شهادات ومذكرات

محمد رجائي الطحلاوي.. المهندس والفيلسوف (2): آراؤه ورؤاه

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن الدكتور جائي الطحلاوي وحديثنا هنا نركز فيه علي آرائه ورؤاه؛ حيث يقول عنه الدكتور حافظ شمس الدين:" من أن معرفتي اللصيقة بالدكتور رجائي الطحلاوى نيفت على الأربعين عاماً، فأتاحت لى هذه المدة أن أعرف الكثير عنه، وكأنني أعرفه منذ زمن لا أحصيه عدداً، فعرفت فيه الفضل والنبل وعرفت فيه الخلق الطيب، ولم أسأل أحداً عنه، لأن الجواب عن هذا السؤال كان حاضرًا راهنًا، فقد أثنوا عليه قبل أن يروه، فلما عايشوه كانت له المكانة التى تسمو به ويسمو بها، إخلاصه لعمله وأساتذته وتلاميذه ناصع نقي، لم تشبه شائبة مما يشوب الإنسان فى المحيط الجامعى".

ولعل الدكتور رجائي الطحلاوى من القلائل الذين لم ينقطعوا عن عملهم طوال حياتهم، ومؤلفاته، سواء كانت علمية أو عن الإدارة الجامعية أو المستقبليات أو الكتب الأدبية التى تختص بسير بعض الأئمة من المسلمين أو أعلام أسيوط أو غيرها من الكتب، كلها تتسم بالعمق واليسر والتيسير، وقد أتيح لى أن أمتع بصرى وأثرى فكرى بقراءات فيها، فظفرت بخير كثير، ثم أعدت النظر فيها من قريب وبإمعان، فصح مني العزم أن أقتطع لها وقتا أعاود فيه هذه المتعة وهذه المتعة الدانية القطوف.

ويؤمن الدكتور الطحلاوى بأن مصر تحتاج إلى سياسة معرفية، خصوصًا وأن العالم ينتقل الآن من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة حيث ستصبح المعرفة هى الأساس الأول فى توليد الثروة.  وإدارة المعرفة هى التحدى الحقيقي للوصول إلى مجتمع المعرفة.  ويضيف بأن أمام مصر مهمتان رئيسيتان؛ المهمة الأولي كيف نقيم بنية تحتية تسمح لنا بالاستيعاب الفاعل للمعرفة المعاصرة، والمهمة الثانية هى قدرة أبناء مصر على الإسهام فى إنتاج المعرفة العالمية.

وعن فلسفته فى الحياة يقول الدكتور حافظ شمس الدين :"... فالدكتور الطحلاوى ذكر لي خلال لقاءاتنا التى لا أتذكر عددها من كثرتها، إنه يؤمن بأن خير الناس أنفعهم للناس، وأن فضيلة الإنسان أن يصنع خيراً  وللشر عنده غواية، وله فى نفسه فتنة، فليس الخير ابتعادًا عن الشر أو عجزًا عنه، بل الخير هو اختيار الحسن مع القدرة علي فعل السئ، ويضيف الدكتور الطحلاوى، إنما فضل الإنسان على غيره من سائر المخلوقات بقدرته علي التمييز بين الخير والشر والنافع والضار، والناس يتمايزون بما تهديهم طبائعهم من عمل فيه خير لهم وصلاح لغيرهم ونفع للبشرية ورقي لها. والعالم الحقيقي هو الذى تقوده معارفه الواسعة المتجددة إلى مناهج جديدة فى البحث والابتكار تؤدى إلى أفكار تنبت من أرض الواقع وتستشرف آمالا مستقبلية واعدة، حتى يتحول الصلاح إلى إصلاح والحكمة إلى حكم والحقيقة إلى حق والعلم إلى عمل، وأردف الدكتور الطحلاوى قائلاً: كم يكشف تبادل الأحرف الثلاثة للعلم والعمل عن سر عبقرية الإنسان حيث استطاع العلم والعمل أن يجعلا من دول كانت تفتقر الوجود على الخريطة، لكنها بفضل العلم تحولت إلى بؤر مضيئة على خريطة العالم المعرفى المتطور، ولنا فى اليابان وماليزيا والهند وتركيا أسوة حسنة.

ويعتقد الدكتور الطحلاوى أن نهضة مصر ستكون على أيدى أبنائها، لأن العالم المصرى إذا توافرت له الظروف المناسبة للإبداع والابتكار وانجذب إلى بئر المعرفة لينهل منه سوف يكون الناتج متميزًا، ولا بد من متابعة العلماء فى أداء بحوثهم حتي تتحرر البحوث من أسر الرؤية الضيقة، كذلك فان تشجيع العلماء يبعث الأمل ويجدد الهواء فى رئة البحث العلمي للعلماء الشبان وهم فى بداية رحلتهم مع الشقاء فى نعيم العلم، أو قد يكون شحذا للهمم عند بعض الباحثين، ممن يتراءى لهم الاسترخاء العلمي والاكتفاء بما أنجزوه فى سنوات سابقة زعمًا بأن العوائق والصعوبات قد تئد روح البحث العلمي فى نفوسهم، وأن تقدير العلم والعلماء فى مصر لا يتفق مع ما يبذلونه من عصارة فكرهم ونور عيونهم وسني عمرهم لكنه بالإصرار والمثابرة والكفاح والجهاد مع النفس، يستطيع علماء مصر أن يهزموا الإخفاقات وأن يجعلوا مسيرة مصر المستقبلية جديرة بالتأمل والاستيعاب، لأنها تغرس فى نفوسنا الأمل فى تحقيق صحوة علمية حضارية أساسها الإنسان المصرى.

يقول الدكتور حافظ شمس الدين:" بالنسبة لى وعلى المستوى الإنساني، فالدكتور محمد رجائي الطحلاوى يجسد الإنسانية بكل ما تعنيه الكلمة، فهو إنسان كالنسيم، تنتشر أريج مودته فى كل موضع يكون فيه وينعم برفقته كل من يعرفه عن كثب، وأشهد وقد صحبته منذ عام 1965 بأن هذه الصحبة الطويلة الحميمة، لم يشبها فى يوم من الأيام ما يكدرها، ولم يعكر صفوها ما يصيب أحوال الناس من فتور وسأم، بل كانت مثالاً لكل ما هو أصيل وحقيقي، كان بيننا سياج شديد الانضباط بلا رتابة من الود والمحبة والإخلاص، تميزه الجدة والرصانة والمبادرة والوداعة والبشاشة، ويسمو به اللسان العف المترفع عن الصغائر والصغار، ولم أر منه إلا ما يوده الصاحب من صاحبه والأخ من أخيه، وهو شخصية جذابة لا تفارقه روح البساطة، وربما الفكاهة التى تسر ولا تحرج، وتنقد ولا تسخر، لأنه يحرص على مشاعر الآخرين، وفى تعامله مع زملائه ورفاقه وأصدقائه الذين يجيلونه فى العمر، يبقي الدكتور رجائي الطحلاوى الأخ الأكبر لهم دائماً، تظلله هالة من المودة والمحبة والتقدير، فحب الناس وحب الخير يجريان فى دمه ... فكيف يخونه دمه؟  إضافة إلى ذلك كله ... وفوق ذلك كله، هو فى تخصصه موسوعة تمشي على قدمين".

وفى ستينيات القرن الماضي، كان الدكتور الطحلاوى مدرسًا فى كلية الهندسة وكان يشرف على ثلاثة معيدين فى قسم الجيولوجيا بكلية العلوم، فى دراساتهم وبحثهم لدرجة الماجستير، وكنا نجتمع جميعاً فى معمله بكلية الهندسة، والمعمل كان البيت الثاني للدكتور الطحلاوى، وقد استطاع أن يجمع تلاميذه وأسرة معمله لتأتلف علي إخاء ومودة وتجتمع على سماحة ومحبة، وكم كانت هذه الأسرة المعملية تتابع العمل حتي ساعة متأخرة من الليل، ثم تفترق على تحية المساء، لتلتقي بعد ساعات على تحية الصباح وذلك حسب قول يقول الدكتور حافظ شمس الدين.

وكان العمل عند الدكتور الطحلاوى لا يستأثر بعقله فحسب، بل كان يستأثر  أيضاً بقلبه وذات نفسه وبآماله وطموحاته، فأفرغ له جهده طوال زهرة شبابه وصبابته وسني كهولته ورحيق حيويته، لذلك كان يثور إذا لاحظ إهمالاً أو تقاعسًا من أحد أعضاء مدرسته البحثية، لأنه كان دائماً ينشد الكمال فى التميز.

كما أنني أستطيع أن أقول مع الدكتور حافظ شمس الدين بأن الدوحة العلمية للدكتور رجائي الطحلاوى تفتحت لتقول إن مصر فى عطاء دائم، معينها لا ينضب من النابهين والعلماء الذين أثروا مناحي الحياة ببحوثهم وإبداعاتهم وإنجازاتهم التى تدعو إلى الفخر بهم والاعتزاز بأنهم نبتوا من أرض مصر المحروسة وحفروا لوطنهم بجهدهم وانتمائهم مكانة دائمة فى ركب من يسعي إلى التميز والنبوغ.  لذلك تعتز مصر بهؤلاء العلماء النابهين وتباهي بهم، والدكتور محمد رجائي جودة الطحلاوى – بالتأكيد – هو واحد من ألمعهم، فهو مثل وقدوة لعلماء مصر وشبابها..

وثمة نقطة مهمة وجديرة بالإشارة أود ن أشير إليها وهي أن الطحلاوي قد شهد له الكثيرون بأنه يجمع بين صفات المهندس والفيلسوف معا، ومن هؤلاء الدكتور سليمان جزين الذي قال عنه بأن الأستاذ الدكتور محمد رجائي الطحلاوي كانت له بصماته الخاصة فى هذا المجال منذ بداية ولايته وحتى قبل ذلك حين كان أستاذًا وعميدًا لكلية الهندسة بأسيوط.  فهو قد انتشر بمادته العلمية ليعاون بعض المعاهد خارج أسيوط وإلى الجنوب منها بالذات ونحن نعلم أنه قد مد عباءة عمله الجامعى والتعليمي والتدريبي إلى معهد مصانع نجع حمادى للألمونيوم خلال فترة من الزمن قبل ولايته للجامعة، وهو قد مد عونه ومساهمته وإشرافه إلى فروع الجامعة فى سوهاج وقنا وأسوان دون أن ينتقص ذلك من جهده الكبير والموفور فى النهوض بأعباء الجامعة فى أسيوط ذاتها.  ولقد ساهم بذلك كله فى أن يحقق لجامعة أسيوط أن تصبح بحق، وكما رسم لها من البداية، أن تصبح "جامعة الصعيد" بل الجامعة الأم بالنسبة لجامعات الصعيد كله. وهو فوق ذلك لم يبخل فى أن يمد يد الجامعة لتعاون بعض الجامعات فى الشمال، لاسيما معهد التكنولوجيا والهندسة فى بنها وهو معهد جديد تابع للوزارة وقد أنجزته جامعة أسيوط بعد أن كاد العمل أن يتعثر فيه بعد إنشائه وخلال مرحلة بداياته الأولى.

وفضلاً عن ذلك فإن رجائي الطحلاوي قد شق طريق الجامعة إلى عدد من المبادئ والاعتبارات الأخرى التى أثرى بها عمل جامعة أسيوط، ومنها كما يقول سليمان حزين :

1- التوسع فى تطبيق نظام المستشارين العلميين لرئيس الجامعة فى شئون العلم والبحوث التطبيقية والتجديد فى العمل الجامعى الذى يثرى الحياة الجامعية التى تزداد تشعبًا واتساعًا فى كل يوم.  وهذا العمل يقلل من تركيز العمل ويخفف الضغط على رئيس الجامعة الذى تشعبت مهامه وواجباته فى السنوات الأخيرة.  وهو أمر فى صالح الجامعة وإداراتها من جهة، وفى صالح تدريب المعاونين من أعضاء هيئة التدريس وتأهيلهم لتولى واجبات أوسع نطاقًٍا فى سلم العمل الجامعى.

2- التوسع فى نطاق "مستقبليات" العمل الجامعى والقومي.  ولاشك أن هذا هو الاتجاه الحديث فى عمل الجامعات ومهامها على المستويين القومى والإقليمي بل والعالمي.

3- المزيد من الربط بين الجامعة والمجتمع وإنشاء المزيد من الوحدات "ذات الطابع الخاص" فى العمل الجامعى، والسعى إلى المزيد من الربط بين الجامعة وأدوات التحكم المحلى وأجهزته – وهذا اتجاه له قيمته بالنسبة لعمل الجامعة وزيادة فعاليتها فى خدمة الأهداف المحلية والإقليمية بل والقومية العامة.

4- إحياء مشروع جوائز البحث العلمى فى الجامعة وبين أعضاء هيئة التدريس بصفة خاصة. وهو مشروع كان أول مدير منشئ للجامعة قد أنشأه بتبرعات من داخل الجامعة (من الأساتذة الزائرين الأجانب) ومن خارجها، حتى بلغت التبرعات فى عام 1964 نحو 000ر21 جنيه مصرى (وهو مبلغ غير قليل بالنسبة لذلك الوقت) ولكن المشروع بقى معطلاً حتى جاء رئيس الجامعة الحالى فأحياه من جديد.

4- تطوير المكتبة المركزية ومكتبات الأقسام العلمية والتوسع فى المطبعة وتحديثها وتجديد نشاط النشر العلمى حتى أصبحت الجامعة معتمدة على مواردها وأجهزتها الخاصة وهو أمر كانت إقامته صعبة فى بلد بقلب الصعيد مثل أسيوط.

تلك هى العلامات الأساسية التى أشرف بها عمل الطحلاوي منذ بدء ولايته فى عام 1991 وهنا يعقب سليمان حزين فيقول: وإننا لنتمني مخلصين له وللجامعة اطراد مسيرتها الموفقة على طريق التقدم والازدهار خدمة لصعيد مصر وتمكينًا لفلسفة العمل".

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الدكتور محمد رجائي الطحلاوي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ والمهندس والفيلسوف، فتحية طيبة للدكتور الطحلاوي ، الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

بارك الله لنا في الدكتور رجائي الطحلاوي قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره مهندسا وفيلسوفا، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم