شهادات ومذكرات

قصة النخيل بكليّة اللغات في جامعة بغداد

ضياء نافعقال لي أحد طلبتي القدامى، الذي التقيته قبل فترة وبمحض الصدفة في موسكو، ان كليّة اللغات في جامعة بغداد، و بفضل زراعتك للنخيل في حدائقها (عندما كنت أحد مسؤوليها الاداريين) اصبحت تسمى الان في بعض الاوساط الجامعية هناك  – (واحة باب المعظم)، وذلك، لان  الشخص الذي يقترب من كليّة اللغات في مجمع الكليات ، يلاحظ من بعيد تلك الواحة المكتظة بالنخيل، والتي تقف شامخة امام بنايات كليّة اللغات . وقال لي هذا الطالب القديم، اننا – نحن الطلبة آنذاك – كنّا نتساءل فيما بيننا، لماذا قرر معاون العميد ان  يزرع ذلك العدد الكبير من النخيل في حدائق كلية اللغات فجأة وفي نهاية التسعينيات بالذات . ثم طرح عليّ هذا السؤال ضاحكا وهو يقول، اننا لم نتجاسر ان نسألك حول ذلك عندما كنّا طلبة لديك، ولكنني اتمنى ان اسمع منك الجواب الآن، اذ ان الاسرار لا تبقى اسرارا بعد مرور السنوات، واليوم مضى ربع قرن على هذا الحدث (الاخضر الجميل !) . ضحكت أنا طبعا، وقلت له، ان اسلوب طرحك للسؤال يجبرني فعلا ان اجيب عنه بلا شك، وهكذا بدأت بالحديث عن قصة تلك الحملة التي اسميناها آنذاك (نزرع 100 نخلة في حدائق كليّة اللغات)، وها هي ذا بتفاصيلها كما حدثت، ارويها للقارئ العراقي، لاني أرى انها تعدّ الان تاريخا طريفا يستحق ان نعرفه و نتأمله ونستنتج منه دروسا .

استدعاني مرّة عميد الكليّة أ.د. مخلف الدليمي فورا لأمر هام جدا (وكنت أنا حينئذ معاون العميد)، وعندما ذهبت اليه وجدته قلقا، وقال لي، ان رئيس جامعة بغداد أ.د. عبد الاله الخشاب اتصل به هاتفيا الان، وأخبره وهو غاضب وزعلان جدا، انه عرف من مصادره الموثوقة، ان  الاستاذ فلان الفلاني في كليّة اللغات قد استلم رشوة جماعية من طلبة الماجستير، وانه طلب من عمادة الكليّة متابعة ذلك ومعالجة الموضوع بكل حزم ودقّة واعلامه فورا بالنتائج . قلت له، ان احالة ذلك الامر الى اللجان التحقيقية سينعكس سلبيا على سمعة الكلية (خصوصا وان هذا الاستاذ معروف في الاوساط الاعلامية)، لهذا اقترحت عليه ان نعالج الموضوع بحذر شديد وفي اضيق مجال، وطلبت منه ان اذهب انا الى بيت هذا الاستاذ اليوم مساء واتكلم معه بشكل مباشر ورسمي حول ذلك، اذ ربما نصل معه الى حل محدد لهذه القضية الاخلاقية المعيبة . وافق العميد على هذا المقترح، وهكذا اتصلت هاتفيا بالاستاذ المذكور واخبرته، اني سازوره مساء في بيته لأمر هام . ذهبت في الموعد المحدد، ووجدت ذلك الاستاذ ينتظرني بقلق امام باب بيته، وسألني رأسا عن الموضوع ونحن لانزال في الشارع، فقلت له بشكل مباشر ودقيق وموجز ما ذكره رئيس الجامعة، وانني جئت لبحث الموضوع معه، لأن عمادة الكليّة تريد ان تجد حلا لهذه المسألة دون تلطيخ سمعة الكليّة بمثل هذه الامور غير الاخلاقية في حالة نشرها واعلانها . اخبرني هذا الاستاذ رأسا وبدون لف او دوران، انه أخذ من كل طلبة الماجستير فعلا مبلغا متساويا من المال، لانهم ارادوا ان يساعدوه بعد ان أخبرهم حول حادث جرى له في بيته، وانه حذّرهم من عدم الكلام عن ذلك بتاتا، وقال لي وهو يكاد يبكي انه مستعدّ الان وفورا ان يسلمني المبلغ باكمله واعلام عميد الكليّة و رئيس الجامعة بذلك . استلمت منه المبلغ، وهو ليس بالقليل، خصوصا في زمن الحصار آنذاك، وعدت في اليوم التالي الى العميد ووضعت المبلغ على منضدته وحكيت له ما دار في اللقاء . اتصل العميد رأسا برئيس الجامعة، واخبره بذلك، وقال له انه مستعد الان ان يجلب المبلغ له لبحث الموضوع . رفض رئيس الجامعة هذا المقترح رفضا حادا وشديدا ومطلقا، وقال، المهم ان الاستاذ هذا فهم ان الجامعة تتابع الامور و لا تتهاون مع هذه الافعال المشينة، ويجب على العمادة الان ان تجد حلا  للموضوع، وان هذا المبلغ لا يمكن ان يدخل في حسابات الكلية او الجامعة باي حال من الاحوال . وهكذا قررنا ان نعيد المبلغ الى الطلبة كي يعلموا بموقف العمادة والجامعة اولا، وثانيا، كي نتخلص من هذا المأزق، واتفقنا ان نستدعي كل طالب على حدة ونرجع المبلغ له . تقبّل بعض هؤلاء الطلبة المبلغ بكل سرور وقالوا انهم كانوا مضطرين لذلك، و رفض البعض الآخر الاقرار بانهم أعطوا المبلغ هذا خوفا من تبعات هذا الاقرار . بقي لدينا مبلغا لا نعرف (العميد وانا) ماذا يمكن العمل به، اذ لا يمكن الحديث حوله مع رئيس الجامعة بتاتا بعد موقفه الغاضب والحازم والصارم عندها، ولا يمكن ادخاله ضمن ميزانية الكلية وحساباتها باي شكل من الاشكال، ولا يمكن اجبار هؤلاء الطلبة على الاقرار بعملهم واستلام المبلغ  مثل بقية زملائهم . وبعد التي واللتيا، اقترحت استخدام المبلغ المتبقي لشراء فسائل نخيل كي نزرعها في حدائق الكليّة (والاقتراح طبعا يعكس عشقي الدائم للنخيل !) ، وقد وافق العميد على هذه الفكرة، وهكذا ابتدأت بشراء الفسائل وحددنا اماكن زرعها بمساعدة المهندس الزراعي ومساهمة الفلاحين وتأييد بعض الزملاء المتحمسين للفكرة من حولنا، وأخص بالذكر منهم بالذات المرحوم أ.د. علي يحيى منصور (المعاون العلمي آنذاك)، وانجزنا العمل كما يجب . وقد زار كليتنا مرة رئيس الجامعة الخشاب، ورافقته في زيارته، واثناء مسيرتنا في الممر الخارجي للكليّة تحدثت معه حول النخيل التي كانت امامنا في الحدائق وقد كان منظرها  جميلا، وقلت له انها نتيجة حملة (لنزرع 100 نخلة في حدائق كلية اللغات)، والتي قامت العمادة  بها بعد مكالمته الهاتفية حول تلك (القضية !!!) التي يعرفها ومن المؤكد انه يتذكرها، فضحك الخشاب وقال – احسنتم .

هذه هي قصة النخيل التي تم زرعها قبل ربع قرن في حدائق كليّة اللغات، الحدائق التي يسميها البعض (واحة باب المعظّم)، كما قال لي طالبي القديم عند اللقاء معه في موسكو...        

 

ا.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم