رحلة من رحلات عمره بدءًا من الرحلة الأولي والتي هي رحلة النشأة والتطور وانتهاءً بالرحلة الخامسة التي هي المرحلة الجامعية.

لفت نظري في رحلاته وهو في صباه أمر أبكاني وأدمعني، حين وصف وصفا مبكياً موت أمه بالكوليرا وكيف كان حاله وهو في الرابعة من عمره وهو يذهب إلى محطة القطار، ثم محطة الأتوبيس ينتظرها عندما أخبروه أنها سافرت إلى القاهرة، وكيف كان ينتظرها في الترب عندما أخبروه أنها سافرت إلى الله في الترب، ثم وصف ذهابه إلى الكُتاب وهو قبل السابعة من عمره والشيخ الذي كان يحفظه القرآن، ومر على مراحل حياته المدرسة الابتدائية والإعدادية والثانوية، ووقف عند سمات كثيرة له في هذه المراحل المدرسية، منها على سبيل المثال، مدرسة اللغة الإنجليزية في المرحلة الإعدادية.

كما لفت نظري أمر آخر في سيرته الذاتية وهو يشرح لنا كيف كون المكتبة التي كان يعير منها الكتب لأهل قريته، فكان الصبي المكتبي، كذلك لفت نظري عندما روي تفاصيل المرحلة الثانوية وفصله من المدرسة وتخوفه لنقل الخبر لوالده، ثم العدوان الثلاثي وكيف وهو في المرحلة الثانوية وكان عمره 11 سنة يذهب إلى بور سعيد مع الشباب لكي يحارب ويتدرب على محل السلاح، ثم انتهى العدوان بدون حرب ورجوعه إلى القرية.

ولعل من أبرز ما يعجبني في تقييم شعبان خليفة ظاهرته الفكرية لا الصوتية، فهو محلل بارع للأحداث، والشخصيات بلا أي ثرثرة، أو استعراض عضلات .. فضلا عن قوة مجابهته للخصوم الذين تلونت فيهم الأفكار والسياسات والأيديولوجيات. لقد مرّ الرجل بمراحل خطيرة في حياته، وخرج منتصراً منها كونه قد حافظ ليس على حياته فحسب، بل على كيانه الذي بناه منذ عشرات السنين .

التقيت به بعد عودتي من أمريكا في مناسبتين، الأولي جاءت مصادفة في كلية الآداب - جامعة القاهرة عندما كنت أزور أستاذي الدكتور عاطف العراقي بقسم الفلسفة، والثانية عندما أشرف سيادته علي قسم المكتبات والمعلومات بكليلتنا الموقرة (كلية الآداب – جامعة أسيوط)، وكنت أحب أن أستمع لمناقشاته ومحاضراته؛ إذ لمست فيه عمقًا ثقافيًا هائلاً، وصوتاً له القدرة على أن يضع النقاط فوق الحروف .. كما اكتشفت فيه مؤرخاً ماهراً في تخصصه باستطاعته استدعاء البراهين والأمثلة التاريخية (في علمي المكتبات والمعلومات) التي يمكنه توظيفها بمهارة وفن، كي يكسب جولته بأفكار جريئة ليس لغيره القدرة أن يقتحمها أبداً ! كذلك اكتشفت فيه أيضاً أنه كان مغامراً في الخروج بنتائج تبين لي فيما بعد أنه صائب في تقديراته للأحداث وصيرورتها وتداعياتها .. فضلاً عن أسراره في معرفة العالم الغربي والقوى الدولية .. إنه ذكي في قراءة المتغيرات المتبلورة عند مطلع التسعينيات وما بعدها.. وأثبتت الأيام مصداقية نتائجه .

لقد اكتشفت أن رؤيته الثاقبة للأمور تنسجم مع ما يؤمن به من أفكار ومعتقدات سياسية ؛ فهو مصري قح، ولكنه لم يجعل من العروبة قميص "عثمان بن عفان" يحمله أينما كان .. يحترم خصوصياته، ويدلي بقوة لدى الآخرين .. إذ وجدته ينبه من مخاطر محلية وإقليمية ودولية. اكتشفت أيضاً نزعته النقدية في تحجيم الخصوم وتهميش ما يقولون وجعل رأيه هو محور التعامل الأساسي . وعليه، فان خصومه معروفون دوماً وليس باستطاعتهم منازلته، إذ يدركون جيداً مدى قوته إزاءهم .

ومن الأمور التي أبهرتني في هذا الرجل أيضاً كيف بدأ رحلة تحصيله بجامعة القاهرة بقسم المكتبات والمعلومات، إلي أن أصبح واحداً من كبار الرواد في مجال علم المكتبات والمعلومات في مصر والعالم العربي، حيث ذكر لنا د. محمد جلال سيد محمد غندور" في ( دراسة تحليلية للدكتور شعبان خليفة إنتاجه الفكري من 1963 إلي 1997م ) بأن :" إسهاماته العلمية والفكرية لا تحتاج إلي تأكيد مني أو من غيري، فأعماله الأكاديمية والميدانية لها مردود إيجابي واضح لكل من يعمل في هذا المجال، فمنذ حصوله علي الليسانس في المكتبات والوثائق من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1963م، والتحاقه بالعمل ذات العام معيداً في علوم المكتبات بذات القسم الذي تخرج فيه، وعلي مدي خمسة وثلاثين عاماً من العمل المتواصل، ارتقي خلالها السلم الأكاديمي والوظيفي؛ ليحصل علي أعلي الدرجات العلمية كأستاذ علم المكتبات والمعلومات عام 1984 م، ورئاسة عدد من أقسام المكتبات والمعلومات والوثائق في مصر وخارجها، وعضوية الكثير من الهيئات المهنية المصرية والعربية، وتقلده مناصب استشارية في عدة مؤسسات محلة وإقليمية، ورئاسة الجمعية المصرية للمعلومات والمكتبات منذ عام 1995 م، وهو في هذا وذاك، بذل – ولا يزال – الكثير من الجهود البحثية والفكرية والميدانية، بغية الارتقاء والتخصص، ودفع مسيرته ليلحق بركب التخصصات العريقة التي سبقته علي الخارطة العلمية العربية، وبذلك أوجد لنفسه (( مساحة ما )) في مجال تخصص المكتبات والمعلومات، وأصبح علماً من أعلامه.

كما وصفته الدكتورة عايدة نصير (في دراسة له بعنوان اتجاهات الانتاج الفكري لكتب أ.د شعبان عبد العزيز خليفة) :" ورغم متابعتي لإنتاجه العلمي المتميز، لم أكن أتوقع أن يمثل هذا الثراء العددي والذي وصل إلي 54 كتاباً. ولقد جري العرف ولمسنا بحكم واقع الزمالة لكثير من أعضاء الهيئة التدريسية بالجامعات أن إنتاجهم العلمي يسير في اتجاه عكسي مع نموهم في الدراسات الأكاديمية بمعني أنه ما دام لم يصل بعد إلي درجة الأستاذية، وهي أعلي درجات السلم الأكاديمي، يكون هناك إنتاج يؤهله للوصول إلي تلك الدرجة وعندما يحصل عليها يبدأ مؤشركم الإنتاج في الهبوط حيث لا يوجد الدافع للقيام بإنتاج علمي متميز مع تقدمه في العمر مما يقلل من عطائه، بجانب زيادة المسؤوليات والارتباطات الإدارية والاستشارية التي يكون قد تقلدها بعد الأستاذية وتكون سبباً في انشغاله عن البحث والتنقيب. ولكننا هنا أمام ظاهرة فريدة متميزة تعارضت مع كل التوقعات السابقة فهناك غزارة في الإنتاج وحكمة في الأداء الإداري وصدق في إعطاء المشورة وهو في أعلي درجات السلم الأكاديمي ويرأس قسم المكتبات والمعلومات والوثائق، والجمعية المصرية للمكتبات والمعلومات والأرشيف، وعضو مجلس إدارة دار الكتب القومية، ومقرر لجنة الكتاب والنشر بالمجلس الأعلي للثقافة، ومشاركاً في معظم اللجان المتخصصة. وبرغم هذه المسؤوليات جميعها فقد قام بإنتاج ما يزيد علي 40  كتاباً في مرحلة التسعينيات وكتابين في مطلع القرن الواحد والعشرين .

هذا فضلًا عن توليه رئيسًا لقسم المكتبات والمعلومات جامعة عين شمس 2000- 2003. وحاز رائد علم المكتبات على عضوية الجمعية المصرية للمكتبات والمعلومات "رئيس مجلس الإدارة منذ 1994 حتى الآن"، واتحاد المكتبات الأمريكية منذ 1992. وتوفي في 23/6/2019.

وقد نشر الدكتور شعبان خليفة علي مدي فترة زمنية تقدر بتسعة وخمسين عاما ( بداية بعام 1963 وحتي نهاية 2019) أكثر من 400 عملاً (ما بين كتب وأبحاث ومقالات)، تباينت في خصائصها الزمنية، الوعائية، الموضوعية؛ حيث شكلت في موضوعها إضافة لها قيمتها الأكاديمية والعلمية للمكتبة العربية في مجال المكتبات والمعلومات، وقد كان من الطبيعي أن يتأثر إنتاجه الفكري كماً وكيفا، بالفترة الزمنية التي أنتج فيها وبالظروف الأكاديمية والعلمية والحياتية المحيطة بكل فترة منها، فتزداد وترتفع، في بعض الفترات وتنكمش وتنخفض في البعض الآخر، لكنها في هذا وفي ذلك لم تتوقف بأي حال من الأحوال، إلا في ثلاث سنوات فقط خلال الأعوام من 1967 م الي 1969 م (كما ذكر د. محمد جلال سيد محمد غندور" )، وهي الفترة التي أعقبت حصوله علي درجة الماجستير عام 1966 م، وقبل حصوله علي درجة الدكتوراه عام 1972 م.

ويذكر د. محمد غندور" أن رؤيته تشير البحثية، إلي إمكانية إرجاع انشغال شعبان خليفة في هذه الفترة بالتحضير لرسالة الدكتوراه، في أصعب مراحلها وهي مرحلة الإعداد، والبحث، والاختيار، والتحضير، وجمع المصادر وتنظيمها، وغيرها من الهموم والشواغل التي يعاينها طلاب الدكتوراه في جميع أنحاء العالم؛ وخاصة في البلاد النامية والعالم الثالث، إلا أنه استطاع – بعد هذه الفترة – أن يستعيد نشاطه البحثي مرة أخري، حيث بدء إنتاجه في التصاعد التدريجي حتي وصل إلي أعلي معدلاته (من زاوية الكم ) ما بين الأعوام 1976 م 1979 م، وهي ذات الفترة الذي أعير فيها من جامعة القاهرة ليعمل كأستاذ مشارك، ورئيس لقسم المكتبات والمعلومات بكلية الآداب والإنسانيات بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وقد تشكلت معظم أعماله في هذه الفترة، والتي بلغت حوالي 85 عملاً، من المقالات، يستثني من ذلك سبعة أعمال، أربعة منها مؤلفات كتب، والثلاثة الأخرى بحوث ودراسات نبعدها بدأ معدل إنتاجه في الهبوط من زاوية الكم لفترة زمنية بلغت ست سنوات من عام 1980 م وحتي عام 1985 م. وتتزامن هذه الفترة مع انتهاء فترة إعارته في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وعودته إلي جامعة الأم ( جامعة القاهرة )، حيث أنتج خلالها خمسة عشر عملا، منها خمسة مؤلفات (كتب) وعشرة بحوث، وحصل خلالهما علي درجة الأستاذية عام 1984. ثم أعقب ذلك ارتفاع نسبي في معدل إنتاجه خلال العام 1986 ليبلغ في هذا العام وحده سبعة عشر عملاً، منها عشرة مقالات وخمسة بحوث، وورقتي عمل مؤتمرات، نجد أيضاً أنه أتم إنتاجه هذا خلال فترة إعارة لم تستمر إلا سنة واحدة ( العام الأكاديمي 85 /1986)، بالمملكة العربية السعودية كأستاذ علم المكتبات والمعلومات والوثائق، بكلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام ثم بدأ إنتاجه بالتذبذب صعوداً وهبوطاً ( من ناحية الكم) واستمر ذلك حتي عام 1997 م، وحتي الفترة التي يقلد فيها رئاسة العديد من الأقسام في داخل مصر وخارجها، حيث أعير خلال هذه الفترة إلي دولة قطر لمدة ست سنوات من عام 1986 م إلي عام 1992 م، كأستاذ ورئيس قسم المكتبات، بكلية الإنسانيات جامعة قطر، أنجز خلالهما 24 عملاً تضمنت أحد عشر مؤلفا (كتاباً) وسبعة بحوث وأربعة مقالات، وورقة عمل مؤتمر، ومراجعة علمية واحدة ليرجع بعدها إلي جامعة القاهرة، لشغل منصب أستاذ ورئيس قسم المكتبات والمعلومات، بكلية الآداب - جامعة القاهرة، ويستمر في عمله، حتي عام 1994 م، حيث تقلد منصب أستاذ ورئيس قسم المكتبات والمعلومات بكليتي الآداب جامعة القاهرة، وفرع بني سويف حتي الآن، وقد نشر خلال هذه الفترة اثني عشر مؤلفا (كتابا)، تعد من أبرز إبداعاته الفكرية. تبلغ فيهما الإنتاجية أعلي معدلاتها، فينتج عنها دورتين، ومنخفضا بيانا، وبالتالي نحصل علي منحني شبيه (( بسرج الفرس)) وقد كان أول ما لفت انتباهي عند دراسة الإنتاج الفكري شعبان خليفة، هذا التطابق الواضح بين الإنتاجية وإحدى النظريات التي وضعت حول مسار خط الإنتاجية للبحثين.

ولأن الدكتور شعبان كان دائما يستفيد من السبع فوائد للسفر فقد حرص (كما يخبرنا د. محمد غندور") طيلة حياته الاشتراك في الجمعيات والاتحادات المهنية والتي تقوم بتنظيم مؤتمرات سنوية تجوب مدن ودول مختلفة حتي تكون له الفرصة في السفر والسياحة والعلم والمهنة... وما على ذلك، من هذه الاتحادات التي اشترك فيها اتحاد المكتبات الأمريكية فذهب في صيف 1992م مع أول مؤتمر يحضره مع هذا الاتحاد إلى ميامي بيتش في ولاية فلوريد، ومن المعروف أن ميامي هي سكن علية القوم والأغنياء من أمريكا وكثير من دول العالم وقصورهم وفيلاتهم تتحلق الشاطئ في خليج فلوريد.

ثمة أمر مهم بالنسبة لي أود أن أشير إليه في نهاية حديثي عن شعبان خليفة، وهي أن هذا الرجل قد تعرض للعديد من المؤامرات لوجوده مشرفا على بعض أقسام المكتبات في معظم كليات الآداب بجامعات مصر، وللأسف حيكت له تلك المؤامرات من أعز الناس إليه وهم تلاميذه (سواء المباشرين أو غير المباشرين)، وكأن لسان حاله يقول ("علمتهم نحت القوافي فلما كبروا واشتد ساعدهم هجوني"! ألم يقال" إتق شر من أحسنت إليه.. وأن "عدوك هو ابن كارك" )، أو من زملائه في المهنة الذين إن قابلوه يعطوه من طرف اللسان حلاوة وإن أداروا ظهورهم له راغوا منه كما يروغ الثعلب.

علي كل حال فالرجل لم ييأس إزاء كل هذه الأجواء الصعبة، فقد قرر الابتعاد لبعض الوقت عن كل هذا لأنه يحب الحياة، ولا يحب أن يعيش بعض الوقت في هذه الحياة في ضيق وهم وحزن، فقرر يعود أدراجه في السفر لبعض الدول الأوربية، مثل النمسا، وكوريا الجنوبية، والولايات المتحدة الأمريكية إلي أن وافته المنية في الثالث والعشرين من الشهر الماضي وهو شهر يونيه لعام 2019.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور شعبان خليفة الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور شعبان خليفة، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم