شهادات ومذكرات

نجيب الحصادى..عاشق الفلسفة

محمود محمد عليكان العلماء والفلاسفة دائماً أبداً هما المنارة التي تضئ بوهج علمها مسار الطريق العلمي والثقافي للبشرية، بما يقدمونه من أفكار نابعة، من نبع علمي وأدبي فلسفي، وبموهبة ونفحة سماوية خاصة، لا يسبغها الله إلا علي مختاريه من رسل الكلمة وقادة الفكر؛ فحينما أرادت العقول الإنسانية الكبيرة أن تعظم الفيلسوف اليوناني الكبير "أرسطو" منحوه لقب معلم البشرية الأول، ونفس الشئ حدث مع فيلسوفنا العظيم "أبا نصر الفارابي" الذي مُنح هو أيضا لقب معلم البشرية الثاني.

وهكذا نري الفكر الفلسفي عند المعلم الأول ينتقل من جيل إلي جيل حتي المعلم أحمد لطفي السيد، ثم امتداداً للمعلم طه حسين، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا ؛ ففي كتاب" قادة الفكر" للدكتور طه حسين الذي نراه يقدم لنا تلك القادة الذين انتقلت منهم القيادة إلي طائفة أخري، هي طائفة الفلاسفة الذين خلَد التاريخ القديم أسماءهم وآراءهم، مثل سقراط، وأفلاطون، وديكارت، وجان جاك روسو، وكنط، وأوجست كونت، وهربرت سبنسر... هؤلاء الفلاسفة جاءوا بعد هوميروس ؛ حيث يقول طه حسين:" فلقد كانت قيادة الفكر في يد الشعراء في العصور الأولي من حياة الأمة اليونانية، ثم انتقلت هذه القيادة إلي الفلاسفة والمفكرين الذين استطاعوا أن يقودوا الفكر ويدبروا شئون دولته الكبري، ومع حلول القرن العشرين جاء العلم والفكر معاً ليمتزجا بالفلسفة، وظهر في مصرنا الخالدة أدباء وفلاسفة ورواد فكر، استطاعوا أن يقدموا فكرهم وفلسفتهم برؤيا متطورة لصالح البشرية، ولخدمة العقول الإنسانية وخلق جيل من المفكرين والأدباء ورسل العلم، ليعتنقوا ويمارسوا ويسيروا علي نهج هذا الفكر وهذه الفلسفة بأصالة ومعاصرة .

وقد انتقل هذا التقليد إلي معظم أشقاؤنا في الدول العربية ففي العراق وجدنا رواد يقومون بهذه المهمة من أمثال ياسين خليل وفي سوريا وجدنا جورج طرابيشي، وفي الجزائر وجدنا محمد أركون، وفي تونس وجدنا هشام جعيط، وفي المغرب وجدنا محمد عابد الجابري، وفي الأردن وجدنا شاكر النابلسي، وفي لبنان وجدنا حسين مروة، وفي الكويت شفيقة بستكي.أما في ليبيا الشقيقة فلم نجد من يقوم بهذه المهمة علي الوجه الأكمل إلا نجيب المحجوب الحصادي الشهبر بـ"نجيب الحصادي" .

يعد نجيب الحصادي واحداً من أبرز المفكرين الليبيين المعاصرين الذين أسهموا بنصيب وافر في حياتنا الثقافية . تشهد بذلك حياته الحافلة بالنشاط العلمي والثقافي والاجتماعي . فضلاً عن عمله الجامعي علي مدار ما يقرب من نصف قرن، وما شغله من مناصب خلال هذه الفترة، وما قدمه من مؤلفات، وأبحاث، ومشاركة في مؤتمرات، وتخريج لصفوة الباحثين المنتشرين في معظم دول الوطن العربي، فقد أسهم الرجل في العديد من المؤتمرات والندوات الثقافية والمحاضرات العلمية خارج قاعات الجماعة، كما تولي الإشراف علي مجلات ثقافية وفلسفية . وخصص جزءً كبيراً من وقته متعاونا لازدهار الحركة الثقافية بليبيا وتكوين جيل من شباب المثقفين لمتابعة المسيرة العلمية.

كما يعد نجيب الحصادي أيضا أعظم المفكرين الليبيين المتخصصين في فلسفة العلوم  فى النصف الثانى من القرن العشرين، الذين لم يكونوا يحملون سيفاً أو بندقية، بل فقط عقلاً وقلماً، وهو لم ينعزل بأفكاره عن العالم والمجتمع، ولم يختص نفسه وتلاميذه بالفلسفة، بل إنه كان من المؤمنين يضرروه إنزال الفلسفة من عزلتها إلى الشارع، وصعد بالشارع إلى عالم الأفكار، حيث بدا فى كثير من الأحيان خليطاً من سقراط، وأرسطو، وسبينوزا، وهيجل، وفولتير، وقام بدور طه حسين، وسلامة موسى، وزكى نجيب محمود، وحسن حنفى؛ وذلك عندما جعل الثقافة والفكر موضوعا للنقاش العام، مدركاً أهمية العقل فى التقدم. كان نجيب الحصادي يمتلك شجاعة اقتحام الموضوعات المسكوت عنها في فلسفة العلم، والدخول فى مواجهات مع أفكار أو تصرفات سياسية واجتماعية، مستخدماً سلاحاً واحداً هو العقل، دون حسابات للتوازنات أو التوقيت أو المكسب والخسارة.

ولد نجيب الحصادي في الخامس والعشرين من شهر أغسطس عام 1952 بمدينة درنة، ليبيا، وتعلم في المدارس الليبية من ابتدائي وإعدادي وثانوي، وفي المرحلة الجامعية سافر إلي الولايات المتحدة الأمريكية، ليمنح درجة من جورج تاون، واشنطن دي. سي، الولايات المتحدة عام 1977، وليمنح الماجستير أيضا وسكانسن، ماديسون، الولايات المتحدة من 1979، وأما في الدكتوراه فقد اجتازها بنجاح من وسكانسن، ماديسون، الولايات المتحدة عام 1982 وذلك في موضوع بعنوان "نقد تصور تومس كون في العقلانية العلمية".

وعقب عودته لأرض الوطن في ليبيا تولي نجيب الحصادي رئيس قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة قار يونس، بنغازي، ليبيا، في الثلث الثاني من عقد التسعينيات، ثم سافر إلي الإعارة لجامعة جامعة الإمارات العربية المتحدة، وفيها تولي رئيساً قسم الفلسفة، كلية العلوم الإنسانية خلال الفترة 2001م وحتي 2002م، ثم تولي منصب العميد المشارك لوحدة التراث والثقافة بجامعة الإمارات أيضا من 2003 وحتي 2004، ثم رئيس لجنة الدراسات العليا بكلية العلوم الإنسانية، جامعة الإمارات أيضا من 2004 م وحتي 2005م.

ولنجيب الحصادي كتابات كثيرة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : أوهام الخلط، وتقريظ المنطق، وتقريظ العلم، نهج المنهج، وليس بالعقل وحده، معيار المعيار، وأسس المنطق الرمزي المعاصر، وآفاق المحتمل، جدلية الأنا-الآخر، والريبة في قدسية العلم، قضايا فلسفية، نتح الكمال...الخ. علاوة علي أبحاثه الكثيرة المنشورة في أغلب الدوريات ومنها : ماهية الفلسفة، العولمة: الخيار الجيني، وقتل المرحمة، والوعي الفلسفي ومستقبل الفلسفة في الجامعات الليبية والخليجية، والوعي الزائف والنسبانية الأخلاقية، قيمية العلم، في التعليم العام- مشروع ليبيا 2025، ودفاع عن الارتيابية، وسجايا ليبية، وظاهرة الاندياح ومسألة الهوية، وفي الجزاء الأعظم، وتوقيت تنفيذ عقوبة الإعدام بين سوانح التراخي وعذابات الانتظار، واحترازات فلسفية، تعايش الليبي مع الآخر الأجنبي والجندري والديني، وفي العيش المشترك في ليبيا وفي مجالات جغرافية أخرى..الخ.

وأما في مجال الترجمة فقد حظيت بنصيب وافر من اهتمامات نجيب الحصادي، نذكر منها علي سبيل المثال: كيف يرى الوضعيون الفلسفة لـ Ayer، ونظرية المعرفة لـ  Chisholm،  وقراءات في فلسفة العلم لـ  Brody،  ورجال الفكر لـ Magee، ومن وجهة نظر منطقية لـ Quine، وإشكاليات فلسفية في العلم الطبيعي لـ Shaper، ودليل أكسفورد الفلسفي لـ    Honderich، والتفكير الناقد في القضايا الأخلاقية لـ Will، والتفكير الناقد: طرح الأسئلة المناسبة لـ  Neil Brown & Stuart M. Keeley، والجسد والنظرية الاجتماعية لـ Shilling... الخ.

وفي تلك الكتابات كان نجيب الحصادي يؤمن أن الفلسفة تقوم بدور حاسم في تشكيل الحضارات والوعي الإنساني علي مر العصور ؛ والحال أن كثيراً من الأنشطة التي دأب البشر علي ممارستها، إنما تعول في نظر الحصادي علي الفكر الفلسفي وترتكن إلي نهجه إبان إجراء أية عمليات نظرية تستهدف تبرير أو تأصيل مبادئها، أو الخوض، فإن العلم الذي يؤقره المرتابون في جدوي الفلسفة إنما ينهض علي أسس فلسفية صرفة.

وعلي ذلك غدت الفلسفة في العقود الأخيرة في نظر الحصادي موضع استرابة من جهات متعددة، حيث يوصف الجدل الفلسفي بأنه مجرد مماحكات لفظية، وتكال للفلسفة تهم بقصد تشويه صورتها في الأذهان والتقليل من قدرتها، تهم من قبيل الغموض المفتعل، وعوز الجدوي، وتكريس رؤي مريبة تشكك في القيم والعقائد التي يتبناها المجتمع . وقد أثر كل ذلك بدرجات متفاوتة علي تدريس الفلسفة في المدارس الثانوية والجامعات في مختلف أرجاء الوطن العربي، بقدر من أثر في عدد ونوعية من يقبلون علي دراستها ويطلعون علي أدبياتها ويعنون بأمر قضاياها، الأمر الذي قلل من فرص المقبلين علي دراستها في الحصول علي وظائف تناسب تطلعاتهم.

والفلسفة نشاط معرفي لا يقل أهمية عن العلم ولا يقل عنه جدارة بالاهتمام، حيث ثمة نزوع فطري كما يقول الحصادي نحو شطر فعل التفلسف يمكن استثماره في تحقيق مقاصد لا تختلف علي وجوب السعي شطرها.. ولا تبدا الفلسفة في ممارسة نشاطها الجدلي إلا عقب قيام أنشطة بشرية من قبيل العلم والفن والاقتصاد والسياسة، بإثارة مسائل لا يتسني حسمها باستخدام المناهج التقليدية، ما يحتم البحث عن مقاربات ورؤي وأساليب تقص جديدة تشترط اتخاذ مواقف فلسفية.

ويعطينا الحصادي مثالاً علي ذلك بأن النشاط العلمي يثير قضايا لا يقوي نهجه علي حسم أمرها . إنه يسكت عن الأسباب التي تعقلن المصادرة علي غايات بعينها (التفسير والتنبؤ خصوصاً)، قدر ما يسكت عن تحديد دلالات المفاهيم الحاسمة المتضمنة في آلية تحقيق هذه الغايات، مفاهيم من قبيل النظرية العلمية والدعم الاستقرائي والقانون الطبيعي.

والعلم لا يستغني عن الفلسفة بحال . حسبنا أن نقتصر في هذا المقام كما يقول الحصادي علي الإشارة إلي الدور الذي قامت به الفلسفة في تشكيل طبيعة العلم، وتحديد مناهجه، وتسويغ مصادراه، والدفاع عن قيمه. أما الفلسفة فهي في نظره رد المتكثر للأقل كثرة، رؤية الأشياء معاً من جهة الواحد، ولئن كانت الرؤية الفلسفية كلية بطبيعتها، فإنها تظل وليدة تساؤلات أفرزتها وقائع العصر في ظروف تاريخية بعينها، فالكلي لا يستبصر بمعزل عن العيني والمتشخص: لقد كانت الفلسفة في اقترانها بالحضارات كما يقول الحصادي وليدة روح عصرها ؛ إذ كان لكل عصر أسئلته الكبري التي تركت للفيلسوف كي يجيب عنها، ومعني هذا أن الواقع بكل أبعاده المعرفية والعلمية ونتاجاته الثقافية في حضارة ما، كان يثير التساؤلات التي تستدعي مهمة التفلسف، وبذلك فإن الفلسفة تبدو كحركة الوعي أو العقل النقدي الذي ينقد ويطور نفسه باستمرار في ضوء ما يطرحه الواقع من تساؤلات . غير أننا لا ينبغي أن نفهم الفلسفة كما يقول الحصادي كحركة للوعي أو العقل النقدي كما لو كانت هذه الحركة مجرد انعكاس لهذا تكون علاقة الفلسفة بالواقع؛ وخاصة الواقع الثقافي علاقة جدلية.

الفلسفة نشاط نقدي في أساسه، ولعل هذا كما يقول الحصادي يفسر عزوف عموم الناس عنها. المشقة التي نلقي في دراستها ناجمة من جهة عن صعوبة ما تعرض له من قضايا، عن كونها تخوض في مناطق غائمة، وعن كون الناس يستأنسون إلي دعة المألوف ؛ لكنها تنجم من جهة أخري عن لغة خطابها. الحديث عن حقائق جديدة يستدعي لغة جديدة (هيوم)، واللغة ليست مجرد وسيلة لتبليغ الأفكار، فهي كما يقول الحصادي :"مسكن الوجود (هيدجر)، كما أنها مشحونة دوما بافتراضات مسبقة، والفيلسوف الذي يرصد رؤي لا عهد لأسلافه بها يحتاج إلي استحداث لغة تتخلص من ظلال معاني الألفاظ المألوفة التي تلوكها الألسن وتفقدها دلالاتها".

وعن جدوي الفلسفة أكد نجيب الحصادي  أن ثمة جهات تتبني مواقف معادية من الفلسفة وتعتبرها خطراً علي قيمنا الروحية وعلي وجه الخصوص، فإنها تري في الفلسفة سبيلاً إلي نزعات مادية تنكر الدين وتعبث بالعقائد والقيم الأخلاقية، الأمر الذي يستوجب حماية النشء من آفاتها وخطر تدريسها في مختلف مراحل التعليم.

بيد أن هذه الجهات في نظر الحصادي تغفل أن النزعات المادية لا تعدو أن تكون نتاجا من نتاجات الفكر الإنساني، وأن المذاهب الروحية المتسقة مع روح الدين وتعاليم الأخلاق نتاج آخر لا يقل أصالة . لقد طرح مفكرو الإسلام، وكثير من فلاسفة الغرب والشرق، مذاهب فلسفية أصيلة تروم الحجاج عن النقل بالعقل، وتستهدف طرح أسس عقلية خالصة للعقائد الدينية. أكثر من ذلك أنهم اهتموا خصوصاً بدحض النزعات المادية التي تكشك في تعاليم مركزية في عقائدنا الثيولوجية.

ومن منحي آخر، ثمة مسائل فلسفية أصيلة لا تتعلق أصلا بالقيم والأخلاق كما يقول الحصادي، بل تعني بمفاهيم ابستمولوجية (معرفية) أو استاطيقية (جمالية) أو أنطولوجية (وجودية) لا تخفي أهميتها ودورها في تشكيل مسار الفكر الإنساني.

فضلاً عن ذلك، فإن الفلسفة في نظر الحصادي تمثل مشروع تنويري يكرس قيم العقلانية والموضوعية والتسامح والتعددية، ونبذها إنما يعمل علي تكريس توجهات ظلامية تخفي الحقائق وتطمس معالمها، قدر ما يشجع علي ازدهار حركات التطرف التي تتسم بنزوعات دوجماطيقية تعادي الآخر وترفض الحوار معه. الراهن أن الفلسفة لا تقتصر كما يقول الحصادي علي الدعوة إلي تكريس تلك القيم الإنسانية السمحاء التي يدعو إليها الدين نفسه، بل تعمل علي تسويغها وتبيان كيف أن تطور الحضارة البشرية رهن بالالتزام بها.

ولا تتضمن الدعوة إلي تدريس الفلسفة كما يري الحصادي الترويج لمذهب فلسفي بعينه، بل تخص علي تبني النهج الفلسفي في التفكير والجدل والإقناع، ولذا فإن دعوتي كما يقول الحصادي إلي تدريس الفلسفة إنما تقترن مع دعوة إلي تدريسها علي نحو بعينه.

بل يتعين أن نتذكر أن المنطق فرع رئيس من فروع الفلسفة كما يقول الحصادي، وأن الكشف عن الأغاليط ومختلف سبل التضليل التي تمارس في مختلف السياقات مهام تناط بهذا الفرع، ناهيك عن الدور الذي قام به المنطق تاريخيا في تطوير العلوم الرياضية وتأسيسها . إن الفلسفة التي يدعو إليها الحصادي هنا إلي وجوب تدريسها ليست معنية بما ارتآه هذا المتفكر أو ذاك، بقدر ما هي معينة بالسباب التي ركن إليها المتفكر حين ارتأي. مثال ذلك أنه قد يدرس كتاب في الأخلاق قضايا لا تؤرق المجتمع الذي نعيش فيه، لكن ذلك لا يعني أن الكتاب تعوزه الأهمية، فالأمر المهم ليس حل المسألة الأخلاقية، بل طريقة حلها، وكيفية الدفاع عنه، وفحص الافتراضات التي تم الركون إليها دون جدل. فحص الافتراضات المصادر عليها ليس بأي حال مهمة سهلة، لكنه ضروري. ذلك أن محاباة المرء كما يقول الحصادي تتجذر في الأشياء التي يقبل صدقها يقينا، وهي غالباً ما ترتهن بتاريخه الشخصي. يتوجب أن ندرك الافتراضات التي نصادر علي صحتها، فهي تمارس تأثيراً علي الرؤية التي نختار الدفاع عنها،بل تؤثر حتي في درجة ثقتنا في بعض الحقائق.

هذا يعني أن جدوي الفلسفة لا يستبان كما يقول الحصادي فيما يقره الفلاسفة من تعاليم، بل يتعين خصوصاً في نهجها الناقد، في قدرتها المستمرة علي إثارة الشكوك فيما نركن إليه من مزاعم، في حدس الفجوات المستسرة في صرح مفاهيمنا المعرفية والثقافية والأخلاقية، وفي دعوتها لقيام المرء بالدفاع عما يتبناه من رؤي، والتنصل مما كان أقر من مواقف بمجرد أن تتضح له مستجدات لم يكن قد أخذها في حسبانه.

والدراية التي تدعو إليه الفلسفة باعتراضات الآخرين علي ما يقره المرء من رؤي في نظر الحصادي إنما تسهم في تفهمه رؤاه وقدرته من ثم علي استبانة ما يعتورها من خطل . العاجز عن إدراك رؤي الخصوم عاجز بالتعريف عن تأسيس رؤيته، وهذا علي وجه الضبط هو حال من ينكر جدوي الفلسفة ويصر علي حظر تدريسها.

ولا يفوت الحصادي أيضا أن يذكرنا بالدور الحاسم الذي تقوم به الفلسفة في تربية وجدان الأفراد والمجتمع وتنمية احساساتهم ومشاعرهم الاستاطيقية. ثمة حاجات جمالية للفن الحقيقي تعمل أدبيات علم الجمال فهمها وتعميق فعل الاستمتاع بتلبيتها. بكلمات أخري، الفلسفة سبيل من سبل مكافحة التلوث الوجداني الذي يتعرض له المجتمع، وهي كما يقول الحصادي أقدر من غيرها علي تبيان الخلل الكامن فيما استشري من أعمال توصف بهتانا بأنها فنية.

وأخيرا ثمة تناقض ظاهر كما يقول الحصادي في موقف الداعين إلي تبني العلم وسيلة للخلاص مما تعانيه مجتمعاتنا من تخلف حين يتبنون الدعوة إلي حظر الفلسفة. إذا كان العلم معلمة الحضارة الإنسانية الراهنة الأساسية وكانت التقنية خيارنا في تطوير مجتمعاتنا، وإذا كانت الفلسفة تقوم بدور حاسم في تشكيل طبيعة العلم والدفاع عن قيمه، فإن الداعين إلي حظر الفلسفة، حال تبنيهم ذلك الخيار كما يقول الحصادي، إنما يمارسون سلوكيات" لودايتية" تلحق الضرر بالذات .

ويطول بنا المقال غير أني لا أملك في نهاية حديثي عن الدكتور نجيب الحصادي إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري مني لهذ الرجلٍ العظيم الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم