شهادات ومذكرات

العراقيون بجامعة موسكو في الستينيات ومصائرهم (8)

ضياء نافعنستمر في هذه الحلقة بحديثنا عن الطلبة العراقيين في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو في الستينيات. نتوقف عند المرحوم د. عباس الدباغ . كان واحدا من طلبة الدراسات العليا، الذين كانوا يحملون شهادة البكالوريوس العراقية عند وصولهم الى موسكو . كان طالبا جدّيا، وانهى دراسته ضمن الفترة القانونية بنجاح، وعاد الى العراق، وعانى (كما هو حال خريجي الجامعات الروسية بشكل عام) من مشاكل معادلة الشهادة والتعيين، واستطاع – بعد التي واللتيا - ان يعمل في جامعة الموصل لفترة، واضطر اخيرا للسفر الى اليمن للعمل هناك، واختاروه عميدا لاحدى كليات الجامعة التي كان يعمل بها في اليمن، اذ لاحظوا هناك مستواه العلمي الراقي ونضوج شخصيته وجدّيته واخلاصه في العمل، وسمعت، انه وضع في تلك الجامعة  كتابا منهجيا لهم في اختصاصه، ولكني لم اطلع عليه ولا اعرف مضامينه. لقد علّق أحد الزملاء مرة قائلا، ان العراقيين لم يلاحظوا شخصية د. عباس المتميّزة علميا واخلاقيا، لأن مغنية الحي لا تطرب (خصوصا اذا كانت خريّجة الاتحاد السوفيتي)، بينما اكتشفوا في اليمن رأسا تلك الميزات الواضحة بسهولة .  رجع د. عباس الدباغ الى العراق بعد العمل – ولمدة ليست قصيرة -  في اليمن، وساهم مساهمة فعّالة ورائعة في عملية تأسيس الجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية والاعداد القانوني لانبثاقها، وتم انتخابه في لجنتها الاولى في الاجتماع العام لخريجي الجامعات الروسية، الذي انعقد في كلية اللغات بجامعة بغداد عام 2004 . توفي المرحوم د. عباس مبكرا في بغداد اثر مرض عضال، ولازالت ذكراه العطرة راسخة في نفوس كل اصدقائه وزملائه . اختتم هذه السطور الوجيزة عنه بذكرياتي في جامعة موسكو معه، اذ كنت غالبا ما اتلاطف معه في جامعة موسكو  واطرح عليه سؤالا واحدا وهو  – من وجهة نظر علم الاقتصاد، لماذا يستلم طالب الدراسات العليا 150 روبلا شهريا، بينما نستلم نحن طلبة الدراسات الاولية 90 روبلا شهريا، وهل هذا يعني ان طالب الدراسات العليا يحتاج ان يأكل أكثر من طالب الدراسات الاولية؟ وكان عباس يضحك من اعماق قلبه عندها، وقد ذكّرني مرة في بغداد بذلك السؤال، وقهقهنا معا، وهو يقول لي، انه لن يجيبني ابدا عن هذا السؤال  من وجهة نظر علم الاقتصاد .

الاسم الثاني الذي اود ان اتوقف عنده هو المرحوم خالد الزبيدي، الذي كان طالبا في كلية الاقتصاد، ولكن الملحق الثقافي محمود شكري استدعانا، نحن طلبة الدراسات الانسانية، واخبرنا بضرورة تبديل اختصاصنا الى دراسات علمية، وان ذلك التبليغ رسمي وصادر من الدولة العراقية، وانه اتفق مع الجانب السوفيتي بشأن تنفيذ هذا النقل . لقد كنّا آنذاك في الصف الثاني، وقد ناقشناه – نحن طلبة كلية الفيلولوجيا (اللغات وآدابها) -  وقلنا له ان العراق يحتاج الى مترجمين عن اللغة الروسية لتوسّع العلاقات العراقية – السوفيتية في مجالات متنوعة وعديدة جدا، فأجابنا، ان العراق يحتاج الى مترجمين اثنين فقط لا غير من الذين يعرفون اللغة الروسية، وان البقية فائضين عن حاجة العراق، وقد ضحكنا من منطقه الافلج  هذا. يمكن القول ان اكثرية الطلبة رفضت مقترح الملحقية، الا ان بعض زملائنا وافقوا على ذلك، معتبرين انه لا ضير من الانتقال الى الاختصاص الذي يرومون دراسته، وانها  فرصة يجب الاستفادة منها رغم كونها تحمل صفة سياسية واضحة المعالم، اذ انها انعكاس لما كان يجري في العراق اواخر حكم عبد الكريم قاسم .  كان خالد الزبيدي من جملة الطلبة الذين قرروا الانتقال الى كليّات اخرى، رغم انه كان الشخص الثاني في رابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي، وهكذا ترك خالد كليّة الاقتصاد و انتقل الى الدراسة في معهد الهندسة المعمارية، اذ وافق الجانب الروسي على ذلك بتنسيق مع الملحقية الثقافية طبعا . وأذكر اني تحدثت معه عندئذ، وقلت له، ان هذا الاختصاص يتطلب موهبة ذاتية في قضايا الرسم والتخطيط المعماري، فقال لي مبتسما، ان المهندس المعماري في العراق يرسم خريطة بناء البيت على (باكيت جكاير تركي او لوكس) (وهي سجائر عراقية كانت موجودة في الخمسينيات ويتذكرها زملائي الشيّاب طبعا) ويعطي الخريطة للمقاول، ويؤكد المهندس فقط على مواقع الابواب والنوافذ . لقد كان المرحوم خالد الزبيدي انسانا مرحا ولطيفا وبسيطا ومجاملا ومحبوبا من الجميع، ولكنه لم يتميّز علميا، ومع انه اكمل دراسته وحصل على شهادة الهندسة المعمارية، وعمل في العراق مهندسا في احدى دوائر الدولة، فانه واقعيّا لم يكن مهندسا معماريا حقيقيا مثل بعض زملائه الذين انهوا دراستهم في هذا المعهد الشهير، ومنهم، مثلا، المعماري العراقي المعروف د. خالد السلطاني، الذي يعدّ الان واحدا من كبار منظريّ الهندسة المعمارية في العراق وأحد اهم مؤرخيّها، واصبحت كتبه وبحوثه مصادر اساسية في المكتبة المعمارية العربية.   

 

أ. د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم