شهادات ومذكرات

حامد طاهر: الفيلسوف المتعدد المواهب (1)

محمود محمد عليعرفت الدكتور حامد طاهر حسنين فؤاد (أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم ونائب رئيس جامعة القاهرة السابق) منذ أكثر من ربع قرن، كان واحداً من كبار اللجنة العلمية التي حضرت إلي جامعة أسيوط، كلية الآداب (فرع سوهاج) في أوائل تسعينيات القرن الماضي  لمناقشتي في رسالتي للماجستير والتي كانت عن السهروردي المقتول تحت إشراف أستاذي الدكتور عاطف العراقي .. كانت مناقشته أكثر من رائعة؛ حيث سما فيها من المستوي التقليدي للمناقشة إلي مستوي الفكر، والحق يقال أنني استفدت منه استفادة كبيرة، فقد أدركت بوعي أنني أمام شخصية متميزة لأستاذ أكاديمي تختلف عن شخصيات كثير من الأساتذة غيره . شخصية تتوفر علي سمات ومقومات وأبعاد، تنتذع بذاتها الاحترام وتفرضه، وتستوجب التقدير وتثير الاعجاب.. ولم تنقطع صلتي وعلاقتي به طوال تلك الأيام والسنون.

وبالأمس الخميس الموافق الحادي عشر من حزيران 2020م انتقل إلي رحمة الله الدكتور حامد طاهر متأثراً بإصابته بفيروس كورونا المستجد،، تاركاً سمعة وسيرة عطرة ستخلّده في قلوب من عرفوه..

وقد نعاه الأستاذ الدكتور "محمد عثمان الخشت"، رئيس جامعة القاهرة، الأكاديمي المرموق، الذي يعد أحد رموز كلية دار العلوم عبر تاريخها.. وقال "الخشت": نشعر بالحزن الأليم لفقدان علم من أعلام الفلسفة في مصر وقيادة ناجحة وبارزة من قيادات جامعة القاهرة.. وأضاف: "لقد استرد الله تعالى وديعته، ولا يعز على قدره إنسان، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته، وألهمنا وذويه الصبر والسلوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا ملجأ منه إلا إليه".

رحم الله أستاذي الدكتور حامد طاهر، ذلك الرجل العظيم الذي أقبل علي الدرس الفلسفي في شوق ورغبة، وتأمل وعناية، وانتهي به ذلك إلي إنتاج له وزنه بحصاً وتأليفاً أو تعليقاً وترجمة، وكان من حظي أن تابعت نشاطه في مراحل حياته المختلفة من خلال موقعه الإلكتروني الموجود علي الإنترنت،  ولكن مع الأسف عجل بالرحيل عنا، وخلف إنتاجاً علمياً وفلسفيا وأدبياً .

والدكتور حامد طاهر أكاديمي مصري متخصص في الفلسفة الإسلامية، ولد في الثامن شهر أبريل عام 1943 بحي الخليفة بالقاهرة. التحق بالمعهد الأزهري، وقد حصل على ليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية بمرتبة الشرف من كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة 1967، وماجستير الفلسفة من الكلية نفسها 1973، ودكتوراه الدولة في الفلسفة بمرتبة الشرف الأولى من جامعة السوربون 1981.

علاوة علي أنه وهب حياته كلها للجامعة: تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

تدرج حامد طاهر (مع حفظ الألقاب) في وظائف التدريس بكلية دار العلوم بالجامعة بدءًا من معيد وانتهاء بأستاذ، وتولى رئاسة قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم منذ عام1991. كما تولي عمادة الكلية، ثم منصب نائب رئيس الجامعة لشئون التعليم والطلاب.

وللأكاديمي الراحل حامد طاهر كتب عديدة في الفلسفة الإسلامية مثل: المدينة الفاضلة بين افلاطون والفارابي: دراسة مقارنة  (1986)، ومنهج البحث بين التنظير والتطبيق  (2006)، والفلسفة الإسلامية: الجانب الفكري من الحضارة الاسلامية (2012)، والفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث (2005)، والخطاب الأخلاقي في الحضارة الإسلامي بين الماضي والحاضر (2006)، ومعالم التصوف الإسلامي (2009)، والدوائر المتداخلة: تحقيق التراث والترجمة والتأليف (1995)، وقوانين القران (2011)، وظاهرة التطرف الدينى: التشخيص والحل (2005)، ومصريات معاصرة (2007)، ويوميات سلامه المصري "جزآن" (2009)، وماذا لو ... ؟ أفكار إصلاحيه (2013)، وأفكار قابلة للتنفيذ (2003)، برديات معاصرة (مقالات فى الشؤون المحلية والاقليمية والدولية) (2010)، وحوارات سقراطية (2002)، وهل تريدون حقا اصلاح التعليم ؟ (2008)، والبناء المنطقي لأعمال الحكيم الترمذي بالفرنسية: These de doctorat d’ etat de la Sorbonne Paris 1981

علاوة علي ترجمته للكثير من الكتب عن اللغات الأخري ؛ وبالذات اللغة الفرنسية، ونذكر منها:

- كتاب (في مرآة الغرب: كيف يرانا الغرب وكيف يري نفسه): بحوث ومقالات لكبار المستشرقين الفرنسيين، دار الهاني للطباعة والنشر 2012 .

-  ترجمة كتاب ( المنهج التجريبي: تاريخه ومستقبله) لرينيه ليكليرك من الفرنسية ؛ مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة التخصصية 2012 .

- كتاب (بانورما للأدب الفرنسي في القرن العشرين) لتريشية، مكتبة العمرانية بالهرم 1992 .

- اللغة العلمية المعاصرة ( بحث) لجيرار بيتيو، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ج .52 - 1983 .

-  المنطق الأرسطي وتأثيره في أصول الفقه وعلم الكلام لإبراهيم مدكور (بحث بالفرنسية)، سلسلة دراسات عربية وإسلامية، أجزاء 37 سنة2012 .

-  بناء مصر الحديثة ( محاضرة مجهولة بالفرنسية) لطه حسين، ضمن احتفال كلية الآداب بذكراه . 28،29 اكتوبر 1998 .

- الفلسفة اليهودية لابستاين (فصل من كتابه: اليهودية)، سلسلة دراسات عربية وإسلامية الأجزاء 16، 1995 .

- قصص عالمية: مترجمة من الروسية والفرنسية، مكتبة الآداب بالقاهرة 2000 .

- قصائد فرنسية ( لمجموعة مختارة من دواوين كبار الشعراء الفرنسيين)، دار الهاني للطباعة والنشر 2012 .

- الاسلام من وجهة نظر المسيحية ـ لويس جارديه ( فصل من كتابه عن الإسلام بالفرنسية)، مجلة الثقافة . القاهرة 1978 .

-  صلاح عبد الصبور في الفرنسية ـ جاك جومييه، مجلة فصول، القاهرة أكتوبر 1981 .

- التضاد وتعدد القطب في التصوف الإسلامي ـ روجر ارنالدز، مجلة الازهر 1979 .

- نظرية الاضداد في اللغة العربية ـ بلاشير، مجلة الثقافة القاهرة 1978، كما نشرتها مجلة اللسان العربي بالمغرب 1979 .

- الصور الشعرية عند جونجورا ـ لوركا، مجلة البيان، الكويت 1977

- مشكلات اللغة العلمية المعاصرة ـ جيرار بيتيو، مجلة مجمع اللغة العربية، ج52، نوفمبر 1983 .

- كتاب حكمة الشعوب، ( 1400 حكمة ومثل من مختلف بلاد العام)، دار الهاني - القاهرة 2017 .

كما حقق كثير من الكتب منها: دراسة وتحقيق كتاب "روح القدس فى مناصحة النفس لابن عربى" . (2006)، رسالة الولاية والنبوة لابن عربى ( تحقيق ودراسة)  (1985)، ومختصر الدرة الفاخرة لابن عربى ( تحقيق ودراسة) (2012).. كما صدر له عدة دواوين شعرية منها: (ديوان حامد طاهر1985 ـ قصائد عصرية 1989 ـ ديوان النباحي (ديوان متخيل من الشعر العربي القديم) 1991 ـ عاشق القاهرة 1992.

كما سطر  لنا حامد طاهر الكثير والكثير من الأوراق البحثية في مجال الفلسفة، نذكر منها مثلاً: نظرية تصنيف العلوم عند الفارابي، و  منهج النقد التاريخي عند ابن حزم الاندلسي، و نظرية خلق الانسان في القرآن، و قضية " المجالات " في الفلسفة الاسلامية، و المشكلات الحقيقية والزائفة في الفلسفة الاسلامية، و تحليل ظاهرة الحسد عند المحاسبي، و ظاهرة البخل عند الجاحظ: دراسة نصية، و ثلاثة مناهج حديثة في دراسة الفلسفة الاسلامية: مصطفي عبد الرازق، ومحمد إقبال إبراهيم مدكور، وحركة التأليف في العالم العربي المعاصر، والترجمة ودورها في الفكر العربي الحديث، وتراثنا المخطوط، وكيف نستفيد منه ؟، والمنهج التربوي لإعداد إخوان الصفا، والتجربة الاخلاقية عند ابن حزم الاندلسي، و قضية العلاقة بين الدين والفلسفة لدي ابن تومرت وابن رشد، وموقف ابن خلدون من علم الكلام، ورأي الغزالي في نشأة الجدل وعيوب المناظرة، وابن النفيس: فليسوف مسلم، ومكانة المرأة عند ابن عربي، وسياسة الدولة الرشيدة عند الماوردي، والدفاع عن القرآن ضد خصومه: ابن قتيبة نموذجاً، وفلسفة السؤال والتساؤل عند ابي حيان التوحيدي، والتراث والمعاصرة عند زكي نجيب محمود، والفلسفة الاسلامية ودورها الجديد في العالم المعاصر، ومشكلة التخلف الحضاري عند المسلمين، وعلم الكلام ومحاولات تجديده، والأفكار الرئيسية في الفلسفة الاسلامية، والاخرويات Eschatologie عند ابن عربي، وتعليم المرأه عند المسلمين، ومنهج التعامل مع النصوص التراثية، و محمد عبده وافكاره المستقبلية.. وهلم جرا..

كان حامد طاهر يريد للعالم العربي، وهو طليعة العالم الإسلامي، أن ينهض من كبوته، وأن ينفض عن عقله غبار الجهل والتخلف. ومن هنا كان من أشد المعجبين بالإمام محمد عبده، في حياته وأفكاره . أما الطريق إلي النهضة فهو التزود بالعلم الحديث الذي هو أساس قيام الحضارة الغربية، وأهم عامل في استمرارها . وإذا كان روح العلم هو المنهج، فقد حمل حامد طاهر علي منطق أرسطو – وهو منهج البحث القديم لدي الإغريق، وكذلك لدي المسلمين لفترة طويلة جداً – حملة شعواء، وكان همه أن يثبت للأجيال الجديدة أن المنهج التجريبي القائم علي الملاحظات، والفروض، والتجارب هو منهج المستقبل.

ويعد كتاب " منهج البحث بين التنظير والتطبيق " الذي أعاد طبعه مراراً – من أهم العلامات التي تؤصل حاضرنا العلمي والثقافي في العصر الحديث، وإذا أضفنا إليه كتاب " مقال عن المنهج" لديكارت، الذي ترجمه وعلق عليه الأستاذ محمود الخضيري، وكتاب " مقدمة لدراسة الطب التجريبي " لكلود برنارد، الذي  ترجمه د. يوسف مراد  وحمد الله سلطان لوقفنا علي ثلاث ركائز رئيسية اعتمد عليها بناء البحث العلمي في الوطن العربي كله.

عاش حامد طاهر شأنه شأن أستاذه الدكتور محمود قاسم (رحمه الله)، مؤمناً بقيمة العقل الإنساني، وقدرته علي مواجهة مشكلات الواقع رغم صعوبتها وشراستها . والعقل منحة من الله تعالي لكل البشر، تماماً مثل الوحي الذي يتنزل علي بعض المصطفين منهم، لذلك فإن التعارض الذي يفتعله البعض بين العقل والوحي، أو الفلسفة الحقة والشريعة: تعارض مصطنع، وغير حقيقي، ويكاد يكون " لفظياً " في معظم الأحيان . وما دام المصدر واحداً، وهو الله تعالي، فمن المستبعد تماماً أن يتعارض العقل مع الشرع. لكن المسلمين مروراً بفترات عصيبة مصائب مختلفة عن الالتفاف إلي جوهر دينهم، وكانوا في كثير من الأحيان يفقدون الطريق الصحيح، فينزلقون إلي الاشتغال بقضايا فكرية لا يجلب عليهم بحثها سوي الفرقة الانقسام.

وبحيطة الباحث المتعمق، تمكن حامد طاهر في كثير من كتاباته من أن يزيح النقاب عن الاتجاهات الباطنية، والغنوصية في الفكر الإسلامي؛ وبفضل بحوثه في هذا المجال، أصبح لدي دارسي الفلسفة الإسلامية في مصر والعالم العربي الوعي الكافي بما طرأ علي التيار الإسلامي الأصيل النابع ( النابع من القرآن الكريم والسنة المطهرة، والمتمثل في فهم السلف) من مصادر أجنبية، سربها وروج لها أفراد وطوائف مغرضة، كان يهمها في المقام الأول الإساءة إلي الدين الإسلامي الذي أزاح هذه الطوائف عما كانت تتمتع به من مكاسب ومغانم في ظل معتقداتها القديمة ..  وقد أستطاع حامد طاهر – عن طريق انتقائه لعدد محدد من القضايا الفكرية، أن يكشف عن العديد من جوانب القوة والضعف في الإسلامية، وقد اتضح ذلك جلياً من خلال إشرافه علي كتاب " الإسلام بين الحقيقة والادعاء: رد علي أهم الافتراءات المثارة ضد الإسلام قديماً وحديثاً، والذي نشر في عدة طبعات، ثم تُرجم إلي الإنجليزية، والألمانية، والفرنسي، والأوردية والمالوية.

وعلي مدي السنوات، تكونت لحامد طاهر مدرسة فكرية في دراسة الفلسفة الإسلامية، أصبحت تتكامل – ولا أقول تتنافس – مع المدارس التي كونها أساتذتنا: الدكتور "عاطف العراقي"، والدكتور "حسن حنفي، والدكتور محمد مهران، في جامعة القاهرة؛ أو علي الدكتور حسن عبد الحميد، والدكتور سامي نصر والدكتور فيضل بدير عون في جامعة عين شمس . ويكفي أن أشير هنا إلي أن آلاف الطلاب الذين استمعوا إلي محاضراته في دار العلوم عن ظاهرة التطرف الديني، والبناء المنطقي للحكيم الترمذي، والخطاب الأخلاقي في الحضارة الإسلامية .. الخ؛ ما زالوا يكنون له أعمق مشاعر التقدير والإعزاز، ولا يحفظون له في أذهانهم إلا صورة الأستاذ الجاد الملتزم. فقد كان يؤدي واجبه في المحاضرة علي أكمل وجه. أما طلاب الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)، الذين ينتشرون الآن في شتي الجامعات المصرية والعربية، فهم الامتداد الحقيقي له: يتابعون منهجه، ويطورون أفكاره..

وقبل أن أنهي هذا المقال في جزئه الأول أود أن أقول: إن الوفاء الحقيقي لأستاذنا الدكتور حامد طاهر – فيما أعتقد هو أن نواصل مسيرته، ونتابع جهوده، في خدمة مجتمعاتنا وأمتنا، فهل يسهم المشتغلون بالفلسفة الإسلامية في مصر والعالم العربي في هذا الجهاد النبيل، ويوجهوا جهودهم هذا التوجيه الجديد الأصيل؟ هذا ما نأمله، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم