شهادات ومذكرات

قاسم عبده قاسم: فيلسوف في معية المؤرخين (1)

محمود محمد عليعرفت الدكتور قاسم عبده قاسم منذ أكثر من ربع قرن، كان سيادته يمتلك دار نشر عظيمة وهي دار عين، وسعدت حينما عرض علي أن ينشر أولي كتاباتي وكانت بعنوان " الأصول الشرقية للعلم اليوناني عام 1997، وأعقبها بعد ذلك بنشر كتابي "العلاقة بين المنطق والفقه عند مفكري الإسلام"، ومنذ تلك اللحظة جمعتنا علاقة الود والصداقة.

ويعد قاسم عبده قاسم أحد أبرز القامات العلمية التي تعهدت أجيالًا كثيرة بالعلم والمعرفة، وفاض علمه حتى اجتاز الآفاق، وتعددت مجالات إسهاماته العلمية ما بين التاريخ والأدب، والموروث الشعبي، والترجمة… فبلغت مؤلَّفاته وكتاباته وترجماته ما يزيد على المئتين ومعها تعددت علامات التقدير التي حصل عليها، فحصد جوائز عدة في الفكر والكتابة والترجمة. وجاءت كتاباته التاريخية لتعطي المؤرخ صورًا أكثر مصداقية عما حوته الكتابات ذات الصبغة الرسمية وإضافة حقيقية إلى تاريخ مصر، بكل ما تتضمنه من إيحاء ودلالة وصدق لجزئيات الواقع الحياتي المجتمعي، في وقت ساد اغتراب العلم التاريخي وتجاهله وتهميشه لدور الناس والجماعات الشعبية في صنع التاريخ. فوجه تلاميذه في الدراسات العليا إلى التركيز على دور الصُّنَّاع الحقيقيين لتاريخ مصر والعرب ولثورات التحرُّر في الوطن العربي، ودراسة القوى الشعبية، ورؤيتها لذاتها وللأحداث من حولها وفي إطار ذلك الفهم والوعي تحركت ثوابته الحضارية ورسالة المؤرخ العلمية لتتفاعل لتخرج أجندته البحثية، التي حار البعض في تفسير مكوِّناتها أو مكنوناتها.. تعرض للظلم أحيانًا فلم يستسلم.. دخل السجون وخرج منها أشد عزيمة وأكثر مضاء.. ليواصل مسيرته متفائلًا من نجاح إلى آخر حتى أصبح أحد أهم رواد المدرسة التاريخية منذ الربع الأخير من القرن العشرين : إنه خير مثال للعظمة التي عناها مكسيم جورجي حين قال : ” من العظماء من يشعر المرء في حضرتهم بأنه صغير، ولكن العظيم بحق هو الذي يشعر الجميع في حضرته بأنهم عظماء”، وذلك في حواره الذي أجراه حول أبعاد العلاقة بين التاريخ والأسطورة.

وقاسم عبده قاسم (مع حفظ الألقاب) من مواليد القاهرة مايو 1942، هو فيلسوف ومؤرخ مصري، وأستاذ متفرغ بقسم التاريخ بكلية الآداب، جامعة الزقازيق، وقد حصل دكتوراه الفلسفة في التاريخ من جامعة القاهرة بمرتبة الشرف الأولى، 19 مارس 1975م، في تخصص تاريخ العصور الوسطى، كما حصل علي أستاذا مساعدا (1984)، ثم أستاذا ورئيس قسم التاريخ (84-1987)، ثم عمل أستاذ زائر بجامعة الكويت من 1987إلى 1993م، ثم أستاذ متفرغ بكلية الآداب – جامعة الزقازيق من 2002م حتى الآن، وكان قد زار جامعات كصيرة منها؛ أستاذ زائر بالجامعات الإسبانية في سنة 2000م، وأستاذ زائر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة من 1993إلى1996م.

وكان قاسم عبده قاسم عضواَ مشاركاً في الكثير من الجمعيات العلمية مثل : الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، والجمعية العربية لعلم الاجتماع، وجمعية الصداقة المصرية الألمانية، وعضو المنظمة العربية لحقوق الانسان، وعضو لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، أمين التثقيف، وعضو اللجنة التنفيذية لحزب العمل الاشتراكي، وعضو اللجنة العلمية الدائمة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين، وعضو لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر، والمشرف العام على دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بمصر من 1991م حتى الآن، وعضو لجنة الترقيات بأكاديمية الفنون بمصر من 2000إلى 2003م، وعضو اللجنة العربية للدراسات العثمانية بتونس من 1983 إلى 2002م، وعضو الجمعية العربية لعلم الاجتماع بتونس من 1982 إلى 1987م، وعضو لجنة التاريخ بالمركز القومي للترجمة 2010م، وعضو اللجان الاستشارية بمكتبة الإسكندرية .

ولفيلسوفنا قاسم عبده العديد من المؤلفات منها: النيل والمجتمع المصري في عصر السلاطين المماليك، دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي، الخلفية الايدلوجية للحروب الصليبية، الوجود الصليبي في الشرق العربي، أهل الذمة في مصر – عصر سلاطين المماليك، ودراسات في تاريخ مصر الاجتماعي – عصر سلاطين المماليك، ورؤية إسرائيلية للحروب الصليبية، و الرؤية الحضارية للتاريخ : قراءة في التراث التاريخي العربي، واليهود في مصر من الفتح الإسلامي حتى الغزو العثماني، وبين الأدب والتاريخ، الخلفية الإيديولوجية للحروب الصليبية، و التاريخ الوسيط : قصة حضارة – البداية والنهاية (ترجمة)، التنظيم البحري الإسلامي في شرق المتوسط (ترجمة)، الحروب الصليبية : نصوص ووثائق الحملة الأولى، والاستيطان الصليبي في فلسطين : حولية فوشيه الشارتري (ترجمة)، جمهورية الخوف : وصورة العراق تحت حكم صدام (ترجمة)، وبين التاريخ والفولكلور، وحضارة أوربا العصور الوسطى (ترجمة)، وفي تاريخ الأيوبيين والمماليك، وعصر سلاطين المماليك: التاريخ السياسي والاجتماعي، والتنظيم الحربي الاسلامي في شرق المتوسط (ترجمة)، رؤية اسرائيل للحروب الصليبية  .

وله أيضا العديد من المقالات والبحوث الأكاديمية والثقافية والسياسية، كما شارك في العديد من المؤتمرات الدولية، والإقليمية، والمحلية في تونس والمغرب، والجزائر وقطر، وتركيا، وقبرص، والمجر، وليبيا، وإسبانيا، وإيطاليا، واليونان، وتتارستان، والمملكة العربية السعودية، والكويت، ومصر في أثناء الفترة من 1979م حتى 2010م.

وقد منح قاسم عبده عدة جوائز منها : درجات الشرف والجوائز والمنح العلمية، وجائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية – مصر 1983م، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى – مصر1983م، وجائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية – مصر 2000م، وجائزة معرض الكويت الدولي الحادي والثلاثين للكتاب عن الترجمة للعربية 2006م، وجائزة الدولة التقديرية – مصر 2008م.

وكان قاسم عبده من المتخصصين في التاريخ الذين لهم وجهة نظر فلسفية حول حصاد الفكر التاريخي العربي في القرن العشرين، حيث كان يري أن الحديث عن الدراسات التاريخية في العالم العربي خلال القرن العشرين، بعد غيابه، لا يمكن أن يستقيم من دون أن نضرب معول البحث في تربة الفكر التاريخي العربي، بحثاً عن الأصول والجذور من ناحية، ومحاولة كشف التأثيرات المحتملة للتراث العربي الإسلامي على الفكر التاريخي العربي الحديث من ناحية أخرى.

والناظر في خريطة الدراسات التاريخية في العالم العربي اليوم كما يقول قاسم عبده سيلاحظ ظواهر عدة لافتة، كما أنه سيجد أن خيوطاً كثيرة تربط الدراسات التاريخية العربية باتجاهات ومدارس خارج الوطن العربي، وستلفت النظر أيضاً تلك الكثرة من الدراسات التي تركز على التواريخ المحلية والقطرية على رغم وجود المؤرخين الذين اهتمت دراساتهم بتاريخ العالم العربي كله. ومن ناحية أخرى، سنجد أن عدد الاقسام الأكاديمية والجمعيات العلمية المهتمة بالدراسات التاريخية زادت زيادة كبيرة خلال الربع الأخير من القرن الماضي، من دون أن ينتج عن هذه الزيادة الكمية، تقدمٌ كيفي مناسب.

وبقدر ما تنوعت أنماط التدوين التاريخي العربي وتعددت، زادت كما يقول قاسم عبده أعداد المؤرخين واختلفت رؤاهم ومشاربهم، وكان منهم من اهتم بتسجيل الحوادث والوقائع العارية، ومنهم من حاول أن يفهم وأن يفهم قراءه مغزى ما سجله قلمه، ومنهم من وضع قواعد منهج البحث التاريخي أو حاول أن يفهم القوانين التي تحرك التاريخ، فكتب فلسفة التاريخ.

ثم دخلت الحضارة العربية الإسلامية منحنى الأفول والغروب، وهبت رياح الزمن المعاكس كما يقول قاسم عبده وخرجت الحضارة العربية الإسلامية من المواجهة الطويلة المضنية ضد المغول والصليبيين وقد انتصرت عسكرياً، ولكنها دفعت الكثير من حيويتها وقواها الإبداعية ثمناً للانتصار العسكري. وحين انتهت الحرب بقيت النظم المملوكية حاكمة في العالم العربي، لكنها فشلت في إدارة المجتمع المدني. واتضح ذلك الفشل في نظر قاسم عبده قاسم جلياً في مظاهر عديدة، كما كانت هناك تراجعات وانهيارات موازية في مجالات الاقتصاد والفكر والثقافة. ولم يستطع العثمانيون شيئاً بعد توسعهم الى العالم العربي سوى “إبقاء الحال على ما هو عليه”.

ولم تنتعش الكتابة التاريخية في العالم العربي في نظر قاسم عبده، مرة أخرى، قبل القرن التاسع عشر. وما بين التدهور الذي حدث في القرن السادس عشر، ومحاولة تجديد الفكر التاريخي العربي في القرن التاسع عشر، كانت كما يقول قاسم عبده قاسم هناك فترة اجترار وخمول لم يقطعها سوى ظهور عدد محدود من جامعي الأخبار التاريخية الذين كانت كتابتهم أقرب إلى عدم الكتابة، لأنها لا تقول شيئاً يسهم في تقدم الفكر التاريخي.

ولكن الظروف التاريخية الموضوعية التي بدأ العالم العربي كما يري قاسم عبده يتعرض لها منذ القرن التاسع عشر حركت كثيراً من المياه الراكدة، فالدولة العثمانية صارت “الرجل المريض” الذي تنتظر القوى الأوروبية وفاته حتى تقتسم تركته، بل إن هذه القوى الاستعمارية استولت على أملاكه قبل الوفاة بعشرات السنين.

وكان عبدالرحمن الجبرتي في رأي قاسم عبده هناك أول من سجل هذه “الصدمة” في كتابيه “عجائب الآثار” و” مظهر التقديس” ويعتبره بعض المؤرخين علامة البداية على حركة التأليف التاريخي في العصر الحديث. ويقول قاسم عبده قاسم هناك :الناظر في كتابي الجبرتي يجد صدى “الصدمة” واضحة في صفحاتها، وعلى رغم احتفاء عدد من الباحثين بعبدالرحمن الجبرتي باعتباره بادئاً لحركة تدوين التاريخ في العصر الحديث، فإن ما كتبه يعتبر من جوانب عديدة استمراراً، بعد انقطاع، لكتابات المؤرخ ابن أياس ومن سبقه من مؤرخي عصر المماليك. كانت كتاباته نوعاً من الحوليات التي تصل احياناً الى يوميات سجل فيها الحوادث التي عاصرها، ولم تكن ابداً نوعا من دراسة التاريخ بمعناها الحديث. وعاصر الجبرتي اثنان سجلا حوادث الفترة نفسها، لكن من منظور مختلف هما نقولا بن يوسف الترك اللبناني، والشيخ عبدالله الشرقاي.

كانت هذه الكتابات صدى باهتاً لتراث الفكر التاريخي العربي في نظر قاسم عبده ولم تضف شيئاً ذا بال في مجال الدراسات التاريخية العربية. وعلى النهج نفسه سار رفاعة الطهطاوي وتلاميذه في مصر، ولكن ما يحسب للطهطاوي كما يقول قاسم عبده أنه بدأ حركة ترجمة للمؤلفات التاريخية الأوروبية بخلقِ نوعٍ من التلاقح الثقافي، وإثارة الوعي التاريخي لدى ابناء مصر من ناحية أخرى، وحاول إنشاء مدرسة للتاريخ والجغرافيا لم تستمر في الوجود فترة طويلة. ودور الطهطاوي في الفكر العربي الحديث معروف ومشهور، ومن هنا يأتي دوره في تحريك الوعي التاريخي العربي. بيد أن كتاباته التاريخية الكثيرة في نظر قاسم عبده تحمل من بصمات التراث التاريخي العربي بقدر ما تقدم من ملامح تجديد الوعي التاريخي في العالم العربي. وعلى رغم أن بعض الباحثين يرى أن “التسجيل التاريخي أصبح بفضل جهود الطهطاوي ومدرسته تاريخاً بالمعنى الحقيقي لكلمة تاريخ” فإن قاسم عبده قاسم يرى أنه كان تجسيداً لحال الانتقال من المفهوم التقليدي للتاريخ في التراث العربي الاسلامي، إلى نمط جديد في الدراسة التاريخية يتخذ من الثقافة الأوروبية ثقافة مرجعية، ويسير على دربها في تقسيم العصور التاريخية، ومنهج البحث، وفلسفة التاريخ.

وهنا يقول قاسم عبده ودليلنا على ذلك أن علي مبارك، الذي كان معاصراً للطهطاوي، لم يستطع ان يتخلص من إسار التراث التاريخي العربي، بل إن أهم مؤلفاته على الاطلاق، وهو كتاب “الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة” لم يكن سوى تقليد لخطط المقريزي الشهيرة، وتم بناؤه على غرار هذه الخطط. وجاءت كتابات تلاميذ مبارك والطهطاوي استمراراً للخط نفسه مثل كتابات محمد مختار باشا، واسماعيل باشا سرهنك.

ويستطرد قاسم عبده  فيقول : ظل القرن التاسع عشر يمثل مرحلة الانتقال التي جسدتها مؤلفات كل من فيليب جلاد ويعقوب آرتين في مصر، وسليم نقاش اللبناني وميخائيل شاروبيم. بيد أن أهم ما يميز الكتابات التاريخية في هذا القرن أنها كانت تسير على طريقة الحوليات القديمة في غالب الأحوال، كما أن معظمها لم يكن ليشكل أية إضافة للفكر التاريخي... وللحديث بقية!.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم