شهادات ومذكرات

كاظم الرماحي وثورة الأهوار المهدوره

علي ثوينيفي حينا (مدينة الحرية) المتهالك، سبق وأن كتبت عن (بيت محينه) الواقع في أول (الدربونه) وخالهم (عجم)، وأولاد أخته البعثيين في الحرس القومي. لكن المفارقة أن جيرانهم القاطن في مساحة الـ55 متر مربع المتاخمة والمتلاصقة كان يأمه شاب نشط ومتكلم لبق أسمه (كاظم الرماحي) وهو يتردد على أخته مالكة هذا "القن". كانت أمرأه راجحة العقل بملامح الفلاحة الجنوبية الحاذقة، من أصول الكوت أو جهاتها، طويلة ومهيبه، اسمها (أم حسنه) لديها بنتين وولد صغير أسمه حمد، وزوجها الحالي هو الثاني، لكن يطلق عليه كذلك (أبو حسنه)، وكانت متحدثه شيقة تضع (البهارات) على ما تقصه، وعادة ما تنقل لوالدتي كل الأخبار والأفكار الدارجة في الحي، وكنت أستمع لها بشغف، و التقط ما يروق لي ويثير فضولي، وحسبي أنها فترة تدريب تطبيقي على مفاهيم الحياة الإجتماعية العراقية التي لم أقطف منها سوى 18 عام فقط، كانت حصيلة كل ما عشته وتعلمته وأتذكره من العراق.

كان (ابا حسنه) عصبي المزاج، وكثير التعرق، وكان يردد (بالقيض لا اشرج ولا أغرب) أي يمكث بدون حراك في بيته. ولفت نظري رغم أمية تكتنف العائلة لكن بيتهم يحوي على مكتبة ضخمة تحوي آلاف الكتب، كانت تثير أهتمامي رغم بعثرتها على الأرض، حيث تناغمت مع سجية بحب الكتب والمكتبات أكتشفته بنفسي لاحقا. وكان صاحب الكتب (كاظم الرماحي) الشخصية الغامضة والمحبوبه. كان قارئ للكتب، مطلع وواعي، رغم عدم حصوله على قسط من التعليم المدرسي ولا يحمل أي شهادة، بل لم أعرف وظيفته ومكان إقامته.

وقد شكل (كاظم) وعمره في نهاية العشرينات، أحد سمات جيل الخمسينات والستينات حينما كان العراقي يقرأ من أجل مسايرة المجتمع الصاعد ويتحاشى الهامش المعرفي للمجتمع، ولاسيما من اقرانه الشباب. وقد شهدتها لدى تجمع من شباب الحي الذين يتراوح أعمارهم بين (16-20 عام) يلتقون دوريا بنهاية الشارع (راس الطرف) ويتكلمون عن أمور لم أكن أفهمها لكنها نقاش يثير حماسي، وربما شكل لي الفضول المعرفي المؤسس. ومازالت ذكرى الحوارات عالقة في ذهني، منها مثلا: هل الإنسان مسجى على تفضيل مصلحته الذاتيه على المصلحة العامة أم العكس؟. وتبين لي لاحقا أنه يفضل مصلحته الذاتية، لكن رومانسية المرحلة الستينية كانت توحي بالعكس. وكان حديث الشباب في حينا يتسم بأدب الحوارالممتع، و تقاذف مفردات جنابك وحضرتك وأخي وعزيزي وسيدي الفاضل.. وأقولها بأمانة اليوم وبعد أكثر من نصف قرن من التغريب والتجريب، بأن ما كان يدور من سجالات عالية الهامة والهمة لدى شباب صغار في حينا الهامشي، يكافئ اليوم بل يزيد على المستوى المعرفي الذي يتشدق به أساتذة الجامعات ولاسيما من يحمل لقب دكتور، وقد التقيت بعضهم، وتيقنت أنهم أقل فقها من جيل الستينات الشباب. وحسبي وبحسب "تحليل خطاب" المرحلة بأن ذلك الرقي الأدائي للفكر، جاء من تأثير توسع نطاق الطبقة الوسطى وتصاعد الهم السياسي الذي فحواه وصلبه فكري، ناهيكم عن إنتشار أفكار المرحوم علي الوردي (1913-95)، حيث كان نشط حينها، و الأمور مازالت إيجابيه في أواسط ستينات القرن العشرين حتى نهاياتها.أي قبيل حلول البعثيين في تموز/ يوليو 1968، وتغير مسار الحياة العراقية الجذري نحو دجل (ديماغوجي) ثم لحقتها شمولية تصاعدت حتى جسدها صدام عام 1979.

لم أكن أتحاور مع كاظم الرماحي بسبب فارق السن ومستوى الوعي، بل كنت أصغي لكلامه الرومانسي "الكبير" عن حقوق المظلومين والفلاحين.وكان جمهوره بنات أخته، اللاتي هزجن يوما في أحد مناسبات الفرح بشكل عفوي: أسمع يا حميد خالك وكع طياره!.. وكان المقصود بها الطائرة الهليكوبتر التي أسقطها ثوار (هور الغموكه) الواقع بين الغراف والشطرة والناصرية، حيث ثار نفر من الشيوعيين المنشقين عن الحزب الشيوعي الذي قصم ظهره البعثيين والناصريين عام 1963، فما كان منهم إلا أن يتأثروا، ويثأروا لأنفسهم، من خلال الحركات الثورية "التروتسكية" التي دعت إلى (الكفاح المسلح) لتصحيح المسارات السياسية، والتي تبنتها عام 1967-68 ودعمتها الصين الماوية، على عكس الإتحاد السوفيتي الذي تحفظ على بعضها و أيد من هو تابع لمخابراته، ويبدوا أن حركة (القيادة المركزية للشيوعيين العراقيين) لم تتبع مخابراتهم ولعبة الأمم وسياقات الحرب الباردة كما في ظفار وأرتيريا والكونغو مثلا، لذا لم تدعم ولم تذكر بعد أفولها.

لقد سبب هؤلاء الشباب الثائرين إحراج لهيبة الدولة المركزية (القومية) التي قدوتها عنتريات عبدالناصر، رغم أنها كان يمكن ان يكون لهم دور في رسم خريطة السياسة في العراق لو كتب لها التصاعد والموائمة مع الظروف، وهي المفعمة بالرومانسية الثورية على هدى (كاسترو) و(لومومبا) و(جي كيفارا) وحرب فيتنام . وقد قادها مهندس مثقف عاش ودرس في بريطانيا، يدعى خالد أحمد زكي، ولمع منها شهيدان هما محسن حواس ومنعثر سوادي، ضمن 12 شاب قادوا ونفذوا الأنتفاضة المسلحة وحركوا ساكن (الوعي الثوري). ويعرف اليوم أن رئيسها الفيلي البغدادي (عزيز الحاج)، والذي أمسك به البعثيون بعد وشاية، وساوموه على أن يعترف عن التنظيم والحركة ويسلم عناصرها لهم، ويظهر في التلفزيون العراقي عام 1969 يشيد بسلطة البعث ويعدها (النموذج الثوري)، مقابل إطلاق سراحه وتعيينه في منصب دبلوماسي، وتحديدا مندوب العراق في منظمة اليونسكو بباريس عام 1971، وقد حاول أن يبرر صفحة الخيانة التي مارسها مع رفاقه، في كتابه (شهادة للتاريخ)، الصادر عام 2001 و شرح فيه سيرته السياسية بتبرير غير موفق.

ذات مره جاءتنا أم حسنه ترتجف وتحمل أكياس كبيره (كونيه) هي وبناتها ويتكلمن مع أمي بسريه وخشيه، وصعدن السطح جرياً، ثم عادن ونقلن غيرها من الأكياس.. ومن فضولي وأنا صغير صعدت أتسقط أمر الأكياس والكلام المثير الذي تداولنه مع والدتي. وكان بيتنا قد حور من حوش داخلي ليغطى سقفه، كما لجأ لذلك في بيوت الحي الصغيرة والحانية، و أحتفظ بيت الدرج في زاوية يمين البيت الذي يؤدي ألى بيتونة السطح وتحته الحمام وجنبه مخزن المفروشات(الحواس) التي تحوي مطارحنا في الصيف والنوم على سطوح بغداد، كعرف بيئي، وتقليد يبدوا أنه تلاشى اليوم. ووجدت الأكياس، وفتحتها فضولا، فوجدتها ملئى بالكتب، لاغير. وتبين بعد الإستقصاء بعد سنين أن تلك هي مكتبة (كاظم الرماحي) التي أرادت أخته (أم حسنه) إتلافها أكثر من إخفاءها خشية من أن يداهمهم العسس وأمن الدولة، ويجدون تلك الكتب التي ل ايعرفون فحواها ومحتواها، كما يبدوا أنها كانت تهمة كافية لأن تزج هي وعائلتها بالسجن.

وكانت (أم حسنه) ألتمست من أمي أن تقوم بحرقها في التنور الذي يقبع فوق السطح . ولم تدخر والدتي جهدا بأيثارها و"نشميتها" المعهودة، وإخلاصها لجيرانها، بأن طفقت تفرغ أكياس الكتب مباشرة بالتنور، وبدات تقيد النار بها، بجهل بقيمة كنوز تحرق. وتسنى لي أن أسرق كتابين أو ثلاث وأخفيها كي لا أوبخ ، وقد أستهوتني أغلفتها، تبين أحدها عن الحرس القومي، لكن البقية ذهبت حصة التنور ودخانها أدراج الرياح. ومكث هاجس يؤرق والدتي وهي اللوامة لنفسها، بأن ربما كان ضمن المحروقات كتاب الله(القرآن)، بعدما أملت الأمية الإعدام المبرم للمكتبة. وعند الوعي بعد سنين أخبرتها، بأن الرجل كان شيوعي، ويستبعد أن يكون قد شمل القرآن لمكتبته.

وهكذا قتل قائد ثورة الهور التي كتب عنها رواية (أعشاب لوليمة البحر) للسوري حيدر حيدر، حينما كان يعمل مدرسا في الجزائر، وبنى نصها على معلومات أمدها بها أحد المساهمين في تلك الثورة الحزبية،  وقد زاد شهرتها أن الأزهر حرمها بطبعتها العاشرة، رغم أنها لا تمس دين أو يقين. وهكذا تكتم الكل على كل أسرار الحركة وشخوصها، وتوارى منذئذ كاظم الرماحي او ربما أعدم ضمن من وشى بهم عزيز الحاج، ولم أشاهده بعد ذلك، بل أن اسماء الـ12 المعلنون لم يكن منهم كاظم و هم: خالد أحمد زكي (جبار) محسن حواس (شلش) منعثر سوادي (كاظم) عقيل عبد الكريم حبش (أبو فلاح) حسين ياسين (أبو علي) عبد الجبار علي جبر (هادي) عبد الأمير عبد الواحد يونس الركابي (لفته) عبد الله شهواز زنكنه ومحمد حسين الساعدي وعبود خلاطي وعلي ابوجي وحمود (صالح)، وربما يكون منعثر لكن لا يمكن أن يكون أسمه الحركي داخل عائلته كذلك .وهكذا مضى أكثر من نصف قرن على تلك الأحداث، لكنها مكثت في ذاكرتي البغدادية مما علق بها من ذكريات بعيدة، في مغترب طال وسنين تمضي وذاكرة يخفت وهجها.

 

د. علي ثويني

 

في المثقف اليوم