شهادات ومذكرات

فوقيه حسين محمود ونظرية أصالة الفكر الإسلامي

محمود محمد عليبدأ مشهد الحراك الثقافي للمرأة المصرية فاعلاً ومثيراُ بمحاولاته المتحمسة في بواكيره أواسط العقد العشريني المنصرم، قياساً بالسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي ونتاجاته : فقراً وعوزاُ وحاجة، وحَكماً وإدارة متزمتة، ومجتمع بطريركي في أعلي درجات تطرفه، فما تبرزه الدوريات الصحفية بالخصوص بمرجعياتها المستندة علي الوثائق والصور، والسير والشهادات والتي لم تحظ بالقدر المطلوب بحثاً ودراسة ومُراجعة وتوثيقًا ما سيرشد إلي المشاريع التي تأسست مع ستينيات القرن الماضي رغم تلك الظروف، فمصر علي اتساع رقعتها قدمت رائدات من نسائها جهودهن من أجل نشر الوعي المجتمعي للنهوض بوضع المرأة المصرية وتشجيعها علي الانخراط في المشروع النهضوي، ومن تلك الرائدات نأخذ هنا في هذا المقال أنموذجاً من تلك الرائدة؛ ألا وهي الأستاذة الدكتورة فوقية حسين محمود,

وفوقية حسين محمود رحمها الله؛ مفكرة وكاتبة مصرية، وأستاذة جامعية، وباحثة لا يشق لها غبار، ونموذج نادر وفريد للمرأة الصعيدية، والتي نجحت في أن تثبت ذاتها، فمن طفلة صغيرة تلهو على شاطئ النيل في المنيا في جنوب مصر، إلي امرأة قادرة علي صناعة العالم؛ وذلك عندما تمكّنت من خلق نموذج للمرأة يتجاوز مستوى الشكل، والذي ظهر في كتاباتها ومقالاتها ودراساتها وترجماتها وتحقيقاتها في مجال الفلسفة عامة والفلسفة الإسلامية خاصة.

انضمت فوقية حسين إلى دراسة الفلسفة بقسم الفلسفة، وكان انضمامها يمثل نموذجاً ساطعاً لمسيرة الفتيات في التعليم في مصر في ذلك الوقت، وهى رائدة بكل المعايير والمقاييس، وهى من الجيل الثاني الذى اقتحم الجامعة المصرية، حيث كانت الجامعة المصرية لا تسمح للبنات بدخول الجامعة، حيث كان أحمد لطفي السيد خلال الجيل الأول لا يستطيع مواجهة المجتمع بإدخال البنات للدراسة في الجامعة، وقد كانت هناك حالات فردية على نطاق محدود جداً من الفتيات يدخلن للدراسة في الجامعة، وكانت فوفية حسين ترغب في أن تكون باحثة لتدرس الفلسفة في الجامعة بعد أن تعلّقت بهذا الأمر، حيث كانت تذهب يوميا للمكتبة العامة وقرأت فيها هناك أغلب كتب الفكر الفلسفي.

كانت فوقية حسين شخصية مقاتلة فقد كانت ترغب فى أن تثبت للعالم بأن المرأة قادرة على صناعة العالم، وبالفعل تمكنت من أن تحصل علي درجة الدكتوراه في القرن الماضي من جامعة أدنبره بإنجلترا،إلى أن صارت أستاذاَ للفلسفة الإسلامية ورئيس قسمها بكلية البنات جامعة عين شمس، كما درَّستْ في العديد من الجامعات العربية في السعودية، وكلية الآداب جامعة محمد بن عبد الله بفاس بالمملكة المغربية، والسودان، وشاركت فى كثير من المؤتمرات العلمية على المستوى المحلي والدولي؛ فكانت تكتب بلغات مختلفة .

كما كانت فوقية حسين (بشهادة كثير من تلاميذها) تجمع بين اللين والعفو تجاه الآخر، وكأنها تقرأ الإنسان، فكانت تستمتع ببصيرة كشف للآخر، وكانت أيضاً تهتم بالمشاكل الخاصة بطلابها، وبالنواحي النفسية للباحثين.. كانت دقيقة فى توجيها .. لا تجبر الباحث على شئ لا يريده.. كانت تدفع الطالب إلى البحث عن ذاته وإبداعاته فيما يكتب ... فكان التوجيه من منطلق البناء وليس من منطلق فرد ثقافة الاستاذ على تلميذه.. بل كانت تقدم الأمانة العلمي على آرائها وأفكارها وآرائها..  كانت تدفع باحثيها إلى النقد المنهجى... وكانت تجمع بين الشدة فى المواقف التى تلتزم الشدة والحزم بما فيه استقامة المعوج لا كسره ...لقد كانت تشترى كتب لطلابها منمالها الخاص .. وكانت توزع راتب على بعض الباحثين الذين لا يعملون فى الجامعة، وكانت تدفع تذاكر القطار لطلابها وخاصة المناطق النائية – مثل طلاب الصعيد.. كانت تقسم الطلاب إلى مجموعات أو حلقات علمية هذه الحلقات عبارة عن طلاب السنة التمهيدية للماجستير.. فكانت تقوم بالتدريس لهم .ثم طلاب الماجستير فكنا مجموعات سواء كان طلاب الوجه البحري أو القبلي ... وكان يتم النقاش مع كل طالب فى موضوعه وعلى الباقي أن يسمع ويسجل ملاحظاته وتتحول المسائل إلى حلقة علمية رائعة تقوم على المساجلات والخلاف العلمي الدقيق .. كما نمت لدى طلابها الحث النقدى الأمين القائم على التكاملية. كانت تراجع كل كلمة في البحث.. لا يحصل الطالب على أمر الطبع إلا حين انتهاء البحث.. كانت تدافع عن طلابها وإذا أحد الطالب على رأيه كانت تناقشه فى ذلك.... إلي آخره.

تركت فوقية حسين محمود وراءها ما يربو على أكثر من عشرين كتابًا في علم الكلام والتصوف وفلسفة الحكماء علاوة علي الدراسات الفقهية والإسلامية والأدبية والتاريخية، فلها مؤلفات في الفلسفة الإسلامية أبرزها: مدخل إلى الفلسفة الإسلامية ـ وكتاب الجوينى إمام الحرميين، وكتاب الفلسفة الإسلامية فى المشرق والمغرب، وكتاب غاية الإنسان فيشته، وكتاب دراسات فى علم الأخلاق، وكتاب دراسات فى القيم، وكتاب مقالات فى أصاله المفكر المسلم ...وهلم جرا.

وقد حققت الكثير من النصوص والوثائق والمخطوطات، ونذكر منها : كتاب الإبانة عن أصول الديانة أبو الحسن علي بن إسماعيل البصري الأشعري، وكتاب الكافية في الجدل إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، وكتاب لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة إمام الحرمين الجويني، وكتاب لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي.

علاوة علي مقالاتها المنشورة في القضايا الإسلامية المعاصرة باللغة الإنجليزية والفرنسية بمجلة الأزهر الشريف جريدتي الأهرام المصري والوفد، كما لها مقالات فى قضية الأصالة بحوليات كلية البنات جامعة عين شمس.

وقد صفها العلامة عبد العظيم الديب رحمه الله بـ"الدكتورة النابهة"، كما وصفها الدكتور السيد محمد عبد الوهاب :" مشعل فريد لأنه نموذج رائع للمرأة المصرية الصعيدية التى أثبتت كيانها وكينونتها، وأثبت آرائها وأفكارها بل انتقلت من مرحلة الدفاع من كونها أمراءه تفكر إلى مرحلة إثبات الذات فى المساهمة بفكرها وعلمها فى مسيرة العمل الإسلامي، بل أثبتت وأكدت مفاهيمها الإسلامية التى لم تفارقها رغم أنها أكملت دراستها العلمية خارج مصر، فقدمت طرحاً فكرياً لا يرفض حضارة الغرب مع الاحتفاظ بالخصوصية الخلقية للمرأة المسلمة .

كما تميزت فوقية حسين  بأنها أكثر جرأة فى الرأي ‏وشدة فى اقتحام القضايا‎ ‎الأكثر حساسية مع تحليل خاص ‏للصحوة الدينية وتاريخ حركات الإصلاح الحديثة، ‏خصوصاً‎ ‎عندما يدور الحديث حول مرحلة أصالة الفكر الإسلامي ؛ إذ ما تميز به هذا الفكر في اعتقاد فوقية حسين من نظرة إلي الواقع تجعله مخالفاً في صميمه لما كانوا يردونه إليه من فكر يوناني علي وجه الخصوص.

وتقصد فوقية حسين بالواقع" فتقول هو :" ذلك الوجود المستقل عن الذات العارفة، أي الواقع الخارجي، واقع الموجودات في الطبيعة التي تحيط بالإنسان، ولا يعني تخصيص القول في هذا " الواقع" الذي حددته دون غيره، وهو الواقع الخارجي المادي، أن أنماط الواقع تقل عنه من حيث أهمية واقعيتها، وإنما يعني أنني قصدت التبسيط باتخاذ هذا الواقع موضوعاً للدراسة علي أساس أن كثيراً مما سننتهي إليه بصدده يمثل أهم معالم موقف المفكر المسلم من أنماط الواقع الأخرى علي اختلافها.

وتستطرد فوفية حسين فتقول : ويحق لنا أن نسجل أن مجرد ظهور التعبيرات الدخيلة في مجالي " الكلام"، والفلسفة" قد جعل الكثيرين يظنون أن المفكر المسلم، فيما يتعلق بإنتاجه في هذين المجالين: يوناني أرسططاليسي في مفاهيمه.

والهدف من أصالة الفكر الإسلامي في نظر فوقية حسين : بيان ما يوجد من خلفية فكرية إسلامية وراء ما تعثر هنا وهناك من بعض ألفاظ وتقسيمات ذهنية دخيلة علي الفكر الإسلامي؛ بحيث يصير في مقدورنا أن نقول أن التعبيرات اليونانية قد وردت في تراثنا – في حقيقة الأمر كلباس لمفاهيم إسلامية أصيلة، وأنها انتشرت علي هذا النحو كأثر من آثار سماحة العقلية الإسلامية بالنسبة لما لا يتعارض مع العقائد، وتلبية في الوقت نفسه لحاجة عقول الجموع إلي ما هو جديد .

وقد تمثل هذا الجديد كما تري فوقية حسين في هذه الثقافة الدخيلة اليونانية – علي وجه الخصوص- التي كانت دون غيرها علي مستوي يناسب – إلي حد كبير – ما وصلت إليه العقلية الإسلامية من درجة صقل عميق يحكم تكونها أصلاً مع المفاهيم الإسلامية المنزلة : فالدين الحنيف قد اهتم بالتشريع لحياة الفرد في جميع نواحيها الفكرية، وغير الفكرية تشريعاً يحقق النضوج الكامل لمن يجتهد.

فلقد الفكر كما تقول فوقية حسين يمثل نضجاً كبيراً لناحية من نواحي الفهم الإنساني وهي الناحية النظرية، فأقبل عليها المفكر المسلم، ولكنه لم يفته قط، أن هذا الفكر الدخيل يقوم علي أسس مبتورة، لأنه فكر لم يعبأ بربط النظر بالعمل مثلاً، ولم يبين بوضوح ما للموجودات من حقيقة مستقلة عن الذات العارفة .

لقد كان للمفكر الإسلامي كما تقول فوقية حسين وقت لقائه بالتراث اليوناني، من خلال الترجمات – علومه التي عرفها وترعرت نفسه في ظلها، وهي " علوم  القرأن والسنة "، وقد حققت هذه العلوم، لمن أقبل عليها، مسلما كان أم غير مسلم، عربياً كان أعجمياً قدراً من الصقل الذهني الرفيع المتكامل لم يتوافر لأهل الثقافات الأخرى، فإذا كانت هذه هي قوة هذه العلوم، وهذا هو أثرها، فلا يملك الباحث إلا أن يدعو إلي وقفة قصيرة عند مصدري هذا التراث وهما : " القرآن المعجزة وسنة النبي المصطفي محمد صلي الله عليه وسلم "، لتتكشف في جملتها معالم المفاهيم التي أراد الله سبحانه وتعالي أن تقود الإنسان في فكره وعمله علي العموم، وفي موقفه تجاه الواقع الخارجي .

إن تدبر آيات الذكر الحكيم، وسنة الرسول الكريم، تبين في نظر فوقية حسين ثراء كبيراً يؤكد ببساطة ويسر، أن الواقع الخارجي من خلق الخالق الأعلي، سبحانه وتعالي، وأن وجود هذا الواقع حقيقي يؤكد مقدرة الله عز وجل علي الخلق والإيجاد، فالواقع الخارجي له وجوده الذي أراده الله له بمشيئته تعالي، وقد اعتمدت العلوم الإسلامية هذا المفهوم اعتمادا كليا، ولم تحد عنه، فعلوم القرآن وعلوم الحديث، وكذلك العلوم التي تتعرض لنواحي الحياة، حياة الفرد والطبيعة : من كيمياء إلي طب إلي دراسة نباتات، الخ . كل هذه واجهت الواقع الخارجي مواجهة المعترف بوجوده وجوداً مستقلاً، وجودا يعرف بذاته، وعلي العقل أن يواجهه ويتعرف علي ما يقدمه من حقائق تجريبية تعتمد علي استقراء الموجودات في وجودها الكلي العيني، وليس أبلغ من علوم التفسير التي تشرح الحقائق المنزلة مستعينة بواقع الحقائق الموجودة أو التي وجدت . وليس أدق من علوم الفقه، التي نكشف ببصيرة المستنير بالنص المنزل، ما يجب أن يكون في أمور الناس . وليس أصح من منهج المفكر المسلم تجاه الواقع في دراسته لقوانينه التي تحكم جزئياته، وهي سنة الله التي ليس لها تبديلا.

فإذا ما بدأنا كما تقول فوقية حسين بعلم الكلام، ونقبنا عما يشمله هذا العلم من تعبيرات دخيلة متعلقة بـ " الواقع" وجدنا تعريفا للعالم ينسب عادة في كتب علماء الكلام إلي الخلف وهو : " العالم جواهر وأعراض"، ووجدنا كلاما كثيراً حجول " الجوهر" و" العرض" وأصول ارتباطها، ومثل هذا التعريف للعالم، ومثل هذه التقسيمات والأصول، توحي في ظاهرها بالنقل عن مفاهيم الفكر اليوناني.

ولا حاجة بنا إلي الوقوف وقفة تفصيلية عند مفاهيم الفكر اليوناني، فيما يتعلق بالواقع الخارجي ويمكننا حسب اعتقاد فوقية حسين ما تميزت به نظرة اليونانيين إلي الواقع في أن قبول العالم الخارجي علي ما هو عليه موقف في اعتبارهم ساذج فهم لم يتبينوا أبدا أنه الموقف الوحيد الذي يضمن للإنسان علاقة متسقة مع الوجود الخارجي .

ثم تستطرد سيادتها فتقول : وقد فسروا الموجودات من خلال مقولات ذهنية بحتة فشطروا الموجود العيني إلي جوهر وعرض، وأعطوا لكل وجوداً منفصلاً عن الآخر فترتب علي ذلك افتقاد الهوية، أي هوية الموجود العيني كما يظهر للعين المجردة . إنهم لا يعترفون بما تقدمه حواسنا من صورة عن العالم، وتعالوا علي المعرفة الآتية عن طريقها، ورأوا أن المقولات تعبر عن الأسس الأولي للعلم والوجود، واتجهوا إلي الجوهر وجعلوه معبرا عن ماهية الموجود فالجوهر هو التعبير عن الطبيعة الحقيقية أو العلمية للأشياء.

وهذا يعني أن الفكر اليوناني في نظر فوفية حسين يعطي أولوية ظاهرة للجواهر أو للوجود المعرفي علي الوجود الخارجي في ذاته، فهو ميال بحكم ما قام عليه من أسس إلي هدم الانطباعات الأولي عن الطبيعة الخارجية ليحل محلها فكرة ما سماه بالجوهر الأصلي أو الحقيقة، واتجه الفكر الأرسططاليسي إلي جعل الجواهر كلها تتحرك شوقا إلي محركها الأول الذي تماثله في القدم . فصار الواقع الخارجي غير مخلوق وغير موجود وجودا في ذاته، مستقلاً عن الذات العارفة.

هذه هي أهم معالم نظرة اليونانيين إلي الواقع في نظر فوقية حسين، وهي نظرة تقوم علي أصول تخالف العقائد، وتتمثل في الوقت نفسه اتجاها واضحاً إلي اعطاء أولوية للذات العارفة في تفسير الوجود دون الواقع في ذاته.

وثمة نقطة جديرة بالإشارة نود أن نشير إليها، وهي أن فوقية حسين من المفكرين المصريين الذين يؤمنون بأن الفيلسوف المسلم هو ابن الطبيعة الفكرية الإسلامية، بيئة علوم القرآن الكريم والحديث – قد اعتاد موقفا من العالم الخارجي مستمدا من توجيهات " الكتاب  الكريم" للعقل الإنساني، يقوم علي احترام حقيقة الموجودات الخارجية في ذاتها، لأنها من خلق الله عز وجل وايجاده، وبالتالي إذا كان المنهج الاستدلالي مستساغاً في علم الكلام، فهو ليس كذلك بالنسبة للمفكر المسلم، وهو يواجه موقف تفسير الوجود حيث يجب أن يكون المنهج هو القائم علي التجربة من أجل تدبر الموجودات في ذاتها، أي : أن يكون استقرائيا، يهدف إلي كشف حقيقة الموجودات عن طريق ما تقدمه له من واقع، ترتبط جزئياته بعضها ببعض، طبقاً لسنة الله التي ليس لها تبديلا، وهي ما سمي فيما بعد بالقانون العلمي.

وهنا تتساءل فوقية حسين، إذا كان الفيلسوف المسلم لا يواجه التراث الدخيل، وهو خلو من الصقل الذهني الراسخ، والوعي المتكامل المتين، لما يجب أن تكون عليه دراسة حقيقة الموجودات من أجل أن يصل بصددها إلي نتائج إيجابية تنتهي إلي التعرف علي الواقع لماذا لم يعزف عن أسلوب اليونان، مرجحا أساليب القرآن، في تناوله لتفسير الواقع ؟ وهو الذي قدم للتراث الإسلامي الكثير من المجهود لدعم الفهم التجريبي للموجودات.

وهنا تقول فوقية حسين: يبدو أن الفيلسوف المسلم الذي عرف جيدا قيمة التجربة، قد عرف أيضاً كيف يفرق بين أسلوبين في مواجهة الموجود: أسلوب تجريبي إسلامي، وأسلوب تأملي يوناني، ويبدو أنه قد سمح لنفسه بالخوض فيما لا يستسيغه تكوينه الأصلي، من أجل المساهمة في عرض ما يعرف بالفلسفة لدي اليونان – وهو المعني الضيق للفلسفة – عرضا يعصم القارئ المسلم العادي من الانزلاق في متاهاتها التي تقوم علي أصول مخالفة للإسلام، فيكون الفيلسوف المسلم بذلك قد ساهم بطريق غير مباشر في خدمة الدين.

من كل ما تقدم تصل فوقية حسين إلي النتيجة التالية : لذلك يحق لنا أن نقول أن المفكر المسلم – متكلما كان أن فيلسوفاً – قد تبين أن الفكر اليوناني، علي ما له من عظمة ودقة كبيرتين، ليس له جدوي من ناحية تفسير الواقع فهو يمسخه ويقضي علي حقيقته، لذلك فهذا المفكر المسلم قد أقبل علي التراث اليوناني، وهو في الوقت ذاته يلفظه بحكم طبيعة تكوينه، أي طبيعة صقله الذهني الإسلامي وكان " الواقع" في هذا كله هو الركيزة التي قامت عليها جهوده من أجل بيان أصالة الفكر الإسلامي، ولقد كان لموقفه هذا كل الأثر في توجيه الأذهان إلي قيمة استقراء الوقع في عينيته، ويصح أن نقول أن ما هر من نهضة علمية أوربية في العصر الحديث ما هو إلا أثر من آثار هذا الموقف الواضح تجاه واقع الأشياء من قبل المفكر المسلم,

وفي نهاية حديثنا عن الأستاذة الدكتورة فوقية حسين محمود لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة للبك الأستاذة الفاضلة التي كانت وما تزال تمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لامرأة لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ؛ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم