شهادات ومذكرات

مع سائق روسي في موسكو

ضياء نافعقلت له مبتسما، اني نادرا ما التقي بسائق روسي في سيارات الاجرة بموسكو، اذ ان معظمهم يكونون عادة من الشعوب السوفيتية سابقا، فقال لي، نعم، ان الامر فعلا كما تقول، وانا سائق (طارئ!!) على هذه المهنة، وهكذا بدأنا ندردش مع بعضنا. حكي لي هذا السائق الروسي قصته التي تعكس بلا شك وضعا خاصا في روسيا الاتحادية اليوم، ونحن في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. وتبين من حديثه هذا، انه خريج كليّة الادارة في احدى الجامعات الروسية، وكان موظفا حسب اختصاصه وتحصيله الجامعي، ولكن الراتب في دائرته لم يكن يكفي بتاتا لمتطلبات الحياة، فاضطر ان يترك الوظيفة، و بدأ يبحث عن وظيفة اخرى أفضل، لكنه لم يجد عملا ملائما كما كان يرغب، فقرر ان يصبح سائقا لسيارة اجرة . سألته، ألم يندم بعدئذ على هذا القرار، فقال لي - الان احصل على دخل اعلى (رغم انني مضطر ان اعمل طوال الوقت كي اكسب عيشي)، لكنني واقعيا نادم طبعا على كل ذلك، واحاول دائما ان أجد بديلا لعملي هذا، ولكن الابواب مغلقة مع الاسف امامي في مجتمعنا المعاصر، ولا اريد ان أترك روسيا واهاجر الى الخارج كما يقولون لي وكما فعل الكثيرون من زملائي .

 ثم بدأ يحدثني عن معاناته في مسيرة الحياة، واخبرني، انه وزوجته يعملان طوال الوقت من اجل تسديد ايجار الشقة ومصاريف الحياة ليس الا، وانهما بالكاد يستطيعان تدبير الامور، وان متطلبات الحياة تتوسع أكثروأكثر، فسألته، هل هذه المتطلبات تتوسع بشكل سريع، بحيث تجبركما على الصرف أكثر من المعتاد، فقال، نعم، اذ بدأت ابنتنا الدراسة في المدرسة المتوسطة، وهذا يقتضي ان يكون لها عدة مدرسين خصوصيين بمواد متنوعة، وكل واحد من هؤلاء المدرسين يكلف الكثير، وان المدرسة لا تقوم بتدريسهم كما يجب، فالمدرس هناك يستلم ايضا راتب لا يكفي لحياته الاعتيادية، لذلك فانه لا يقوم بواجبه كما ينبغي، من اجل ان يجبر التلاميذ على الذهاب الى التدريس الخصوصي، وان جميع تلاميذ المدرسة واقعيا يدرسون عند مدرسين خصوصيين . قلت له، ان هذه مشاكل موجودة بشكل عام في الكثير من بلدان العالم، فاعترض رأسا على كلامي وبشدة، وقال، ان روسيا دولة كبيرة وعملاقة وغنيّة جدا بمواردها، ويجب الا تكون فيها مثل هذه الظواهر الموجودة في بلدان ضعيفة التطور، وان اسلوب المقارنة مع هذه البلدان هو مفهوم عتيق، وقد ملّ الناس منه، ولا نتقبله الان بتاتا ولا نعتبره منطقيا بتاتا، واننا يجب ان نقارن روسيا مع دول متطورة لا توجد فيها مثل هذه الظواهر السلبية، وقال بأسى – في تلك البلدان المتطورة، يحقق اللاجئون الروس نجاحات علمية هائلة، وهم يعملون في أرقى الجامعات والمؤسسات العلمية هناك، وقد حصل قسم منهم على جوائز متميّزة، منها حتى جائزة نوبل، ولكنهم كانوا في بلدهم روسيا منسيين تقريبا، ولم يهتم أحد بهم ويساندهم من اجل اظهار امكانياتهم العلمية وتوظيفها لتطوير روسيا.

 ساد الصمت بيننا قليلا بعد هذه الاحاديث التراجيدية ان صح التعبير، ثم قطعته أنا و قلت له، انك تتحدث عن قضايا كبيرة وكأنك سياسي معارض ومحترف، وانني لم اقابل سابقا سائقا يتحدث مثلك وبهذا المستوى عن قضايا مصيرية وجوهرية عميقة حول مسيرة الحياة في روسيا المعاصرة، فقال لي، انه لا ينتمي الى اي حزب سياسي لأن الانتماء الى اي حزب سياسي يلغي السمات الشخصية للفرد ويجب عليه ان يخضع لارادة ذلك الحزب واهدافه، ولكنه يصوّت للشيوعيين في الانتخابات التي تحدث في روسيا، لانهم من وجهة نظره – (أفضل السيئين !!!)، كما قال بالضبط . ضحكت انا من هذا التعبير السياسي الغريب والطريف، ثم سألته عن هذا (المصطلح !) السياسي الجديد، الذي استخدمه، وتفسيره، فقال لي، ان جميع القوى والاحزاب السياسية يساهمون في هذا الفساد الاداري السائد في بلدنا بشكل او بآخر، وانهم جميعا مسؤولون عن هذا الوضع الحالي لروسيا ويكسبون منه، الا ان الشيوعيين – نظريا على الاقل – يعارضون ذلك، اي انهم أقرب القوى السياسية لمعارضة هذا الواقع، وعلى الرغم من قناعتي، انهم لن يصلوا الى السلطة، و انهم لن يستطيعوا تغيير هذا الواقع المرير، ولهذا، فانا اسميهم (افضل السيئين)، واصوت لهم، رغم اني لست منتميا اليهم .

عندما اقتربنا من العنوان المطلوب، اعطيته الاجرة وقلت له، ربما ساكتب مضمون حديثك هذا وأنشره، فقال ضاحكا، لم اتوقع انك اجنبي، فسألته، هل تخاف ان أنشر حديثك ؟ فاجاب رأسا، كلا ابدا، فقد انتهى زمن الخوف في روسيا، وأضاف، بل اني ساكون سعيدا ان يعرف القارئ الاجنبي الوضع الحقيقي في روسيا، لان روسيا دولة مهمة للعالم...

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم