شهادات ومذكرات

محمود حمدي زقزوق .. الوزير الفيلسوف في ذمة الله

محمود محمد علينعم يموت الجسد، يفني، ولكن يبقي النشيد الحر محلقاً في شماريخ زهرة اللوز الصغيرة والمتجددة كأنها العنقاء التي لا تموت .. نعم قد يتوقف النبض الذاهب نحو شرايين أنهكها الزمن، ولكن نبض التحليق الحر في فضاء الكون أبداً لا يموت.. قصدت أن أبدأ مقالي بتلك الكلمات لأقول لك عزيزي القارئ :- لقد فقدت مصر والعالم الإسلامي أول أمس - الأربعاء الماضي الموافق 31 مارس 2020م، أستاذي ومعلمي الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق - أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر الشريف وعضو هيئة كبار العلماء ووزير الأوقاف الأسبق، عن عمر يناهز الـ89 عاما، تاركا سمعة وسيرة عطرة ستخلّده في قلوب من عرفوه.

والدكتور زقزوق يعد واحدًا من كبار العلماء الذين وهبوا حياتهم للعلم وقضاء حاجات الناس ومن كان له باع كبير في الحوار بين الأديان ومحاولة إنقاذ العالم من براثن الحروب والخراب والدمار بفكره الوسطي المعتدل، كما كان من الذين ساهموا بإخلاص في بيت العائلة المصرية ومحاولات الصلح التي يقوم بها الأزهر الشريف بين أبناء الوطن بنسيجه الاجتماعي الواحد.

قال عنه الأستاذ الدكتور طة حبيشي بأنه: "عصفور من الشرق ذهب إلي الغرب ثم التقط ثمار الغرب وعاد بها إلي الشرق مرة أخري وهو يجسد صورة الأزهري الحق كما ينبغي أن يكون، فهذا الرجل أثري الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي والإسلامي بجدارة".. وقال عنه المستشار محمد عبد السلام (مستشار فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب):" .. فهذا الرجل أثري الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي والإسلامي بجدارة .. فقد استطاع أن يجمع بين الأصالة والمعاصرة في أبهي صورها .. وشخصيته المتفردة هي جديرة بأن تكون محل بحث لطلاب الماجستير والدكتوراه يتناول فيها جوانب الحياة العلمية والثقافية والفلسفية التي عبرت من الشرق إلي الغرب ثم عادت من الغرب إلي الشرق.. وقال عنه الأستاذ الدكتور محمد السيد الجليند (أستاذ الفلسفة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة):" أزهري نشأ وتربي ونهل من ثقافة الأزهر الأصلية في حياته العلمية كالبا ومبتعثا ومعلما".. وقال عنه الأستاذ رجائي عطية (نقيب المحامين المصريين):".. كان محمود زقزوق ملئ السمع والبصر ومضت الأعوام وبقي وزيراً للأوقاف يحمل محفظتها 15 عام تمثل في نظري العصر الذهبي لوزارة الأوقاف وأيضا للدعوة الإسلامية التي كانت تنهض بها آنذاك وزارة الأوقاف .. وقال عنه شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب فقال : لله والتاريخ  أشهد أنكم كنتم الإنسان المترفع عن كل الصغائر والعالم الكبير الشديد التواضع .. جميع المناصب العلمية والحكومية التي تقلدتموها هي التي سعت إليك، وأشهد أنك لم تسع إليها.. وقال عنه الدكتور أبو لبابة الطاهر صالح (رئيس جامعة الزيتونة السابق) :" الدكتور محمود زقزوق سيبقي علامة فارقة للثقافة العربية الإسلامية لا في مصر وحدها وإنما في العالم الإسلامي والعرب معا، واعتقد أنه يندر أن يوجد مثقف في عالمنا العربي لا يعرف الدكتور محمود زقزوق، فهو يعرفه بكتاباته المتنوعة، ويعرفه بأصوله الإسلامية العميقة، ويعرفه بإخلاصه وأكبر دليل علي اعتداله في نلك الفترة الطويلة التي تقلد فيها وزيرا للأوقاف".

وقد قامت هيئة كبار العلماء المسلمين بعمل فيلم وثائقي عنه يرصد أبرز المحطات في حياته، حيث تحدثت عن اسهاماته وإنجازاته ويمكن أن منه جانبا مما بالدكتور زقزوق وخاصة في مرحلة صباه؛ ففي تمام الساعة الثانية بعد ظهر يوم 27 من شهر ديسمبر عام 1933، وفي قرية " الضهرية " التابعة لمركز "شربين" لمحافظة الدقهلية، ولد الطفل النابغة محمود حمدي زقزوق .. اختطف الموت والده وهو لا يزال في السابعة من عمره، فعوضه الله عن حرمانه من الأبوة بأخيه الأكبر الذي كان له نعم الأخ والأب؛ حيث أولاه رعايته وأحاطه بعطفه واهتمامه وسهر علي الاعتناء بتربيته وتعليمه.. وقد خيره أخوه الأكبر بين الالتحاق بمدرسة الزرقا الابتدائية وبين المعهد الديني في دمياط، فأختار أن يكون أزهريا .. بدأ زقزوق نبوغه الفكري وهو ابن 17 عاما عبر صحيفة أسبوعية نشر فيها بعضاً من المحاولات الشعرية والقصصية كما كتب في البريد الأدبي لمجلة الرسالة والتي كان يصدرها الأديب المعروف أحمد حسن الزيات رحمه الله .. بعد حصوله علي شهادة الثانوية عام 1955 التحق بقسم الفلسفة بكلية اللغة العربية عام 1956 وفي نفس هذا العام كان العدوان الثلاثي علي مصر .. فكان زقزوق أحد متطوعي الأزهر في الحرس الوطني للدفاع عن الوطن .. أسعده الخط خلال هذا التوقيت أن يستمع إلي الأساتذة مثل عباس محمود العقاد وأحمد حسن الزيات وبنت الشاطئ الدكتورة عائشة عبد الرحمن والدكتور محمد البهي، والذي كان للأخير الأثر الأكبر في توجيه مشواره العلمي فنهض زقزوق لدراسة اللغة الألمانية إعجاباً بأستاذه البهي الحاصل علي الدكتوراه في ألمانيا، وكان ذلك نقطة تحول في حياته الوظيفية والدراسية فيما بعد.

وبعد أن فرغ محمود حمدي زقزوق من دراسته الجامعية، أعلن الأزهر عن إيفاد 5 من دارسي اللغة الألمانية إلي ألمانيا، فكان زقزوق الأول علي تلك المسابقة وسافر إلي ألمانيا عام 1962 واختار الأستاذ "راينهار لاوت" - ليكون مشرفا علي رسالة الدكتوراه، وبعد بحث وتفكير، انتهي إلي اختيار موضوع الشك المنهجي لدي كل من ديكارت والغزالي، وكانت تلك أطروحته التي قارن فيها بين ديكارت الذي يعرف بأنه أبو الفلسفة الحديثة والغزالي الذي ظلمه بعض أهله واعتبروه صوفياً هادماً للفلسفة  بكتابه تهافت الفلاسفة، وقد أثبت الدكتور زقزوق بالنصوص القاطعة التطابق بين المنهج الفلسفي أو الشك المنهجي لدي كل من الغزالي وديكارت، وهذه النظرية كما يقول الدكتور محمد السيد الجليند : "ظن البعض أنها من ابتكار الفيلسوف ديكارت والفضل يرجع إلي محمود حمدي زقزوق في أنه أوقفنا علي مصدر هذه النظرية عند ديكارت، فلقد سمعت هذا بأذني منه شخصياً وهو يطالع في مكتبات برلين ووجد كتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي مخطوط ووجد مكتوبا عليه بخط ديكارت أن هذا الكتاب مفيد وينبغي أن نستفيد منه" ..

وأثناء تواجده في ألمانيا للدراسة وفي منتصف تلك المدة تزوج محمود حمدي زقزوق من زميلة ألمانية كانت تدرس معه الماجستير، ولم يطلب منها تغيير ديانتها المسيحية كشرط للزواج، ولكنها فاجأته عام 1972م برغبتها في اعتناق الإسلام، وذلك بعد أن قرأت كثيراً عن الإسلام وصلته بالأديان الأخرى وتلبية لرغبتها ذهب معها حينذاك إلي مشيخة الأزهر وأشهرت إسلامها ووقع شيخ الأزهر حينذاك الدكتور عبد الحليم محمود علي وثيقة إشهار إسلامها .

بعد عودته من ألمانيا وفي عام 1969 أعلنت كلية دار العلوم عن حاجتها عن وظيفة لمدرس في الفلسفة الإسلامية، كما أعلنت كلية أصول الدين عن نفس الطلب وتقدم بأوراقه إلي الكليتين، وتم ترشيحه بالفعل إلي الوظيفتين، وكان عليه أن يختار وبعد استشارة أستاذه الدكتور محمد البهي أبَى  محمود حمدي زقزوق مرة ثانية إلا أن يكون أزهرياً.. فأصبح زقزوق مدرساً في كلية أصول الدين، فكان خير معلم لتلاميذه يغرس فيهم الطاقات، ويزرع فيهم الطموح.. كما عمل أستاذ مساعد - عام 1974، وعمل أستاذ - عام 1979، ثم وكيلاً لكلية أصول الدين بالقاهرة ورئيس قسم الفلسفة والعقيدة (1978- 1980).. كما عين زقزوق، عميداً لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر في الفترة من عام (1987 وحتى 1989)، ومن عام (1991 حتى 1995).. وخلال الحياة الوظيفية في كلية أصول الدين تمت إعارته لجامعة طرابلس لمدة 4 أعوام ومثلها من الأعوام في كلية الشريعة بجامعة قطر وفي خلالها سافر إلي تونس للمشاركة في أعمال اللجنة العلمية لترقية اعضاء هيئة التدريس في جامعة الزيتونة. ثم نائبًا لرئيس جامعة الأزهر - عام 1995، إلى أن تم تعينه وزيرًا للأوقاف عام 1996.، كما تم اختياره عضوا بهيئة كبار العلماء، ورئيسا للجنة الحوار بالأزهر وأمينا عاما لبيت العائلة المصرية.

كما شارك الدكتور زقزوق في العديد من المؤتمرات الدولية الهامة منها المؤتمر الدولي للعلاقات الثقافية في مدينة بون بألمانيا عام 1980، والمؤتمر السنوي للجمعية الدولية لتاريخ الأديان بجامعة هامبورغ بألمانيا عام 1988، مؤتمر دار حضارات العالم في برلين بألمانيا عن الاتجاهات الإسلامية المعاصرة عام 1991، ومؤتمر مركز أبحاث الحوار(حريصا)- لبنان عام 1995.. واختير الراحل في العديد من الهيئات الكبرى في مصر؛ ومنها عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف، وعضو المجلس الأعلى للأزهر، وعضو اتحاد الكتاب، كما تم اختياره رئيسا لمجلس إدارة الجمعية الفلسفية المصرية، ومقررا للجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة في قسم العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، وعضو مجلس الأمناء بالجامعة الألمانية بمصر.

وله العديد من المؤلفات الهامة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : المنهج الفلسفى بين الغزالى وديكارت، الكويت، عام 1983، الإسلام في تصورات الغرب، القاهرة، عام 1987، مقدمة في علم الأخلاق، القاهرة، عام 1993، دراسات في الفلسفة الحديثة، القاهرة، عام 1993، تمهيد للفلسفة، القاهرة، عام 1994، مقدمة في الفلسفة الإسلامية، الإسلام في مرآة الفكر الغربى، القاهرة، عام 1994، الدين والحضارة، القاهرة، عام 1996، الدين والفلسفة والتنوير، القاهرة، عام 1996... وهلم جرا.

وحصل الراحل على عدة جوائز والأوسمة؛ منها جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة- عام 1997، وكان الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء المصري، نيابة عن الرئيس عبدالفتاح السيسى، كرم عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، الدكتور محمود حمدى زقزوق، المفكر الإسلامى، ووزير الأوقاف الأسبق، فى نهاية يناير الماضى، بمؤتمر تجديد الفكر الدينى الذى عقده الأزهر الشريف، تقديرًا لجهوده فى تجديد الفكر الإسلامي، وتعزيز السِّلم، ونشر سماحة الإسلام. وقرر الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف المصري إطلاق اسم الدكتور محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف الأسبق، على قاعة المحاضرات والتدريب الرئيسية بمسجد النور المعروفة بـ "قاعة الوزير"، تقديرًا لجهوده العلمية وجهوده في خدمة الدعوة.

وعلي مدار هذه السنوات عرف عن الوزير الفيلسوف أنه لا يجابي أو يجامل في الحق، فهو يتمتع بالموضوعية التي ينبغي أن تكون، وهو لا يعرف القصور أو الإهمال .. لا يكل ولا يمل .. قد شمر عن ساعديه لتطوير العمل في وزارة الأوقاف لما يجعلها أقدر علي النهوض بمسؤوليتها من أجل خير الإسلام والمسلمين مقرراً الارتقاء بالمستوي الأدبي والعلمي للأئمة وصقل معارفهم وتزويد المساجد بالمكتبات لإفادة الدعاة والباحثين مقدما إصدار دائرة المعارف الإسلامية من خلال اصدار موسوعات متخصصة في في 16 مجالا، مثل موسوعة الفرق والمذاهب في العالم الإسلامي، وموسوعة أعلام الفكر الإسلامي، وموسوعة الحضارة الإسلامية، وموسوعة التصوف الإسلامي، وموسوعة في علم الكلام ... وعلم جرا.

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول.. لقد رحل أستاذنا الدكتور محمود حمدي زقزوق تاركاً وراءه فراغاً هائلاً وحزناً وافتقاداً .. فهل الأمل أن نجد من يملأ هذا الفراغ ويعوض الافتقاد .. لا نملك إلا التفاؤل.. رحم الله فقيدنا الغالي والصبر والسلوان لأسرته وتلاميذه .. وإنا لله وإنا إليه راجعون !.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

  

في المثقف اليوم