شهادات ومذكرات

أمين الخولي.. بين سلبية التقليد وإبداعية التجديد (1)

محمود محمد علييعد الدكتور أمين الخولي (1313-1385هـ-1895-1966م) واحداً من أهم وأشهر المفكرين المصريين المعاصرين الذين أرسوا دعائم منهج التجديد والاستنارة، فهو أول من رفع شعاره الشهير والسديد "أول التجديد قتل القديم فهما وبحثا ودراسة، أما إذا مضى المجدد برغبة فى التجديد مبهمة، وتقدم بجهالة للماضي وغفلة عنه، يهدم ويحطم، فذلكم - وقيتم شره - تبديد لا تجديد"، وهذا ما جعله يجتهد وفق اجتهاد عصره ويهتم بجملة من القضايا الدينية المعاصرة ليصبح إمام المجددين.. ولقد كان رحمة الله ظاهر الرجولة، بارز الشخصية في آرائه، معتدا بها معتزا بنفسه وبامتيازه في فكره وعلمه، رصين الأسلوب قوي الحجة، متصل الجدل لا يهين لطوله ولا اللدود في خصمه .

كان أمين الخولي (مع حفظ الألقاب) عظيما في كل شئ : في عقله، وفي رهافة حسه، وفي شجاعته، وفي اعتداده بكرامته، وفي عزة نفسه .. كان رجلا منفتح الفكر يؤمن بكرامة العقل الإنساني، ويثق في قدرته علي اختراق الحجب . وكان أبي النفس، شامخ الهامة، لم يتزلق قط إلي أدني بادرة يشتم منها التزلف، أو حتي التقرب إلي أحد .. خاض أقرانه معارك السياسة، وتلونوا ما شاء لهم الهوي، ولكن الأستاذ ظل عزيز النفس، مؤمنا بمصر وحدها، يترفع عن الاشتراك في مهاترات الأحزاب، ويوجه للشباب منذ أكثر من ربع قرن نداءه الحكيم: "أيها الشباب آمن بالوطن واكفر بالسياسة ".. وكان صلب الرأي يؤمن بالمبادئ لا بالشخاص، لا تفلح قوة - كائنة ما كانت – في زحزحته عما كان يؤمن به .. وكان الأستاذ علي صلابته إنساناً عظيما حقا، يوحي إليك شعور الأبوة الحانية الحازمة في آن واحد .. كان كريما جوادا بشهادة كل تلاميذه، واسع العقل .. وكان أكثر أبناء جيله حدباً علي الشباب وعناية بهم، يفتح لهم صدر مجلته " الأدب"، ولكنه لا يتواني عن أخذهم بالشدة كلما لمس منهم تهاوناً أو فتوراً .. وكان حكيماً قوي العقل، ولا يضطرب لأحداث الحياة، ولا يفلت منه زمامه قط .. وكان شخصيته مزاجاً فريداً من القوة والرحمة .. كان متعدد الجوانب، واسع الثقافة .

كما كان أمين الخولي أديب من كبار حماة اللغة العربية، ومصريا أصيلاً معادياً للاحتلال الإنجليزي مطالبا باستقلال الوطن ومؤمناً بوحدة الشعب العظيم، وابناً باراً للثورة الشعبية الكبرى 1919.. ونُفي مع سعد زغلول إلى سيشل..عُرف بزيه الأزهري المميز، ووقاره المهيب، وبريق عينيه وملامحه المتفردة... وقال عند "الدكتور لويس عوض": (كل من جلس بين يديه يتلقى العلم عليه ارتبط به المسحور بالساحر.. من عرفه لا يمكن أن ينساه). كان أمين الخولي يؤمن إيماناًً عميقاً بالشباب، ويؤمن أنهم أصحاب الغد، فدعاهم إلى إيجاد القادة الصادقين . وعاش يفكر في الغد لا في الأمس.. يدفع أبناءه ومريديه إلى العيش في المستقبل برأيهم لا برأي يملى عليهم أو يستوردونه من بلد آخر.. كان من أجهر الدعاة إلى الحرية الفكرية .. ويرى الحرية وسيلة الحياة الكريمة. لقد أخذ منهاجه في أستاذيته عن "عاطف بركات" من المحدثين وعن "الإمام الشافعي" من المجددين القدامى. وكان الأساس النظري عنده في الرأي والرأي الآخر: (أن الاختلاف في الآراء والتقاتل على المبادئ من نواميس الحياة على الأرض، وليس ظاهرة تحلل ولا إشار فساد)، وكان يؤمن بوحدة أصل البشرية. وبجودة المصير الإنساني، فلا يصح تداعي بعض الناس في مختلف الأسر بأفضلية تميز، وأجمل زميله وصديقه "أبو الفرج السنهوري" صـفاته التي تميز بها هذا الأستاذ" (جبار العقل، عميق الفكر، حلو المنطق، قوي الحجة، رصين الكلام، غزير العلم في أدب عظيم).

وكتب عنه تلميذه الشاعر "صلاح عبد الصبور": "كان أكثر ما يؤلمه أثناء الدرس أن يجد طلابه يسلمون برأيه، لا يجادله أحد فيهم، عندئذ تنقطع الدائرة وتخبو النار. أما إذا إرتقت العقول، وإصطرع الرأي بالحجة، عندئذ ينفجر وجه الخولي المقطب، ويشتد لمعان عينيه، وتفيض الفتوة العقلية والذهنية من مكامنها وتتألق الحكمة".

وقد ولد أمين الخولي في الأول من مايو سنة 1865م في قرية شوشاي في مركز أشمون بمحافظة المنوفية، ثم دخل مدرسة لافيسوني في القاهرة ثم مدرسة المحروسة. حفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره. وتخرج من مدرسة القضاء الشرعي تزوج الدكتورة عائشة عبد الرحمن وأنجب منها 3 أبناء. وقد الخولي عين مدرساً في مدرسة القضاء الشرعي في 10 مايو عام 1920 م، وفي 1923، ثم عين إماماً للسفارة المصرية في روما، ثم نقل إلى مفوضية مصر في برلين عام 1926، وبعد ذلك عاد عام 1927إلى وظيفته في القضاء الشرعي، وعلي إثر ذلك انتقل إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب 1928، وأصبح بعد ذلك رئيسا لقسم اللغة العربية، ثم وكيلا لكلية الآداب في 1946، ثم عين عام 1953 مستشارا لدار الكتب، كما عمل مديراً عاما للثقافة حتى خرج إلى المعاش أول مايو 1955م، وقد كتب في عديد من الصحف والمجلات وأصدر العديد من الدراسات والأعمال الإبداعية، ثم أسس جماعة الأمناء عام 1944، ومجلة الأدب عام 1956، وقد اختير عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1966.. إلي أن توفاه الله في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الأربعاء التاسع من مارس عام 1966 ودفن في قريته شوشاي. وتقول الكاتبة تلميذته وزوجته د. بنت الشاطئ:«على عيني اقتحم ناس غرباء مخدعه لتجهيز جسده للرحلة الأخيرة...».

لقد رحل عنا أمين الخولي بعد أن فتح لنا ميادين الأدب والبلاغة واللغة والتفسير مجالات عديدة ملآها بما كان له فيها من فكر مبتكر، ورأي محكم، وبيان رصين، مما اقتضاه عملاً دائباً، ودعوة مدوية في تأليف متتابع وبحوث متساندة، ضمنها كثيرا من آرائه في اللغة والأدب والنحو والتفسير، وهي آراء تشهد له بسمو الموهبة وعمق التكفير وسلامة الوزن ورائع البيان ؛ مما جعله إماما من أئمة نهضتنا الأدبية الحديثة – التي يراد بناؤها علي ما في القديم وخير ما جاءت به الحضارة والمعرفة من جديد – ورائدا في الدراسة المنهجية الفكرية التي هدي إليها في دروسه وأيدها بخبرته وبيانه ومقاييسه، وكان ذلك فيما نشره علي الناس في المجلات المختلفة، وفيما أخرجه من رسائل قيمه  وذلك حسب  قول ما الأستاذ الشيخ علي الخفيف بمجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1969 .

اشتهر أمين الخولي بقلة كتاباته رغم أهميتها البالغة،منهجيا وفكريا ومعرفيا، وكان يقول أنه مثل سقراط ومعرفيا، وكان يقول أنه مثل سقراط يفضل أن يعيش في تلاميذه وليس في كتبه . ومن أهم مؤلفاته في الأدب واللغة والمنهج :" اللاغة وعلم النفس" عام 1939، و"علم النفس الأدبي " عام 1944،و" وهذا النحو " عام 1934م، و"رأي في أبي العلاء" عام 1944م، و" فن القول عام 1946، و" مشكلات حياتنا اللغوية " عام 1958، و" مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب"، ومالك بن أنس عام 1951 في ثلاثة مجلدات، وأصدر ملخصاً عام 1962 بعنوان " مالك، تجارب حياة" مع مقدمة جديدة انتقد فيها طريقة عباس العقاد في كتابه سير حياة أو تراجم الأعلام، و" المجددون في الإسلام" عام 1965. وفيه كتب عن خلفاء: كعمر بن العزيز وأئمة الفقهاء (كالشافعي الإمام)، وكتبه الثلاثة في التفسير تحت عنوان :" من هدي القرآن"، وهي : " في أموالهم" ثم " في الحكم" ثم " القادة والرسل" عام 1952.

كما أن له عدداً من المسرحيات، إذ كان مهتما بفن المسرح، وأكد أنه فن يكتمل بالعرض المسرحي، وليس نوعا أدبيا وأنه فن يعتمد علي: مقارعة الحجة بالحجة وعلي حوار الأفكار . إضافة إلي عشرات من الأبحاث في مختلف مجالات اهتمامه العلمية والفكرية . وكتب تسعة مقالات بالغة الأهمية في الطبعة العربية من دائرة المعارف الإسلامية، هي مقالات عن مواد :" بلاغة " و" التفسير" و" سلام" و"سيرة " و"شريعة" و" صالح و" صحيح " و" طرق". ورغم أن أمين الخولى لم يكتب "فلسفته" أو منهجه النظري العام الذي تطور عنده على طول حياته العلمية والعملية الحافلة، فإنه يمكن استخلاص الركائز والعلامات الرئيسية لهذا المنهج النظري الذي أثر من خلاله علي من جاء بعده .

ومن أهم كتابات أمين الخولى والتي نعول عليه بشده هنا كتابه: (المجددون فى الإسلام)، وهو الكتاب الذى يعيد فيه قراءة تاريخ المجددين في الإسلام والذى بدأ مبكرا منذ حوالى القرن الثالث الهجرى، وقد أصدر هذا  الكتاب لعدة أسباب منها: أنه لم تعد فكرة التجديد بدعا من الأمر يختلف الناس حوله فتخسر الحياة ضحايا من الأشخاص والأعراض والأوقات مما ينبغى أن تدخره هذه الحياة لتفيد منه فى ميادين نشاطها، ولا تضيع الوقت والجهد فى مهاترات تُسخف كل محاولة جادة لدفع الحياة الدينية أو الحياة الاجتماعية إلى ما لابد لها منه من سير، وتقدم، وتطور، ووفاء بما يجد من حاجات الأفراد والجماعات»، والسبب الثانى  هو إحياء نص من هذا التراث وعرضا للون من تفكير أصحابه، وتناولهم للقضايا الحيوية، وتعبيرهم عنها فى تلك  العصور على نحو ما عُرض فى كتاب السيوطى فى القرن العاشر الهجرى، وكتاب المراغى وهو أحدث (ق 13هـ) والكتابان هما (التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل  مائة)  للسيوطى (911 هـ)، وكتاب (بغية  المقتدين، ومنحة المجدين على تحفة المهتدين) للمراغى الجرجاوى (ق13 هـ).

وقد كان أمين الخولى يريد من هذا الكتاب أن يدع أصحاب هذا التراث المؤمن بالتجديد يتحدثون هم أنفسهم عن التجديد الدينى، يصفونه، ويسلسلون روايته، ويعينون أصحاب التجديد على رءوس المئات خلال الأربعة عشر قرنا التى عاشها الإسلام حتى اليوم قائلا : (وإذا ما أسس السلف لفكرة التجديد وسموا رجاله، حق لنا أن نكمل الفكرة فى التجديد فنلتمس من تفكير المفكرين فيهم ما نرى فيه من أضواء يبعثها الماضى فيضىء  بها طريق المستقبل).

وكانت ترجمة الخولى لهؤلاء المجددين فيها تتبع خاص لأعمالهم فى التجديد فإذا كان المجدد حاكما كعمر بن عبدالعزيز مثلا، كانت العناية فى ترجمته بالأعمال التى فهم بها الإسلام، وفسره، وإذا كان المجدد عالما كالشافعي والغزالي مثلا كانت العناية فى ترجمته بالأفكار التى أبداها فى فهم الإسلام وتفسيره، ويؤكد الخولي: (أننا واجدون فى تصرفات المجددين وتفكيرهم ما لم تصل إليه الحياة اليوم، أو قل ما لم تجرؤ عليه لأن المقلدين قد ألقوا بجمودهم فى الفهم والتصرف ضبابا أو ظلاما أخفى حقيقته، وحجبه عن الأنظار فلم يُعرف، ولم يشتهر)

ولم يكتف بذلك بل قال الخولى في دعوته التجديدية للدين: «ملك النفس شعور الحياة بالحاجة الماسة الملحة إلى تجديد تطوري يفهم به الإسلام، الذي يقرر لنفسه الخلود والبقاء فهمًا حيًا يتخلص من كل ما يعرض هذا البقاء للخطر ويعوق الخلود إذا ما صح العزم على هذا الفهم الجديد الذي مضت سنوات في تقرير أصوله وأسسه درسًا وتعليمًا وتدوينًا، ولابد أن نحرص على سلامة هذا الفهم وبقائه ونجاته كذلك من تلك المهاترات وما تحدثه من خسائر تكبدتها الحياة في كثير من خطوات سيرها، التي لا مفر لها منه ما دامت حياة".

ويستطرد الخولى فيقول: «وما يحسنُ اليوم أن يكثر الحديث فى الزكاة والصوم عن الفقراء، والبر بهم، وإدخال السرور على أنفسهم، وصونهم عن الاستجداء يوم العيد لأن ما يؤدى لهم إنما هو حق، وحق معلوم بتعبير القرآن الكريم، والجهد مبذول فى أداء حقوقهم لا فى إغنائهم عن التسول يومًا أو بعض يوم فقط».

وتطوير المعاملات يقول الخولي: " والأمر فى المعاملات على كل حال ليس إلا أمر مصلحة واقعة حيث وجدت فثم حكم الله كما يقولون بصريح اللفظ، وتطور عرض العقائد والعبادات والمعاملات يهدف إلى أن لا يبدو الجو الدينى فى صور منعزلة عن الحياة فليجتهد رجال الأديان فى كل مكان فى سبيل المشاركة العلمية والعملية فى الحياة مع الاحتفاظ بالطابع الدينى، والحظ الكامل من الثقافة الدينية دون أن يجور شيء من الثقافات الأخرى على ما يجب تحصيله من ثقافات دينية بحتة، فى بيئة مخلصة لذلك، والتماس ما قد يصيب رجال الدين من ثقافة علمية فى بيئة علمية مخلصة لذلك" .

وفى أحد كتبه، قال «أردت أن أدع أصحاب هذا التراث المؤمن بالتجديد يتحدثون هم أنفسهم عن التجديد الدينى، فإذا حدث أصحاب القديم عن التجديد حديثهم الذي ترى نصوصه وبدأ حديثهم عن التجديد هذا مبكرًا منذ نحو القرن الثالث الهجري، لم يبق بعد ذلك مقال لقائل ولا اعتراض لمعترض ولم تعد فكرة التجديد بدعًا من الأمر يختلف الناس حوله فتخسر الحياة ضحايا من الأشخاص والأعراض والأوقات مما ينبغى أن تدخره هذه الحياة لتفيد منه في ميادين نشاطها ولا تضيع الوقت والجهد في تلك المهاترات التي تكثر وتسخف حول كل محاولة جادة لدفع الحياة الدينية أو الحياة الاجتماعية إلى ما لابد لها منه من سير وتقدم وتطور ووفاء بما يجد دائمًا من حاجات الأفراد والجماعات».

كذلك استند الخولى في كتابه «المجددون في الإسلام» إلى نماذج إسلامية قديمة قامت بالتجديد، منها الخليفة عمر بن عبد العزيز، والإمام الشافعي، وأبو الحسن الأشعري، وابن سريج، والباقلاني، وغيرهم من المجددين القدامى، الذين كانوا من منارات الإسلام التجديدي وذلك حسب ما ذكرته د. زكي بدر في مقالها عن أمين الخولي الذي نشر بجريدة روزرا يوسف بعنوان أمين الخولى وتجديد الفكر الدينى.. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم