شهادات ومذكرات

أحمد عبد الحليم عطية.. عاشق المؤتمرات الفلسفية

محمود محمد عليقد لا أكون مبالغا إن قلت بأنني لست من أنصار وأتباع من يكابرون ويتبرمون على الجهر بالحقيقة وفي وقتها القانوني دون أن تطالهم صافرة اللوم والنقد والعتاب مهما يكن من أمر أو تشتد بهم العواصف العاتية والرياح الهوجاء التي قد تجرفهم في تيارها الواسع البعيد في نقطة اللاعودة، ولأن أستاذ الفلسفة كما اعتقد هو ذلك الكيان المسكون والمخلوط بروح العطاء الخارق، فهو يمثل الرسالة البيضاء المليئة والمتدفقة في كل الجامعات والمحافل الفلسفية أينما كان وحيثما وجد فلولا هذا الأستاذ ما أطلت علينا نسائم وبشائر التفوق في عالم الفلسفة، وما شعرنا بقيمة الرجال العظماء والمفكرين الأفذاذ ، وما تلذذنا بطعم الكلمات والتعليقات الساخرة واللاذعة التي تقطر بها أقلامهم وتلهج بها ألسنتهم وتخطها أناملهم في كبريات المؤتمرات غير عابئين أو مكترثين بما يعترضهم من مصاعب ومشاق.

والدكتور أحمد عبد الحليم عطية واحد من هؤلاء الأساتذة العاشقين للمؤتمرات الفلسفية، فلا يًعقد مؤتمرا فلسفيا في الشرق والغرب إلا ويكون أحمد عبد الحليم أحد المشاركين فيه إما بالحصور أو بألقاء بحث وهذه ميزة تحمد له .

ولمعرفة القارئ الكريم بالدكتور أحمد عبد الحليم عطية نقول عنه بأنه أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة وعضو في عديد من الجمعيات الفلسفية العربية والدولية ورئيس تحرير مجلة أوراق فلسفية، وهو مصرى الجنسية من مواليد القاهرة في 11 فبراير 1951، متزوج وله أربعة أبناء، حاصل على ليسانس آداب قسم الفلسفة بتقدير جيد جداً 1973 جامعة القاهرة، ماجستير فلسفة "القيم عند رالف بارتون بيرى" بتقدير ممتاز 1980 كلية الآداب القاهرة ودكتوراه الفلسفة "مفهوما الطبيعة والإنسان عند فيورباخ: دراسة نقدية" 1986، كلية الآداب – جامعة القاهرة.

وقد كتب أحمد عبد الحليم في الكثير من مجالات الفلسفة، وشارك في العديد من الندوات، فاهتم بدراسة علم الجمال، وهو قد حصل على بكالوريوس معهد السينما، وقام بتدريس مادة علم الجمال في قسمي الفلسفة واللغة الإنجليزية، وصدر عن هذه التجربة كتابه "دراسات جمالية"، هذا بالإضافة إلى اهتمامه المكثف بالفكر العربي المعاصر، فكتب عن الأخلاق وعلم الجمال في الفكر العربي، وكتب عن د. عبد الرحمن بدوي، وعن محمد عبد الهادي أبو ريدة ، وتوفيق الطويل وقدم دراسات مستفيضة عن هشام شرابي وعلي أومليل وناصيف نصار وغيرهم. أما عن جهده في تخصصه الدقيق (الأخلاق والقيم والفلسفة المعاصرة) فقد كتب في الأخلاق الإسلامية واليونانية والحديثة والمعاصرة؛ بالإضافة الى الفكر العربي وما بعد الحداثة.

كما يُعد الدكتور أحمد عبد الحليم عطية واحد من أساتذة الفلسفة الكبار في العالم العربي المشهورين بحضور المؤتمرات العلمية، حيث اهتم في مشروعه الفكري بالأخلاق والقيم وعلم الجمال ودرس الفلسفة والسينما واللغات الأجنبية في المحافل الفلسفية، لديه ما يزيد عن 50 كتابُا منشورًا في الفلسفة ما بين ترجمات ومؤلفات؛ تذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: القيم في الواقعية الجديدة عند ر.ب. بيرى، وفلسفة فيورباخ، والأخلاق في الفكر العربى المعاصر، والصوت والصدى: الأصول الاستشراقية في فلسفة بدوى الوجودية، والديكارتية في الفكر العربي المعاصر، والأخلاق الهيجلية: ترجمة كتاب وولش ودراسة، وأصل الدين، ترجمة كتاب فويرباخ: ودراسات في تاريخ العلوم عند العرب، والسعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية، دراسة و"تحقيق"، نظرية القيمة ونصوص أخرى، دراسة ترجمة لايريان، وميتافيزيقا القيم عند دويت باركر، والأخلاق والحياة الأخلاقية عند المسلمين "ترجمة عن دى بور"، ودراسات أخلاقية، ومحاضرات في الفلسفة العربية "إعداد لمحاضرات جلارزا بالجامعة المصرية"، الموسوعات الفلسفية المعاصرة في العربية "قراءة نقدية تحليلية"، وجالينوس بين الفلسفة والعلم، وإعادة تقييم الحديث "العودة إلى القرآن" ترجمة لكتاب قاسم أحمد،  ما بعد الحداثة والأخلاق التطبيقية.. وهلم جرا.

إن كتابات الدكتور أحمد عبد الحليم عطية تنتمي – فيما يرى البعض – إلى نمط الكتابة ما بعد الحداثية: أي الكتابة غير النسقية، وهي كتابة لا تتقيد ببناء محدد أو خط سير معين، وإنما تمضي في كل اّتجاه بحسب الحاجة والضرورة التي تفرضها المناسبات البحثية والقضايا الآنية. فكتابات أحمد عبد الحليم – في معظمها – كانت أبحاث ودراسات قصيرة أتت بهدف المشاركة في الفعاليات البحثية والدوريات المتخصصة، ولعل هذا كان هو السبب في أن أحمد عبد الحليم لم يصرح بكونه يسعى باتجاه إنجاز مشروع فكري ما ، ولكنه صاحب رسالة.

ولذلك لا أنسي تلك المقولة التي قالها عنه الدكتور مراد وهبة حينما قال: إذا أردت أن تعرف الرسالة الفلسفية للأستاذ الدكتور أحمد عبد الحليم عطية فاقرأ المجلدات الثالثة التي أصدرها تحت عنوان "موسوعة الفلاسفة العرب المعاصرين"؛ حيث يكتب فيها كل مفكر رأيه في مفكر آخر. وكانت الغاية من ذلك تعريف الجمهور الفلسفي بالإصدارات الفلسفية هؤلاء المفكرين "الذين يسعون إلى التحديث والنهضة والتقدم ويتوسلون إلى ذلك بأساليب العقل والعلم والنقد، ويهدفون إلى تحقيق حياة مدنية حديثة تليق بالإنسان وتحقق غاياته وآماله وحقيقته.

كذلك قال عنه الدكتور فتحي التريكي: ليس ثمة شك أن الصديق الأستاذ الدكتور أحمد عبد الحليم عطية قد كرس مجهودا متواصلا بالمواقف والمقاربات ّالفكرية في ميادين عديدة داخل تيارات الفلسفة للتعريف ومناهجها.  فالعدد الضخم من الكتب التي ألفها أو التي أشرف عليها وقّدمها أو التي حققها أو أنجزها للطبع تشير بما لا يدعو للشك إلي سعة اطلاعه وإلمامه الشديد بكل ما يجد في الميادين الفلسفية والفكرية. والحقيقة أنه أثري المكتبة العربية بهذه الأعمال الضخمة التي أصبحت مراجع أساسية للبحث والفكر، فقد كان الفكر الفلسفي اليوناني حاضرا في هذه الأعمال كما كانت الفلسفة العربية القديمة ملهمة لبعض أطروحاته. أما الفلسفة الحديثة والمعاصرة غربية كانت أم عربية فهي التي أخذت الجانب الأكبر من تفكيره ونقده الفلسفي. كان إذن أرسطو وأفلاطون من مراجعه المهمة، وكان حضور الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون متواترا هنا وهناك في مجمل أعماله. كما كان ديكارت ولا كانط وفيورباخ بالإضافة إلى هيجل ونيتشه وهيدجر من فلاسفة الغرب الحديث الذين اعتمدهم في فلسفته. كما اهتم صاحبنا بالفكر الفلسفي المعاصر مجسدا في فلاسفة كبار مثل جيل دولوز وميشال فوكو وهابرماس وجون رولز وغيرهم. أما إذا أردنا إثبات المفكرين والفلاسفة العرب الذين اهتم بهم وبأعمالهم أحمد عبد الحليم عطية فستكون القائمة طويلة لا يتسع المجال هنا لفتحها.

ولست في حاجة إلي تناول أفكار الدكتور أحمد عبد الحليم الفلسفية والنقدية في هذا المقال ، فقد قام بهذه المهمة عدد من الزملاء بأبحاثهم التحليلية النقدية في المجالات المختلفة التي أسهم فيها أحمد عبد الحليم بكتاباته ، وسوف يتابع القارئ هذه الأبحاث لكنني سوف أشير إلي أن هذا المقال يأتي ربما متأخرا بعض الشئ عن وقته فأفكار أحمد عبد الحليم وغيره من رواد فكرنا المعاصر جدير بالبحث المنهجي تأكيدا للقيم التي التزموها والقضايا التي طرحوها.

لقد كان الدكتور أحمد عبد الحليم وعي بمهمته ورسالته ودوره في بداية نشاطه الفلسفي، الذي بدأ منذ تخرجه في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عام 1975،وهو تقديم "تاريخ واسع شامل للفكر الفلسفي اليوناني واللاتيني والإسلامي والحديث والمعاصر". وقد رأى أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا من خلال وسائل ثلاث متاحة أمام الباحث الجاد وهي: الترجمة الأمينة للكتب الأساسية في اللغات المختلفة التي تتناول الفلسفة اليونانية والإسلامية والحديثة والمعاصرة، وتحقيق المصادر الأصلية في فروع الفلسفة؛ بالإضافة لتقديم الدارسات مبتكرة تحيي الجوانب الهامة في هذه الفلسفة وهي عنده الجوانب الفلسفية والدينية والعلمية والفنية التي اهتم بها كثيرا وتابعها طوال حياته.

ويهمنا هنا أن نشير إلي بعض الملامح الأساسية في كتابة الدكتور أحمد عبد الحليم الفلسفية التي تعطي بعض المؤشرات في تفكيره موقفه الفلسفي العام ، وأول هذه الملامح هو فهمه للفلسفة من أنه يجعل منها فاعلية دائمة تجاه الواقع والتاريخ والإنسان وهذه الملامح هي: التفاؤل بالغ والإنسان والتاريخ والحوار البشري ، فالحوار هو ارتفاع بالحديث البشري إلي مستوي الخلاف الفكري بحثا عن الحقيقة، والخلاف الفكري لا يعني بالضرورة التشاجر ولا يعني البغضاء أو العداء ، والحوار البشري هو محاولة للارتفاع بالتنوع والاختلاف إلي إطار مشترك من الوحدة وهو ضبط لإيقاع الحركة والنشاط الواقعي ، وتجمع وبلورة للخبرات الحية وهو فرز اما هو صحيح سديد عما هو فاسد معوج ، إنه جوهر أسلحة الإنسان للوصول إلي الحقيقة ، حقيقته ، وحقيقة الوجود من حوله . وأخيرا النقد ؛ والنقد هنا ليس بالمعني الأدبي ولكنه النقد الفلسفي الكانطي ؛ وكأن لسان حالة حال الدكتور أحمد مستجير الذي عرف نفسه قائلا "أنا في الحق موزع بين شاطئين كلاهما خصب وثري، أجلس على شاطئ وأستعذب التأمل في الآخر.. وأعرف أن الفن أنا، والعلم نحن، ذبت في الـ نحن وأحن إلى الأنا، وأعرف أن الفن هو القلق وأن العلم هو الطمأنينة؛ فأنا مطمئن أرنو إلى القلق".

وأخيراً إذا أردت عزيزي القارئ أن تتعرف علي بعض جوانب وقدرة ومهارة الدكتور أحمد عبد الحليم في النقد والتحليل، وإذا أردت أن تتعرف علي براعته الفلسفية وطريقته الفريدة في البحث وراء معاني التصورات والمفاهيم في بحر الفلسفة العميق المترامي الأطراف، فعليك بقراءة كتبه علها تفتح شهيتك لقراءة المزيد من كتاباته وتستحثك للخوض بنفسك في بحار الحكمة ومحيطات المعرفة.

وفي نهاية حديثنا عن الأستاذ الدكتور أحمد عبد الحليم لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة للأستاذ الفاضل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم