شهادات ومذكرات

كيف تشكلت الجامعات في المجتمعات الأوربية؟

محمود محمد عليتعد الجامعات في مختلف دول العالم المتقدم والنامي أساسا من أسس تطوير وخدمة المجتمع على قواعد ومعايير عملية وسليمة، فهي من ناحية تقوم بإعداد القوى البشرية المؤهلة من علماء ومثقفين، وباحثين تأهيلا عالميا، اللازمة للعمل في شتى قطاعات المجتمع، ومن ناحية أخرى وضع خطط التنمية للنهوض بالمجتمع، الى جانب هذا فهي الوسيلة التي يتم بها نشر المعرفة من خلال التدريس، وإنتاجها من خلال البحث العلمي في كل المجالات والعلوم التطبيقية والإنسانية، وتوظيف المعرفة من خلال إيجاد الحلول الموضوعية لقضايا التنمية والبيئة الإنسانية أو خدمة المجتمع بصفة عامة.

وقد كان للجامعة دور كبير في صياغة الوعي الفلسفي وأفكار المجتمع وقيادته للحركة الثقافية والفكرية ؛ حيث ارتبطت نشأة الجامعات بنشأة التعليم النظامي، الذي ارتبط بدوره باكتشاف الكتابة، وتذكر "الموسوعة العربية العالمية" أن السومريين الذين عاشوا في وادي دجلة والفرات قد أوجدوا نظاماً للكتابة حوالي سنة 3500 ق. م.. وكذلك طور المصريون نظاماً للكتابة حوالي سنة 3000 ق.م، وقد تضمن النظامان على أساليب لكتابة الحروف والأرقام، وكان المعلمون قبل اكتشاف الكتابة يكررون الدروس شفهياً، فيقوم الطلبة بحفظ ما سمعوه، وكان معظم المعلمين عند السومريين والمصريين من كهنة المعابد، أما الطلبة فكانوا قلة أمية من أبناء الطبقات العليا، وكانت قبائل معينة في شرق البحر المتوسط تتحدث اللغات السامية وقد ابتكرت ما بين سنة 1500-1000 ق.م الحروف الهجائية الأولى في العالم فأضافوا للتربية والتعليم أداة جديدة، وقد يسر استخدام الحروف الهجائية الكتابة بدلاً من استخدام الصور؛ استخدمت في القديم الصور والرسومات في الكتابة وذلك كما قال مهدي التميمي.

والحضارة اليونان القديمة، نجد أنه بحلول القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، حيث اشتهر فلاسفة من أمثال سقراط وأرسطو ممن قاموا بتعليم الفلسفة والعلوم، حيث اعتقد هؤلاء أن التعليم يجب أن يكون أداة لتطوير الشخص ككل - بما في ذلك عقله، وهذا أسفر سيادة التعليم العال، لكن تعليمهم لم يكن ضمن الإطار الجامعي، ففي تلك الأيام، لم يكن الطلبة يحتاجون النجاح في امتحان القبول أو الانتظام في مقررات محددة، ولا يمنحون شهادات ُأكاديمية؛ ومثل ذلك حدث في الهند القديمة، حيث قام علماء الدين بتعليم الهنود التراث الهندي والمعارف الدينية، إذ كان التعليم حكرا على الكهنة .

أما في العصور الوسطي فنجد أنه بالرغم من أن النماذج الأولى للتعليم العالي كان لها تأثير على طبيعة التعليم الحالي، فإن أول ظهور للجامعة كان في أوروبا من الكاتدرائيات والمدارس المحلية لبعض المدن في القرن 12، والتي كانت مكلفة بتدريب نخبة: لحماية المدن، خدمة الكنيسة والدولة، ثم تعدت إلى تدريس: رجال الدين، القانون والطب؛ علي أن أهم ما يميز ذلك العصر هو أن التعليم أخذ يخضع خضوعا تاما السيطرة الكنسية، نتيجة لانحلال السلطة العلمانية وازدياد نفوذ العلمانية وازدياد نفوذ البرابرة في المجتمع الغربي .

ومن الملاحظ أن الكنيسة أقرت تدريس الفنون الحرة التي كانت تلقن التلاميذ في المدارس الوثنية ولكن علي أسس مسيحية لأن الكنيسة وجدت هذه الفنون أساسية ولابد منها لفهم الكتاب المقدس نفسه . وهكذا ظهر من بين المسيحين مارتيانوس كابلا الذي كان أول من حدد الفنون السبعة الحرة بالنحو، والبلاغة، والمنطق، والحساب، والهندسة، والفلك، والموسيقي، وقد ظلت المدارس في الغرب، حتي سنة 600 تهئ تعليماً ابتدائياً عاماً لإعداد الأفراد للحياة، ولكنها لم تلبث ان تحولت كلية لإعداد رجال الدين للمستقبل . وهكذا لم يكد ينتهي القرن السابع إلا كان التعليم في غرب أوروبا قد أصبح ديناً بحتاً داخل مدارس ديرية وأسقفية، واستمر الوضع علي ذلك حتي القرن الثاني عشر .

هذه المدارس كانت تهتم بالجانب الديني فقط، حيث جذبت الرهبان من فرنسا والدنمارك؛ خاصة سنة 1209 و 1215، لتوفرها علي أساتذة و طلبة متخصصين في اللاهوت Theology والفلسفة. تسمى هذه المدارس الحضرية الجديدة بـ Studia، والتي جاءت لتلبية الحاجات الدنيوية: الاستقرار في حال الحروب وذلك بتدريب جيوش للدفاع عن المدن هذا في المقام الأول، الأبرشية Parish، رجال الدين، محامين، إداريين وممارسين للطب؛ حيث لم تصبح أي من هذه المدارس جامعة، لكن كانت تقوم بتعليم المهارات الأساسية التي يحتاجها المتعلم، مثل النحو Grammar (حيث استخدمت اللغة اللاتينية في نشاطات الكنيسة والدولة(، والبلاغة) Rhetoric أسلوب الإقناع في: الوعظ، المحاضرات، الخطب(، الجدل Dialectic (المنطق، التحليل الفلسفي..(هذه الفنون الثلاث Trivium أضيفت لها الفنون الأربع Quadrivium وهي: الموسيقى Music، الحساب Arithmetic، الهندسة Geometry و علم الفلك Astronomy عرف بالفنون، مكونة بذلك ما يعرف بالفنون الحرة Arts Libral والتي تؤهل الفرد ليصبح معلما للآخرين والمضي قدما وصولاً إلى أكاديميات أعلى للبلاغة والقانون والطب ..

فالجامعة في الأصل مجموعة من الـStudium، الذي هو عبارة عن كلية أو مجموعة من الكليات العليا والذي استقطب الطلبة من مختلف أنحاء أوروبا، والذي ثبتت وضعيته فيما بعد بوثيقة أو قرار من الإمبراطور، وكانت Salerno أول مدرسة ثبتت وضعيتها، وكانت تضم كلية معروفة للطب منذ القرن التاسع أو العاشر الميلادي؛ والتي كانت تدرس أعمال جالينوس وأبقراط.

هذا وقد شهد القرن الثاني عشر، ميلاد أولى الجامعات في أوروبا، وهي جامعة باريس وبولونيا، والتي كانت نتيجة انبعاث الفلسفة اليونانية من جديد، ومع حلول القرن الثالث عشر، نمت وتطورت مدارس باريس إلى أن أصبحت Generale Studium Single سنة 1194 بقرار من الملك الفرنسي سنة 1200.

وثمة نقطة جديرة بالإشارة وهي أن كلمة Universitas لم تعد تعني تجمعا فقط (مجموعة من الـ Studium)، لكن في باريس وشمال أوروبا ُ كانت تعني "تجمع الأساتذة"، أما في بولونيا وإيطاليا فتعني "تجمع الطلبة"، حيث عرفت باريس بـ: "جامعة الأساتذة Masters of University، والإيطالية بـ: "جامعة الطلبة students of University، وبذلك أصبح مصطلح الجامعة يعني: تجمع الأساتذة أو الطلبة .

أما في باقي الدول الأوروبية كإسبانيا مثال، تأسست جامعة Salamanca سنة 1218، وفي سنة 1298 اعتبرت واحدة من أكبر الجامعات إلى جانب جامعات:Paris and Oxford, Bologna في العالم المسيحي Christendom.، أما الجامعة الوحيدة التي أسست في البرتغال، فكانت في لشبونة سنة 1290، وتتالت عملية تأسيس الجامعات في مختلف الدول الأوروبية.

وبحلول سنة 1300 ازداد عدد الجامعات التي ظهرت في القرن 12 إلى 16 جامعة، 38 جامعة في 1400 م، و 72 سنة 1500م، وهذه الزيادة في العدد والحجم كانت بسبب: حركات الإصلاح والحركات المعارضة، وتعد الثورة الصناعية من أهم الأسباب التي أدت إلى زيادة و توسيع التعليم العالي. حيث بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا في القرن 18، وانتشرت في أوروبا، أمريكا و باقي أنحاء العالم، ما أدى إلى ظهور نموذج جديد للجامعة والتي تختص بالبحث، حيث ظهرت علوم طبيعية جديدة، مثل الكيمياء، البيولوجيا، الجيولوجيا؛ علوم تطبيقية جديدة: الهندسة، المعادن، الكهرباء، الطب التطبيقي؛ العلوم الإنسانية: التاريخ، اللغة المعاصرة.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، ازداد عدد الطالب وانتشر الطلبة عبر أنحاء أوروبا؛ من بريطانيا وفرنسا إلى ألمانيا وروسيا، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما شهد هذا القرن ولأول مرة ظهور المرأة، وبنسبة معتبرة وليس مجرد أعداد رمزية لفئة الطلبة (أول ظهور للمرأة كان بتشجيع من القرارات التي اتخذتها الجامعات البريطانية بمنحها شهادات معادلة للطلبة في مستعمراتها سنة 1876 فبدأ قبولها في الجامعات البريطانية، وكذا حذت حذوها باقي الجامعات(.

وتجمع الجامعة الحديثة بين التدريس والبحث ( بدلاً من حفظ المعرفة القديمة)، ولادة الجامعة الحديثة كانت من اسكتلندا في القرن الثامن عشر، ومن ألمانيا في القرن التاسع عشر، كل واحدة منهما وصلت إلى نفس النتيجة (كل واحدة على حدة): التخصص؛ أستاذ متخصص في موضوع واحد يعوض الأستاذ الذي يدرس جميع المقررات، حيث عرفت اسكتلندا فروع، تخصصات وأقسام جديدة.

ولقد عرفت الجامعات أكبر توسع لها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نجد أن 78% من الجامعات تأسست في أوروبا خلال القرن العشرين ( 75 % منها بعد سنة 1945)؛ حيث نمت الجامعات القديمة في كل الدول وتوسعت في الحجم والتخصصات، حتى أعداد الطلبة زادت لتشمل أكبر عدد ممكن، ولم تعد تقتصر على النخبة أو نبلاء المجتمع (لتضم أكبر نسبة ممكنة من الفئة العمرية(..

هذا التوسع غير المسبوق راجع إلى ما يعرف بـ: الثورة الثالثة في تاريخ الإنسانية ( بعد الثورتين: الزراعية في العصر الحجري، الثورة الصناعية في القرن 18)؛ أي التحول إلى مجتمع مبني على خدمات الخبراء المتخصصين، والذي يدعى عادة بـ" مجتمع ما بعد التصنيع" الذي يستدعي من أغلبية النشطين في مختلف الدول المتقدمة العمل ليس في: التصنيع الاستهلاكي، السلع الرأسمالية فقط، بل في الخدمات؛ وخاصة المتخصصة منها والتي تحتاج إلى تعليم وتدريب ذي مستوى عال.. وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

.....................

المراجع

1- أنظر الموسوعة العربية العالمية، 1999، الجزء الثامن .

2- عالم محمد موسى حمدان: الطريق نحو الجامعات البحثية عالمية المستوى دراسة شمولية في الجامعات العربية.

3- نوال نمور: كفاءة أعضاء هيئة التدريس وأثرها على جودة التعليم العالي - دراسة حالة كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير جامعة منتوري قسنطينة.

4- أيمن يوسف: تطور التعليم العــالي: الإصلاح والأفاق السياسية.

5- د. عزت السيد علي : تطور التعليم العالي- الواقع والمشكلات والاقتراحات.

 

في المثقف اليوم