شهادات ومذكرات

محمد عمارة .. خطاب عقل بين دفتي الفكر (1)

محمود محمد عليفي مساء يوم الجمعة الماضية الموافق 28 فبراير عام 2020 غيّب الموت العالم الكبير الدكتور محمد عمارة عن عمر يناهز 89 سنة تاركاً سمعة وسيرة عطرة ستخلّده في قلوب من عرفوه، حيث أعلن ابنه عن وفاته بعد فترة من المرض لمدة ثلاثة أسابيع، وأضاف: "توفى أبى رحمه الله فى هدوء وبدون أى ألم أو معاناة، يحيط به أسرته الصغيرة ويدعو لأمى ولكل أولاده وأحفاده وأحبابه، وقال لكل واحد منهم: أحبك.. وأنا راضٍ عنك"، وتابع: "توفى أبى رحمه الله وهو يوصى بإكمال مشاريعه الفكرية وكتبه وأبحاثه". وأُقيمت عليه صلاة الجنازة بعد ظهر يوم السبت التالي بمسجد الحمد بالتجمع الخامس بعد صلاة الظهر، ثم وُري الثرى في بلدته "صروة" بمحافظة كفر الشيخ.

وقد نعت مشيخة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر وفاة عمارة، وقال الأزهر في بيان له يوم السبت الماضي الموافق 29/2/2020 : "أن رحيل الدكتور محمد عمارة ترك فراغًا يصعب ملؤه في صفوف كبار العلماء الذين يحملون على عاتقهم أمانة العلم، وصدق الكلمة."، وأن التاريخ سيظل يذكر فقيد الأزهر والأمة العربية والإسلامية بعلمه وفكره الوسطي في تبليغ رسالة الله والدفاع عن سماحة الإسلام ووسطيته وإعلاء شأنه، ودحض ما أثير عنه من شبهات، تشهد على ذلك مصنفاته المملوءة علمًا وحكمةً ومعرفةً، وإسهاماته الكبرى في إثراء الفكر الإسلامي، والتي ملأت الدنيا وغطت كل القضايا الفكرية العامة والمعاصرة، ومحاضراته التي أفاد منها الآلاف من طلاب العلم في العالم الإسلامي. وأعرب الأزهر عن حزنه وألمه لرحيل المفكر الكبير، فإنه يتقدم بخالص العزاء للعالم الإسلامي، ولأسرة الراحل، سائلًا الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان "إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ.

وقد مر الدكتور محمد عمارة بتحولات فكرية عديدة، فيقول أكرم ذياب وقد نشر بحثا موسعا للرد على أفكار عمارة أن الأخير عاش سلسلة من التحولات الفكرية، وقد مر بأطوار من الماركسية إلى الاعتزال فالسلفية إلى غير ذلك ويقول الدكتور محمد عباس: «إن محمد عمارة هو واحد من كوكبة لامعة صادقة هداها الله فانتقلت من الفكر الماركسي إلى الإسلام، وكانت هذه الكوكبة هي ألمع وجوه اليسار فأصبحت ألمع وجوه التيار الإسلامي، ودليلا على أن خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام.»

وينتمي محمد عمارة إلى المدرسة الوسطية ويدعو إليها، فيقول عنها إنها "الوسطية الجامعة" التي تجمع بين عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة فتكوّن موقفا جديدا مغايرا للقطبين المختلفين ولكن المغايرة ليست تامة، فالعقلانية الإسلامية تجمع بين العقل والنقل، والإيمان الإسلامي يجمع بين الإيمان بعالم الغيب والإيمان بعالم الشهادة، والوسطية الإسلامية تعني ضرورة وضوح الرؤية باعتبار ذلك خصيصة مهمة من خصائص الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي، بل هي منظار للرؤية وبدونه لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام، وكأنها العدسة اللامعة للنظام الإسلامي والفكرية الإسلامية. والفقه الإسلامي وتطبيقاته فقه وسطي يجمع بين الشرعية الثابتة والواقع المتغير أو يجمع بين فقه الأحكام وبين فقه الواقع، ومن هنا فإن الله جعل وسطيتنا جعلا إلهيا: ﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.

والمفكر الإسلامي محمد عمارة من مواليد 8 ديسمبر 1931 بإحدى قري محافظة كفر الشيخ، لأسرة بسيطة، ليكون الكتاب هو مدرسته الأولي، وأتم حفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز العاشرة، بقرية قلين بكفر الشيخ، حفظ القرآن وجوده وهو في كتاب القرية، بدأت تنمو اهتماماته الوطنية والعربية وهو صغير، وكان أول مقال نشرته له صحيفة «مصر الفتاة» بعنوان: «جهاد عن فلسطين».

وبدأت مسيرة عمارة في الفكرية مع أوائل السبعينيات ؛ حيث التحق عام 1945 المعهد الأزهري؛ حيث أتم تعليمه الابتدائي والثانوي ليدخل بعدها المعهد الأحمدي الثانوي الأزهري فنال الشهادة التي دخلتها كلية دار العلوم جامعة القاهرة، حيث تخصص في الفلسفة الإسلامية واللغة العربية، وبعد ذلك حصل على الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية - كلية دار العلوم - جامعة القاهرة 1965م، ثم حصل على الماجستير في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية - كلية دار العلوم-جامعة القاهرة 1970م وذلك في موضوع بعنوان " مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة"، وبعد ذلك درس الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية - كلية دار العلوم-جامعة القاهرة 1975؛ كما شغل عدة مناصب منها عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ورئيس تحرير لمجلة الأزهر، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف.

كما حصل عمارة على العديد من الجوائز والأوسمة والشهادات التقديرية والدروع، منها "جائزة جمعية أصدقاء الكتاب، بلبنان سنة 1972م"، وجائزة الدولة التشجيعية بمصر سنة 1976، ووسام التيار الفكري الإسلامي القائد المؤسس سنة 1998م.

ولمحمد عمارة كتابات كثير، حيث - ألف الكتب والدراسات عن أعلام التجديد الإسلامي مثل: الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، والشيخ محمد الغزالي، ورشيد رضا، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، ومن أعلام الصحابة علي بن أبي طالب، كما كتب عن تيارات الفكر الإسلامي القديمة والحديثة وعن أعلام التراث من مثل غيلان الدمشقي، والحسن البصري.

كما توجد له كتابات أخري، مثل: التفسير الماركسي للإسلام، والمعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، ومعالم المنهج الإسلامي، والإسلام والمستقبل، ونهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، ومعارك العرب ضد الغزاة، والغارة الجديدة على الإسلام، والوعي بالتاريخ وصناعة التاريخ، والتراث والمستقبل، والإسلام والتعددية، والإبداع الفكري والخصوصية الحضارية، والجامعة الإسلامية والفكرة القومية، ومعركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، والقدس الشريف رمز الصراع وبوابة الانتصار، وهذا إسلامنا: خلاصات الأفكار، والصحوة الإسلامية في عيون غربية، والغرب والإسلام، والانتماء الثقافي، والتعددية: الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية، وصراع القيم بين الغرب والإسلام، والنموذج الثقافي، وتجديد الدنيا بتجديد الدين، والثوابت والمتغيرات في فكر اليقظة الإسلامية الحديثة، ونقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، والحملة الفرنسية في الميزان، والحضارات العالمية: تدافع أم صراع، والقدس بين اليهودية والإسلام، والأقليات الدينية والقومية: تنوع ووحدة أم تفتيت واختراق، وخطر العولمة على الهوية الثقافية،و مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية... الخ.

من أواخر مؤلفاته في الفكر الحديث: "الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديل الأمريكاني"، «الغرب والإسلام _أين الخطأ.. وأين الصواب؟»، «مقالات الغلو الديني واللاديني»، "الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية"، "مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية"، "أزمة الفكر الإسلامي الحديث"،" والإبداع الفكري والخصوصية الحضارية"، وغيرها كثير، وقد اتسمت كتابات الدكتور عمارة وأبحاثه التي أثرى بها المكتبة العربية والتي وصلت إلى 200 مؤلف بوجهات نظر تجديدية وإحيائية، والإسهام في المشكلات الفكرية، ومحاولة تقديم مشروع حضاري نهضوي للأمة العربية والإسلامية في المرحلة التي تعيش فيها.

علاوة علي أنه أسهم في العديد من الدوريات الفكرية المتخصصة، وشارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية، ونال عضوية عدد من المؤسسات الفكرية والبحثية منها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والمعهد العالي للفكر الإسلامي.

ومن بين القضايا الهامة التي تعرض لها عمارة، كانت قضية تحرير المرأة، والتي قدم دراسةً في هذا الصدد طرح فيها القضية من منظور قاسم أمين-رائد حركة تحرير المرأة- والتي نشرت بعنوان: "قاسم أمين تحرير المرأة والتمدن الإسلامي"، وصدرت عن "دار الشروق" في 2008. وفي هذا الكتاب يتطرق الدكتور محمد عمارة بأسلوب علمي جذاب، وتحليل وافٍ لجميع النواحي الفكرية التي مر بها المفكر الإصلاحي قاسم أمين، كما يتطرق إلى شخصيته التي مازالت تثير الجدل حولها إلى وقتنا الراهن، برغم كل ما وصلت إليه المرأة من مراكز وما نالته من حقوق.

ويُعد الكتاب تقديما للأفكار التي كان ينادي بها المفكر قاسم أمين، ومنها رؤيته للمجتمع والمرأة، ونقده للمجتمع الإقطاعي، ودعوته إلى حرية الفكر وإبداء الرأي، وكذلك انتقاده للتهافت على الوظائف الحكومية في تلك الفترة، واعتبارها وظائف تنشر التواكل والكسل، وكيف كان يطالب بمجلس نيابي منتخب من الشعب، وكل هذه المطالب في وقتًا كان الحديث عنها من المستحيلات ؛ كما يتطرق إلى جانب من مذكرات قاسم أمين، وبعضًا من أقوال وكلماته التي دونها قاسم أمين، ليدلل بها عن فكره بالإضافة إلى عرض العديد من أقواله، كما دونها قاسم أمين في مؤلفاته الثلاثة، ويعود عمارة في الكتاب ليؤكد ريادة قاسم أمين في الدعوة إلى تحرير المرأة وبأنه صاحب أول صيحة لهذا التحرر، من خلال في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، مشيرًا إلى أنه كان مفكر يحارب الأفكار البالية في المجتمع، في هذا الكتاب يرد "عمارة" الاعتبار لقاسم أمين، المفكر الفصيح النهضوي السابق لزمانه الذي طالب بحريه المرأة وبحقها في التعلم والعيش بكرامة واستقلالية، ولم يطالب بتحررها الكامل المنفلت أو انحلالها.

ينتمي المفكر إلى المدرسة الوسطية ويدعو إليها، فيقول عنها إنها "الوسطية الجامعة" التي تجمع بين عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة فتكوّن موقفا جديدا مغايرا للقطبين المختلفين ولكن المغايرة ليست تامة، فالعقلانية الإسلامية تجمع بين العقل والنقل، والإيمان الإسلامي يجمع بين الإيمان بعالم الغيب والإيمان بعالم الشهادة، والوسطية الإسلامية تعني ضرورة وضوح الرؤية باعتبار ذلك خصيصة مهمة من خصائص الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

 

في المثقف اليوم