شهادات ومذكرات

حربى عباس عطيتو.. رائد المنهجيات في الفلسفة اليونانية

محمود محمد عليمن معين نهر النيل العذب وعلي ضفاف البحر الأبيض المتوسط بمدينة الإسكندرية نغرف وجهاً عربياً – مصريا – اسكندرانيا مضيئاً في سماء عالمنا العربي المعاصر، الذي خبت نجومه، وقلت شموسه، وتقلصت رموزه، ولكن الخير كل الخير في البقية الباقية من الرواد العظام الذين لا ينساهم التاريخ أبداً، ومن هؤلاء الرواد نحاول في هذا المقال أن نتطلع إلي نموذج من العباقرة نهتدي عبر طريقه، وشخصية استطاعت أن تستجمع جوانب العلم والثقافة فاتخذته منهاجاً، ثم باحثاً في الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطي لا يشق له غبار.

عرفت الأستاذ الدكتور حربي عباس عطيتو محمود (أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب – جامعة الاسكندرية بجمهورية مصر العربية)، منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كانت بدايات علاقتي به عندما كنت طالباً بقسم الفلسفة بكلية الآداب فرع سوهاج – جامعة أسيوط، وكان الأستاذ الفاضل يحاضرنا في مادتي ” الفلسفة اليونانية من طاليس إلي أفلاطون، والفلسفة اليونانية – أرسطو والمدارس المتأخرة .

وخلال المحاضرات الأولي له، أدركت بوعي أنني أمام محاضر جيد ومن طراز فريد، حيث كان يشعرني خلال محاضراته في الفلسفة اليونانية بالمتعة، وأقصد بالمتعة هنا متعة الأفكار، وهي تغزو عقلي في زحف هادئ، لكنه معزز بالدليل والبرهان، فيرغمني علي تقبلها باقتناع، علاوة علي تميزه بمتعة الروح التي كانت تتسرب إلي كياني من رقة الأسلوب وعذوبة الكلمات وسلاسة العبارات . كل ذلك يعكس مدي قدرة الدكتور حربي علي توظيف قدراته اللغوية وثقافته الوسيعة لخدمة أغراضه العلمية التي تجسدها محاضراته في الفلسفة اليونانية .

ويتمتع الدكتور حربي عباس بذكاء خارق ومقدرة ظاهرة وكامنة أتاحت له في بعض الأحيان العمل على مدى أربع وعشرين ساعة متواصلة من دون كلل.. وكان حيوياً ونشيطاً في عمله.. وهو إنسان ذو قدرات عالية .. لا ينام أكثر من خمس ساعات في الليل .. عنيد، لا يحده سقف في التطلع والرقي بعمله.. وفي الوقت نفسه فهو موصوف أيضاً بأنه «جنتلمان» ومنطقي لا يستثار.. ومثابر من الطراز الأول .. يملك أفكاراً وعلى الدوام كأنه في تحد لأي شيء يحده .. وهو حسن المعشر .. سريع النكتة كأغلب المصريين.

ولم أكن وحدي هو الذي وقع في أسر هذه الشخصية المتميزة، وإنما يشاركني فيه معظم الزملاء الذي يواظبون علي الحضور، ولم يكن أحد يتغيب عن محاضراته إلا لظرف قاهر يصدم الحرص الشديد علي مشاهدة الأستاذ والتواجد في حضرته، والاعتراف من غزير علمه، واكتساب بعض فضائله الخلقية، ومنهجيته في التفكير والدرس والحوار والمناقشة، وطريقته المتفردة في طرح القضايا والمشكلات في الفلسفة اليونانية ومعالجتها، وغير ذلك كثير من عطاء الأستاذ الذي ظل يتنامي في عقولنا فهماً واستيعاباً، ويتعاظم في نفوسنا حباً وتقديراً وإكباراً .

وعندما شاءت عناية الله أن أقوم بدراسة الماجستير والدكتور في الفلسفة بعد ذلك، كنت أتابع عن كثب الدكتور حربي من خلال جهوده العلمية والبحثية ؛ حيث أدركت أيضا أنه يمثل واحداً من الطليعة الواعية التي أسست الدرس الفلسفي اليوناني والوسيط في العربية منذ ثمانينات القرن الماضي، وذلك عندما اختط لنفسه منذ البداية خطة واضحة محددة المعالم لدراسة الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطي، فالتزم بعمق وجدية بما حدده لنفسه من البداية، فلم ينشغل بغيرها من الدراسات . لقد هيأ الدكتور حربي عباس نفسه لهذه المهمة بالإعداد المتأني الجاد، وذلك بالسعي لامتلاك أدوات البحث العلمي التي يفتقر إليها كثير ممن ساروا في التخصص نفسه، فأتقن اليونانية واللاتينية بجانب الإنجليزية؛ بالإضافة لطول باعه في العربية، وراجع كل المصادر الكلاسيكية الأساسية من يونانية ولاتينية في لغاتها المختلفة، واختار جانباً محدداً واضحاً مال إليه وانشغل به، وكان سبيله لقراءة الفلسفة اليونانية هو الجانب الديني والعلمي والفني.

وقد كان الدكتور حربي عباس على وعي بمهمته ورسالته ودوره في بداية نشاطه الفلسفي، الذي بدأ منذ تخرجه في قسم الفلسفة بجامعة الاسكندرية عام 1975،وهو تقديم "تاريخ واسع شامل للفكر الفلسفي اليوناني واللاتيني". وقد رأى أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا من خلال وسائل ثلاث متاحة أمام الباحث الجاد وهي: الترجمة الأمينة للكتب الأساسية في اللغات المختلفة التي تتناول الفلسفة اليونانية، وتحقيق المصادر الأصلية في فروع الفلسفة؛ بالإضافة لتقديم الدارسات مبتكرة تحيي الجوانب الهامة في هذه الفلسفة وهي عنده الجوانب الفلسفية والدينية والعلمية والفنية التي اهتم بها كثيرا وتابعها طوال حياته، وفي مقدمتها رسالتاه : سواء الماجستير والتي عنوانها "نظرية الفيض عند أفلوطين" عام 1982م، أو الدكتوراه والتي عنوانها " الفلسفة والدين والعلم والفن في مدرسة الإسكندرية من القرن الأول وحتى القرن الخامس الميلادي "دراسة تحليلية نقدية مقارنة" عام 1985م.

وأما عن تدرجه في المناصب الاكاديمية الجامعية، فقد عُين معيداً بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة الاسكندرية عام 1975م ثم مدرساً مساعداً عام 1982، ثم مدرساً عام 1985، ثم أستاذاً مساعداً عام 1994، ثم أستاذا عام 2006م. وعن تدرجه الوظيفي فقد عُين مشرفاً ورئيساً لقسم الفلسفة من 1986 وحتي 1999م، ثم عُين رئيساً لقسم الفلسفة من عام 2007.

وخلال ذلك أصدر للمكتبة العربية عدة كتب من أهمها: ملامح الفكر الفلسفي عند اليونان، ودراسات فى الفلسفة القديمة والوسطى بالاشتراك مع أ.د محمد على أبو ريان، ملامح الفكر الفلسفي والديني فى مدرسة الإسكندرية القديمة واتجاهاتها العلمية والفنية، العلوم عند العرب – أصولها وملامحها الحضارية بالاشتراك مع أ.د حسان حلاق، ابيقور، وفلسفة الأتراكسي، اتجاهات التفكير الفلسفي عند صغار السقراطيين، والمدينة الفاضلة بين أفلاطون والفارابي" دراسة تحليلية مقارنة، محاضرات فى الفلسفة ومشكلاتها، السوفسطائيون ونزعة التنوير في الحضارة اليونانية، الغائية عند أرسطو وتطبيقها على الإنسان والكون،  دراسات في فلسفة العصور الوسطى بالاشتراك مع أ.د ماهر عبدالقادر محمد، المنطق ومناهج البحث العلمي بالاشتراك مع أ.د على عبد المعطى محمد،  خصائص الفكر الفلسفي في حضارات الشرق الأدنى القديم ( مصر – فارس – الهند – الصين)،  المدخل إلى الفلسفة ومشكلاتها،، محاضرات فى الفلسفة الحديثة والمعاصرة بالاشتراك مع أ.د محمود زيدان، مشكلة الخلاص بين الفكر الديني القديم والمسيحية (دراسة تحليلية نقدية)، الفيثاغورية المحدثة،  اتجاهات التفكير الفلسفي في العصر الهللينستى، دراسات فى الفلسفة العامة بالاشتراك مع أ.د راوية عبدالمنعم،  وأثر الأفلاطونية المحدثة فى اللاهوت المسيحي، الفلسفة، وقضايا ومشكلاتها، الأخلاق :قضاياها واتجاهاتها.

ويتميز الدكتور حربي عباس في كتاباته ومقالاته بالعمق، وسعة الاطلاع، والتعمق في البحث، وإضافة البعد النقدي الذاتي إلي البعد الموضوعي، والأسلوب الأكاديمي الرائع والذي نادراً ما نجده في بحوثنا الحالية؛ فكتاباته تمثل نضجاً فكرياً هائلاً، وبناءً هرمياً متماسكاً، ومن يحاول أن يحذف سطراً واحداً من بحث للدكتور حربي في موضوع من الموضوعات فوقته ضائع عبثا، لأن أسلوبه يعد أسلوباً أكاديمياً دقيقاً وعباراته بعيدة كل البعد عن الطابع الإنشائي البلاغي الفضفاض، لا يقول عبارة إلا علي قدر المعني .

واسمح لي عزيزي القاري أن أذكر لك جانباً من ابداعاته التي تميز بها في الفلسفة اليونانية والذي كانت معظم أبحاثه ودراساته متجسدة فيه، فقد الدكتور حربي عباس عاشقاً له .. غيوراً عليه .. متفرداً في طرحه للكثير من القضايا والمشكلات الكبرى، فهو ينظر للفلسفة اليونانية علي أنها تتسم في نظره بالأصالة والإبداع.

ففي كتابه الفلسفة القديمة : من الفكر الشرقي إلى الفلسفة اليونانية علي سيبل المثال لا الحصر؛ أكد علي أن الفلسفة اليونانية لم تنشأ يونانية خالصة، ولم يبدأ اليونانيون في اكتشاف ميادين العلم من فراغ كامل ؛ بل إن الأرض كانت ممهدة لهم في بلاد الشرق، وبالتالي يتضح لنا أن الاعتقاد بضرورة أصل واحد للمعرفة العلمية، وتصور واحد يرجع إليها الفضل في ظهورهما، ربما كان عادة أوربية سيئة ينبغي التخلص منها، فإصرارنا على تأكيد الدور الذي أسهمت به حضارات الشرق القديم، لا يعنى أبدأ أننا من الذين ينكرون على اليونانيين أصالتهم العلمية، ولا نشك لحظة في أنهم يمثلون مرحلة عملية ناضجة ومتميزة، ولكننا لا نوافق على إدعاء أن تلك الأصالة، وهذا التمايز قد أتيا من فراغ، فقد كانت عظمة الإغريق أنهم استطاعوا أن ينقلوا بشغف كل ما وقعت علية أعينهم وعقولهم من التراث السابق عليهم، وأن يهضموه هضما تلاءم مع بيئتهم الخاصة، وأن يحولوا هذه المؤثرات إلى شئ شبيه بترائهم .

وفي نهاية حديثنا عن الأستاذ الدكتور حربي عباس لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لأستاذنا الفاضل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم