شهادات ومذكرات

نصار عبد الله.. المُعلم والمُناضل

محمود محمد عليقد يحق لي كتلميذ من تلامذته الدكتور نصار عبد الله، أن أقول كلمة في حقه، وربما قد لا أكون مبالغاً في القول لو أني قلت بأن كثيرا من الناس سواء كانوا طلبة في الجامعة أو أساتذة بها يعرفونها، وأنا علي يقين بأن هذا القول الذي أقوله إنما هو استجابة لعاطفة الحب التي يكنها القلب له وبدافع الوفاء الذي أصبح في جيلنا هذا أشبه شئ بعملة نادرة لا يصعب وجودها فحسب، وإنما تحول مستجدات العصر دون تداولها إلا في أضيق نطاق، خصوصاً بين المثقفين عامة والجامعيين علي وجه الخصوص.

والدكتور نصار عبد الله هو علم ورمز من أعلام صعيد مصر، وبالأخص من محافظة أسيوط، ولد بمدينة البداري في 24 ديسمبر 1945، حيث ينتمى إلى عائلة عريقة هناك كان، من أقطابها القاضي الشهير «ممتاز نصّار» الذى قاد الرأي العام القضائي فى ظروف صعبة، ثم قاد الرأي العام البرلماني في ظروف أكثر صعوبة. وهو الأستاذ بجامعة سوهاج، وهو وشاعر ومترجم مصري، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 2009. وله كتابات ودواوين شعرية ومسرحيات وترجمات، منها ديوانه الشهير “قلبي طفل ضال”، وكتاب “فلسفة العدل الاجتماعي".

والدكتور نصار عبد الله من أساتذتي الذي أدين لهم بالفضل، ففي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كانت بدايات علاقتي بأستاذي الدكتور نصار، حيث كنت طالبا بقسم الفلسفة بكلية الآداب فرع سوهاج – جامعة أسيوط، وكان الأستاذ الفاضل يحاضرنا في مادتي ” فلسفة السياسة، وفلسفة الأخلاق ”، و” المنطق الرمزي” .

وخلال المحاضرات الأولي له، أدركت بوعي أنني أمام شخصية متميزة لأستاذ أكاديمي تختلف عن شخصيات كثير من الأساتذة غيره . شخصية تتوفر علي سمات ومقومات وأبعاد، تنتزع بذاتها الاحترام وتفرضه، وتستوجب التقدير وتثير الاعجاب، وتغرس في النفوس حباً تخامره رهبة، وأملاً يواكبه شعور عميق بالتفاؤل، وانتماء يصاحبه شعور بالزهو بالتلمذة علي يديه.

ولم أكن وحدي هو الذي وقع في أسر هذه الشخصية المتميزة، وإنما يشاركني فيه معظم الزملاء الذي يواظبون علي الحضور، ولم يكن أحد يتغيب عن محاضراته إلا لظرف قاهر يصدم الحرص الشديد علي مشاهدة الأستاذ والتواجد في حضرته، والاعتراف من غزير علمه، واكتساب بعض فضائله الخلقية، ومنهجيته في التفكير والدرس والحوار والمناقشة، وطريقته المتفردة في طرح القضايا والمشكلات ومعالجتها، وغير ذلك كثير من عطاء الأستاذ الذي ظل يتنامي في عقولنا فهماً واستيعاباً، ويتعاظم في نفوسنا حباً وتقديراً وإكباراً .

ولعل أول ما يجذبك – كما جذبني وغيري من شخصية الدكتور نصار، سمة الهيبة والوقار الذي يكسو ملامحه الشخصية الظاهرة، ويكشف عن باطن ثري يعمر بإيمان قوي وثقة بالنفس، وعاطفة جياشة، وسريرة نقية، وقلب صاف عن الكدورات

حتي إذا ما انتهي العام الدراسي، وجدت نفسي أعالج ميلاً جارفاً إلي التخصص في ” المنطق وفلسفة العلوم ” في الماجستير . فكشفت له عن رغبتي هذه وتحقيقها تحت إشرافه مع أستاذي الدكتور عاطف العراقي رحمه الله، فوافق علي الفور، وكثرت لقاءاتي به بعد ذلك في الرسالة والبحث.

وهنا اكتشفت بعداً آخر في شخصية الأستاذ، حيث اكتشفت أنه نعم الناصح والموجه والمرشد . لا يفرض توجها معينا، ولا يستبد برأي، ولا يلزمك بوجهة نظر خاصة، وإنما يحاور ويناقش، ويوجه ويفتح أمامك أفاقاً جديدة، ويعرض آراءه وأفكاره ورؤاه، ويترك لك حرية الاختيار .

والدكتور نصار عبد الله أستاذ متعدد المواهب، غنى بالإمكانات الفكرية والثقافية والأكاديمية، قال عنه الدكتور مصطفي الفقي (في مقال له بعنوان ” نصار عبد الله ” نشر بجريدة في المصري اليوم ) :” إنني أكتب عن د. نصَّار عبدالله الشاعر والفيلسوف والسياسي لأنى أرى فيه نمطاً عصرياً للشخصية الموسوعية التي عرفها تاريخ الحضارات، وتكمن قيمته الحقيقية في استقلالية رأيه وانتصاره للحق وانحيازه للعدل وفهمه الصحيح لظروف الشعب الذى ينتمى إليه والمجتمع الذى خرج منه، وكلما طالعت كتاباته حتى فى عموده الصحفي أدركت أن وراء «الأكمة» ما وراءها من فكر متوهج وثقافة رصينة وفلسفة تتسم بالحكمة والوضوح معاً”.

ويستطرد الفقي فيقول:” وعندما رشحته إحدى الجامعات لجائزة الدولة التقديرية منذ عدة أعوام وجدتني أنبرى في حماسٍ شديد لدعم ذلك الترشيح والتصويت له في «المجلس الأعلى للثقافة» لا لأنه زميل دراسة فقط ولكن لدوافع موضوعية بحتة تدرك قيمته وتعرف مكانته”.

ويتميز الدكتور نصار عبد الله بأنه أكثر جرأة في الرأي ‏وشدة في اقتحام القضايا‎ ‎الأكثر حساسية، ولا أنسي ذلك المقال الكبير والخطير الذي كتبه عن “أطفال الشوارع والحل البرازيلي” والذي أثار جدلاً كبيراً في مصر والعالم العربي، حيث يقول الدكتور نصار :" على مدى عقود متوالية كان أطفال الشوارع مصدراً للإزعاج لسكان مدينة برازيليا ولغيرها من المدن البرازيلية الكبرى، وفى التسعينيات من القرن الماضي تحول مصدر الإزعاج إلى مصدر للرعب، فقد تزايد عدد أطفال الشوارع تزايدا كبيرا، وتزايدت بالتالي معدلات الجرائم التى يرتكبونها وفى مقدمتها جرائم السرقة والدعارة والاغتصاب التى يترتب عليها فى معظم الحالات إصابة الضحية بالإيدز الذى أصبح متفشيا بينهم بنسبة تتجاوز الـ 90%، وباختصار فإن وضع برازيليا فى تسعينيات القرن الماضى كان شبيها بوضع القاهرة الآن، بل إن التشابه فى حقيقة الأمر كان أكثر بكثير من ذلك حيث كان الوضع الاقتصادي البرازيلى فى مجمله شبيها بالوضع المصري الراهن، فالديون الخارجية للبرازيل كانت قد وصلت إلى أرقام قياسية، ومعدلات البطالة تتصاعد عاما بعد عام، والفساد متغلغل فى كل أنحاء الجهاز الحكومي، والأصوات المنادية بتأهيل أطفال الشوارع وإعادة إدماجهم فى المجتمع يعلم أصحابها جيدا أن مثل هذه العملية عالية التكلفة إذا ما قورنت بتكلفة إتاحة فرص العمل للعاطلين من غير أبناء الشوارع، فضلا عن أنها غير مضمونة النتائج!، ومن ثم فإن الذى ينبغي أن تركز عليه الدولة فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة هو إتاحة فرص العمل للعاطلين حتى لا ينضم أطفالهم إلى جيش أطفال الشوارع!!. ونتيجة لهذه الاعتبارات فقد لجأت أجهزة الأمن البرازيلية فى ذلك الوقت إلى حل بالغ القسوة والفظاعة لمواجهة ظاهرة أطفال الشوارع يتمثل فى شن حملات موسعة للاصطياد والتطهير تم من خلالها إعدام الآلاف منهم بنفس الطريقة التى يجرى بها إعدام الكلاب الضالة توقيا للأخطار والأضرار المتوقعة منها!!…كانت سائر قوى المجتمع البرازيلى تدرك أن ما قامت به الشرطة هو جريمة مكتملة الأركان، وأن هؤلاء الأطفال هم فى حقيقة الأمر ضحايا لا جناة، وأن من البشاعة بمكان أن يعدموا بناء على جرائم لم يرتكبوها.. كان الجميع يدركون ذلك، لكنهم ـ جميعهم تقريباـ غضوا أنظارهم عما قامت به الشرطة لأنهم جميعهم لهم مصلحة فيما قامت به!!،.. القيادة السياسية لم تعلن رسميا أنها تؤيد ما قامت به الشرطة، لكنها لم تحاول أن تقدم مسؤولا أمنيا واحدا إلى المحاكمة، لأنها تعلم أن البديل لإعدام أطفال الشوارع هو إعادة تأهيلهم وهو ما يستلزم ميزانية ضخمة سوف تكون بالضرورة على حساب توفير فرص العمل للمواطنين الذى فقدوا وظائفهم وهو ما يهدد خطتها للإصلاح الاقتصادي بالكامل للفشل!، والمواطنون العاديون ـ حتى أولئك الذين يستنكرون ظاهريا حملات الإعدام ـ يشعرون فى قرارة نفوسهم بمدى جدية برنامج الحكومة للإصلاح، ويشعرون بالارتياح لاختفاء أطفال الشوارع من طرقات المدن الرئيسية التى أصبح بوسعهم الآن أن يخرجوا إليها هم وأولادهم وبناتهم بدون خوف!!، ووسائل الإعلام التى راح بعضها يندد بالحملات لا تفتأ تذكر المواطنين فى الوقت ذاته بالروح العدوانية لأطفال الشوارع وبالجرائم التى ارتكبوها والتى سيرتكبون المزيد منها بغير شك لو أنهم تركوا وشأنهم!!، أما جمعيات حقوق الإنسان التى دافعت دفاعاً مستميتاً عن حق أطفال الشوارع فى الحياة فقد اتهمها الكثيرون بأنها تكيل بمكيالين وأنها لا تراعى حقوق المواطنين العاديين فى الحياة الآمنة!!..

ويستطرد فيقول :" وهكذا أفلح الحل البرازيلي فى تخليص الشوارع الرئيسية للمدن الكبرى من أطفال الشوارع ودفع من تبقى منهم إلى الانسحاب للمناطق العشوائية، غير أن هذا النجاح لا يعزى إلى القسوة التى انطوى عليها الخيار البرازيلي، ولكنه يعزى أولا وقبل كل شىء إلى توافر إرادة الإصلاح لدى القيادة السياسية البرازيلية التى حاربت الفساد بكل قوة والتى وفرت الملايين من فرص العمل للبرازيليين، واستطاعت من ثم أن تتحول من اقتصاد موشك على الإفلاس إلى واحد من أهم قوى نظم الاقتصاد العالمي، وهذا هو الدرس الذى ينبغي أن يعيه كل من يحاول أن يتعلم شيئا ما من التجربة البرازيلية.

هذا هو نص المقال بتفاصيله كما نشر بجريدة المصري اليوم، ولذلك هنالك من وصف المقال بالخطيئة، وهناك من وصفه بالجريمة، ومنهم من وصفه بأنه تحريض سافر علي القتل، وهناك بلاغات تم تقديمها للنائب العام من كثير من المنظمات الحقوقية المعنية بشؤون الطفل في مصر في أن الدكتور نصار عبد الله كان يحُرض علي إعدام أطفال الشوارع علي الطريقة البرازيلية .

في حين أن المقال الذي تكلم فيه الدكتور نصار يحكي كما بينا عن ظاهرة ” أطفال الشوارع التي كانت تزعج مدينة “برازيليا” والمدن الكبرى في التسعينات، وكانت ظروف البرازيل في المجمل لا تشبه ظروف مصر، وإنما الخصوصية الثقافية في مصر تختلف عن البرازيل . الذي نفتقده في مصر هو الإرادة السياسية الحازمة والرغبة الجادة في إصلاح الأوضاع وهذا ما توفر في البرازيل، ولكنه اتخذ شكل الجريمة”، وقد ذكر الدكتور نصار في مقاله بأنها “جريمة بشعة متكاملة الأركان”!!.

وعقب نشر هذا المقال في جريدة المصري انفجرت كل مواقع التواصل الاجتماعي والفيس بوك والتويتر، وأصبح هذا المقال محط اهتمام حتي الإذاعات الأجنبية، فوجدنا الإذاعة الهولندية قد تكلمت حول هذا الموضوع، مما جعل جريدة المصري اليوم تقوم بحذف المقال من علي الموقع الالكتروني، وأصدرت بيانا بأنه رغبة من القراء وحفاظا علي الأمن الاجتماعي سوف يتم حذف المقال، وهذا ما زاد الطين بلة لأنه زاد من انتشار المقال وأصبح الدكتور نصار عبد الله متهما بالتحريض علي قتل أطفال الشوارع.

والحقيقة أن الدكتور نصار عبد الله تعرض لمؤامرة إخوانية لم تكن في حسبانه حين بادر في كتابة المقال، فالمقال نشر أيام الرئيس محمد مرسي حين كان علي سدة الحكم، ومرسي في ذلك الوقت كان متهماً بأنه يستخدم أطفال الشوارع والبلطجية من أجل أن يضربوا بيد من حديد المظاهرات المعادية للإخوان في ميدان التحرير، ولذلك كان من حظ الدكتور نصار السيئ، حين نشر هذا المقال عن تجربة البرازيل تجاه أطفال الشوارع، ألا يتعاطف معه أحد من الإعلاميين) إلا القليل من الإعلاميين الشرفاء الذين لا يخشون في الله لومة لائم)، وذلك حتي لا يُتهموا أنهم يقفون مع الدكتور نصار بالدعوة إلي تصفية أطفال الشوارع الذين تستغلهم جماعة الإخوان، وبالتالي يقعوا ضحية غضب الإخوان، وهنا ضحي الإعلاميون المؤيدون للجماعة وكانوا في ذلك الوقت كُثر بالدكتور نصار .

ولكن تبقى عقدة الذنب تؤرق كل الإعلاميين الذين لم يدافعوا عن الدكتور نصار عبد الله وتصب غضبها عليهم، لأنهم غضوا الطرف في الدفاع عن عالم جليل وإنسانًا صالح لا تخالجني ذرة شك في صدق نواياه وعمق إيمانه بحب مصر، وسعة أفقه، ورحابة فكره، وتفرد رؤيته. ولذلك لم أكن مبالغا حين أقول عنه : الدكتور نصار عبد الله هو بحق “أيقونة الإبداع في زمن القفر” .

تحية خالصة للدكتور نصار عبد الله الذي حُورب بضراوة، وخرجت عليه سيوف ظلامية من جعبة جماعة الإخوان الإرهابية الذين يدعون فهم الإسلام السمح، ويحتكرون تفسير النص المقدس، أولئك الذين تصوروا أنفسهم أوصياء على الدعوة، يطعنون بخناجرهم المسمومة، كل محاولةٍ للاجتهاد، وهم لا يدركون أن التفكير «فريضة إسلامية».. بارك الله فى الدكتور نصار عبدالله، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه، ووطنيته بفكره، وموضوعيته بنقائه وطبيعته.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة ومركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم