شهادات ومذكرات

في فكر علي الوردي - قراءة لا تأبينية

علي المرهجلم يحظ مفكر عراقي بمثلما حظي به الوردي من اهتمام، على كلا المستويين الشعبي والثقافي، ورغم ذلك فالكتابات عنه مازالت ليست بالمستوى المطلوب، فكثير منها، إما ذات طابع مقالي وغالبا ما يكون احتفائيا، أو ذات طابع ثقافي عام. أما على المستوى الدرس الأكاديمي، فمن وجهة نظري ـ على قدر علمي ـ لم يحظ الوردي بقدر كاف من الاهتمام في الدرس الأكاديمي، ومحاولة تفكيك وتحليل آراء الوردي في ضوء متغيرات الوضعين: الوضع العراقي اليوم والصراع الطائفي فيه، من جهة، وارتباطات هذا الوضع بتحولات السياسات الدولية والإقليمية المحيطة، من جهة أخرى. وهل بقي من فكر الوردي شيء أم أشياء في ضوء قراءته لشخصية الفرد العراقي؟ وهل ظهر ما يٌثبت قيمة الدراسة الاستبيانية في معرفة شخصية الفرد العراقي بعد أن تنكر لها الوردي؟!.

بقيَ من فكر الوردي أشياء وأشياء، ولا زال فاعلاً في معرفة الشخصية العراقية وحتى العربية، ومنها تأكيده على عٌمق الصراع الطائفي في العراق وإستمراره بإستمرار الصراع الإقليمي، لا سيما بين تٌركيا "السنية" ومؤيدوا سياستها، وإيران "الشيعية" ومؤيدو سياستها، وانعكاسات هذه "الحرب الباردة"ـ والتي بدأت بالسخونة ـ على تشتت العراقيين وضياع وطنيتهم بالولاء لهذه الجهة أو تلك.

نعتقد أن قيمة فكر الوردي ليست في جرأته فقط، وإن كانت هذه سمة مهمة للمفكر والكاتب، ولكننا نجد أن قيمة الوردي تكمن في صياغته لفرضياته وصناعته لمفاهيم جديدة وتبيئته لمفاهيم أخرى من الفكر التراثي أو الفكر الحداثي التي أثبتت قدرتها التفسيربة في معرفة المجتمع العراقي. والتي ستكون واحدة من مهمات بحثنا هذا.

إننا حينما نُريد أن نكتشف أهمية كاتب ما يستحق أن تُطلق عليه صفة مفكر، فعلينا البحث عن منتجه المفاهيمي أولاً، ومساعدة القارئ على الكشف عن القدرة التفسيرية لهذا المنتج المفاهيمي اليوم ثانياً، وتسهيل إمكانية الافادة من توظيفهم لمنتجه المفاهيمي بوصفه عدة منهجية للباحثين في معرفة خط سير المجتمع العراقي أو أي مجتمع آخر ثالثاً.

إن الكشف عن الأفكار والمنتج المفاهيمي هو بحث يصب في إظهار البعد الفلسفي وإظهار فاعلية هذه المفاهيم، لأن بُعد المفاهيم الأهم يكمن في كونها منتج نظري تصوري، يحاول ذوو الاختصاص التطبيقي توظيفه في بحوثهم الاجرائية. لذا وكما نعتقد أن أفكار الوردي بقيت أقرب للرؤية الاستقرائية ذات البعد الاستنباطي الافتراضي، شبيهة بمنهج التكذيب البوبري الذي يضع الكثير من الفرضيات ومن ثم السعي لتفنيدها واحدة تلو الأخرى، والفرضية الأكثر صموداً أمام النقد هي الأقرب للحقيقة، لذا أبقى الوردي على فرضياته الثنائية الثلاث "البداوة والحضارة" و"ازدواجية الشخصية" و "التناشز الاجتماعي".

1028 علي الورديأعتقد أنها هي الأكثر صموداً من فرضيات أُخر. ويمكن أن يكون هذا البعد النظري لفرضيات الوردي ومنتجه المفاهيمي الذي جعله يعتقد أنه صار بمقدوره معرفة شخصية الفرد العراقي، هو الذي دفعه إلى رفض الطريقة الاستبيانية والاحصائية في الكشف عن طبيعة الشخصية العراقية التي تُعاني من "إزدواجية الشخصية"، فبالتالي حينما يُعطى الاستبيان الاحصائي، فإنه سيُظهر شيء في جوابه ويُضمر أشياء وأشياء.

المهم ما يعنينا من كل ذلك أن هذه الثنائيات التي برزها الوردي في قراءته للشخصية العراقية هي التي بدأ عندها الصراع والنزاع أكثر وضوحا وتميزا لاسيما ظاهرة "البداوة والحضارة" وتفريق الوردي بين أخلاق البداوة وأخلاق التحضر، فالبداوة تمجد قيم العصبية والثأر والنهب والدخالة وقتل المرأة لغسل العار. أما عند الحضر فقد كان هناك حضورا ومقبولية لحكم القانون والانفتاح على المدنية وطرق الحياة فيها. وللغزو المستمر للبدو للعراق تغلغلت قيم البداوة، وصارت فرضيات الوردي الثلاث، لا سيما بعد المد الاستعماري على بلدان الوطن العربي والعراق من ضمنهم، صارت أكثر حضورا ووضوحا في شخصية الفرد العراقي، الذي شاهد قوة الترسانة العسكرية من بندقية ومدفع وآليات أخرى في مقابل "المكوار" أو "التوثية" أو "السيف" حتى، فهي آلات ليس لها قيمة في مقابل ما وصل إليه الغرب وإن كان الوردي لا يتنكر لما فعله رجال ثورة العشرين في آلاتهم التقليدية هذه في مواجهة المحتل الإنكيزي، ولكن ينبغي علينا ألا نتصور بأن هذه الآلات التقليدية هي وسائل ناجعة في مواجهة الأعداء اليوم (بداية القرن العشرين) بما لديهم من قوة ومن ترسانة عسكرية مهولة.

كما هو معروف أن الوردي ينطلق في رؤيته لكل قضية في ضوء مرجعيته الاجتماعية، وتوظيفه لمفاهيمه في البداوة والحضارة، والتناشز الاجتماعي، وازدواجية الشخصية، التي تدخل في حياة المجتمعات والرؤية الدينية والنظرة المجتمعية تنطلق من هذه الرؤية التي تُبيء الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية عامة موجودة في جميع الشعوب حتى أشدها بدائية، فطلما كان للإنسان مهدداً بالأخطار ومحاط بالمشاكل دائماً، فهو اذاً بحاجة الى عقائد وطقوس دينية تساعده على مواجهة تلك الأخطار والمشاكل وتبعث في نفسه الطمأنينة، ومعنى هذا أن التقديس ليس أمراً طارئاً في حياة المجتماعات، بل حاجة مُلحة تقتضيها طبيعة الانسان.

لا يخفى علينا موقف الوردي الناقد لتوظيف الدين من قبل الكثير من رجال الدين لمصالحهم الخاصة أو بسبب أوامر سلطانية، تجعل مهمة رجل الدين ليس التعريف بالبعد الأخلاقي والإنساني للدين، وإنما تتحول مهمتهم إلى "وعاظ السلاطين" كما عنون الوردي أحد كتبه. وهنا سيكون هنالك "دين ضد دين" بعبارة علي شريعتي، و "إسلام ضد إسلام" بعبارة الصادق النيهوم. ففي هذه الحال لا يكون الدين كما أراد له الأنبياء محاولة للخلاص وسبيل لنجاة البشرية وتحقيق السعادة الإنسانية، بل سيكون وسيلة بيد "وعاظ السلاطين" لتبرير أفعال المستبدين من سلاطين الأرض.

كتب الوردي أن كل حركة ناهضة تبدأ في مسعاها لترنو التجديد والتغيير، ولكنها بمجرد أن تصل إلى السلطة لا يُمكن التكهن بمقدار ثباتها في الحفاظ على مبادئها، فلربما ستكون هي بعد تمكنها من تحتاج إلى تجديد، وفي هذا الصدد يقول شريعتي:"كل مذهب أو مدرسة اجتماعية أو دينية أو طبقية أو قومية، تظهر إلى عرصة الوجود على أساس تلبية مُتطلبات زمانية أو طبقية أو قومية مُعينة وتدفع أتباعها ومُريديها نحو العمل من أجل تحقيق هذه الآمال والتطلعات وتُجسد الشعرات التي يحملها المذهب الحركي أو المدرسة التغييرية وُتواصل هذه الحركة سيرها باندفاع ورغبة جامحة في كسر القيود وتحطيم الحواجز التي تعترض طريقها وعادة ما تكتسب طابعاً نقدياً عنيفاً وتحتجَ على كل شيء وتقترح بديلاً عن كل حالة راهنة ووضع موجود.

فإذا تحقق لها ما تُريد وحصل التحول الجتماعي الذي كانت ترنو إليه ووصلت إلى أهدافها كُلاً أو بعضاً، أو أنها لم تصل إلى الهدف ولكن وصلت إلى أوج قُدرتها وبلغت نقطة "Maximum" في الخط البياني لنشؤها ونموها، وقتئذ، تنطفئ جذوة التغيير في نفوس أصحابها، فلقد وضعت الحرب أوزارها ولم يعد ما يقف في طريق الثائرين، فعلام التوتر والإنفعال؟! آنذاك تبدأ الحالة الثورية بالضمور إلى أن تتلاشى نهائياً!

وتتحول الحركة إلى نظام ذي طابع مُحافظ، فلقد إنتقل أتباع المُعارضة من خندق المُعارضة إلى خندق السُلطة، وبطبيعة الحال، ستظهر لديهم نزعة في الحفاظ على موقعهم السياسي والجتماعي ضد الأخطار التي تُحيق به، ومن الآن فصاعداً سوف ينظرون إلى أي حركة تجديدية على أنها مظهر من المؤامرة التي تستهدف قويض أركان الحُكم وسيُحكم على أتباع الحركة الجديدة بالتمرد والغوغائية وتُلصق بهم تُهمة الخيانة العُظمى تمهيداً لإنزال أقسى العقوبات بحقهم.

في كتابه "دين ضد دين" بين شريعتي رؤيته للإسلام بأنه رفض للأرستقراطية وهيمنتها، وهو قول للفظة "لا" أولى نطق بها النبي ضد عُتاة قُريش، وكان التشيع هو لفظة "لا" مرة ثانية ضد الذين هيمنوا على الحُكم بإسم الإسلام ممن مثلوا الأرستقراطية القرشية الذين إتبعوا سياسة بني أمية ومن جعلهم أقرب للهيمنة على السلطة.

نجد الوردي في جُل كتاباته ينتقد رجال "الدين الكهاني" الذي يجني رجالاته انجازات رجالات "الدين النبوي"= (الثوري).

في المرحلة الأولى يأتي بالدين "نبي" من أجل إصلاح أحوال المجتمع الفاسدة على وجه من الوجوه، وكل نبي يواجه في بدايته مقاومة شديدة من المجتمع، لأنه يٌحارب قيمهم وعاداته التي تربوا عليها وإعتقدوا بها، فليس من السهل التخلي عنها، وتظل الدعوة الجديدة في حرب متصلة مع أعدائها فترة من الزمن، في حال انتصارها سيكثر أتباعها، وكلما إزدادت انتصاراتها كلما زاد عدد الداخلين فيها وإشتد تحمسهم لها وإيمانا بها. يعتنق الدعوة الجديدة فريقان: فريق بدافع الإيمان وحقانية الدين الجديد، وفريق يعتنقها بدافع الانتهازية والمصلحة الذاتية، وهؤلاء هم كٌثر وأغلبهم من الداخلين في الدعوة بعد تحقيقها الانتصارات.

حاول الوردي أن يكون موضوعياً في تحليله للشخصية العراقية، يُجرد فكره من الأهواء والميول الأيديولوجية والطائفية، لا بقصد الانسلاخ من هويته الوطنية والاجتماعية، بل بقصد معرفة الذات علاقتها بالآخر المغاير ثقافياً وأيديولوجياً وعقائدياً المُشارك لك في الحياة الاجتماعية وامتلاكه الروح الوطنية.

لا يُحاول الوردي اقصاء الإيمان من دائرة الحياة، إنما هو يسعى لتشخيص "العقل الدوغمائي" بوصفه عقل اقصائي لا تقبله الروح الإيمانية الحقة، لذلك هو ينتقد هيمنة النزعة المادية على حياة الشعوب الغربية.

"إن النفس البشرية تهوى الإيمان بدين فإذا فقدت ديناً جائها من السماء إلتمست لها ديناً يأتيها من الأرض".الدين عند الوردي ثورة انصاف للمظلومين في بدايته، يستحوَذ عليه المترفون بعد نجاح دعاته ليُحولوه إلى أفيون "دين كهاني" مُخدِر، وهذا ما جعل الوردي يعتقد بأن "الثورة تفسدَ إذا نجحت" على قاعدة "الثورة تأكل أبنائها".

الوردي ليس مفكراً فحسب، بقدر ما هو ظاهرة تستفز العقل العراقي وتكشف زيف توهماته وبنيته الحالمة (المثالية) الناظرة للذات على أنها تُدرك حقائق الأشياء وماهيتها، فتجد الفرد منَا يُدافع ويستميت في دفاعه عن رؤى يحلم بها ولكنه في حياته الواقعية لا يعمل بها!!.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم