شهادات ومذكرات

عبد الحميد صبرة: فيلسوف مصري في جامعة هارفارد (1)

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتورعبد الحميد صبرة (1924-2013م)، أحد الفلاسفة المصريين المعاصرين المرموقين، الذين كانت لهم مكانة متميزة، في دوائر العلم الأوربية والأمريكية، فهو أستاذ تاريخ العلوم، والمتخصص في تاريخ علم البصريات والعلم الإسلامي في العصور الوسطى، والدكتور عبد الحميد صبرة من خريجي جامعة الاسكندرية، وهو منذ سنوات طويلة خلال القرن الماضي، ورحلته مع العلم، ومع الخبرة، ومع الريادة، تحمل اسمه عبر الدوائر العلمية في أوربا، وقد انتقل إلي جامعة هارفارد - أرفع منابر البحث العلمي في بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1972م، حيث استقر بها أستاذاً لتاريخ العلوم العربية، وخلال هذا التاريخ اهتم بسبل انتقال الثقافة العلمية عبر الحضارات الإنسانية مبرزاً دور الحضارة الإسلامية في صنع النهضة الأوروبية ومرحلة الحداثة.

لم يحظ "عبد الحميد صبرة" (مع حفظ الألقاب)، مثل غيره بما هو أهل له من الاهتمام والتقـدير الذي يتناسب مع جهوده . فهـو ينتمي للرعيل الثاني من رواد الفكر الفلسفي في جامعة الإسكندرية وكان معاصراً للدكتور أبو العلا عفيفي.. ومع ذلك فلا يعرفه إلا المتخصصون الذين درسوا على يديه أو رجعوا إلى مؤلفاته وترجماته وتحقيقاته. وللأسف ليس بـين أيـدينا أية بيانات أو وثائق يمكن أن تكون عوناً لنا في رسم صورته ولا نملك إلا شذرات قليلة لا تتعدى أسطر معدودة جاءت عرضاَ في كتابات زملائه عنه.

ولد "عبد الحميد صبرة" في طنطا عام 1924م لعائلة فقيرة وكان الطفل الوحيد، بعد أن درس في المدرسة القبطية المحلية تحصل على منحة لدراسة الفلسفة في جامعة الإسكندرية، تتلمذ على علماء؛ مثل يوسف كرم، وأبو العلا عفيفي، ثم تحصل عام 1950 على منحة من الحكومة المصرية، لدراسة فلسفة العلوم في كلية لندن للاقتصاد، وحصل على درجة الدكتوراه في عام 1955، تحت إشراف فيلسوف العلوم النمسوي "كارل بوبر" عن أطروحة في علم البصريات في القرن السابع عشر.

عاد "عبد الحميد صبرة" إلى جامعة الإسكندرية عام 1955 وحاضر بها حتى العام 1962 في قسم الفلسفة بكلية الآداب، ثم بعد ذلك سافر للتدريس والعمل في معهد فاربورج (Warburg Institute) في لندن من العام 1962 وحتى العام 1972 حين انتقل إلى جامعة هارفارد أستاذا لتاريخ العلوم العربية.... وقد اهتم "صبرة" بوسائل انتقال الثقافة العلمية من العصر القديم إلى الوسيط ثم الحديث.

ولعبد الحميد صبرة" إسهامات قيمة جداً تأليفاً وترجمة (من الإنجليزية إلى العربية وبالعكس)، ومن مؤلفات الدكتور صبرة بالإنجليزية مثلاً "نظريات الضوء من ديكارت وحتى نيوتون"(وهو عنوان رسالته للدكتوراه) و"الثورة الأندلسية على الفلك البطلمي" و"الضوئيات والفلك والمنطق في العلم والفلسفة العربية" و"المنطق عن ابن سينا" و"إسهامات العالم الإسلامي في تقدم العلوم"... إلخ.

ترجم "عبد الحميد صبرة" أعمالاً لكارل بوبر (أستاذه في الدكتوراه ويعتبر الكتاب الذى ترجمه الدكتور صبرة لبوبر "عقم النزعة التاريخية" أول دخول لبوبر إلى المكتبة العربية!) ويان لوكاشيفيتش (من كبار فلاسفة المنطق الرباضي البولنديين)، كما حقق وترجم من العربية للإنجليزية مؤلفات للحسن بن الهيثم (كتاب المناظير الذي كتب في القرن الحادي عشر وهو من عدة أجزاء)، مما فتح الطريق للباحثين في الغرب للتعرف على والتعمق في إبداعات العالم العربي والإسلامي العلمية في الحقبة التاريخية الذهبية له (تقريباً من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثاني عشر... والتي أدت بعد ذلك إلى الثورة العلمية في أوروبا)، وأن تلك الإبداعات كانت أعمق بكثير من مجرد نقل وترجمة الفلسفة اليونانية معارضاً بذلك وبنجاح نظرية بيير دوهيم Pierre Duhem هذه المعارضة الناجحة انتشرت في الأوساط الأكاديمية لتاريخ العلوم وجبت نظرية بيير دوهيم وأصبحت معروفة بأطروحة صبرة (Sabra Thesis)!.

وقد حصل "عبد الحميد صبرة" على العديد من التكريمات والجوائز منها وسام جورج سارتون من جمعية تاريخ العلوم عام 2005 وهى أعلى جائزة قدراً في مجال تاريخ العلوم كما حصل على عضوية الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون (والتي تضم من بين أعضائها حتى الآن 250 حاصل على جائزة نوبل و60 حاصل على جائزة بوليتزر!) ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي.

والدكتور عبد الحميد صبرة من العاشقين لدراسة تاريخ العلم، فهو يري أنه في الواقع لا يجب إنكار أن التاريخ بوصفه تاريخ هو نظرة إلي الماضي، لكن هذا الواقع لا يمكن وضعه بالنسبة لتاريخ العلوم فقط، وإنما يمكن وضعه لأي تاريخ سواء كان تاريخ سياسي، أو تاريخ اقتصادي، أو تاريخ الفن.. الخ.. صحيح أن الاهتمام بتاريخ العلوم جاء متأخراً عن الاهتمام بتاريخ هذه الجوانب الأخرى من جوانب الفكر والحضارة الإنسانية، لكن لما لا يكون هناك تاريخ للعلم طالما أن هناك تاريخ لكل هذه الجوانب؟!.. إذن ما فائدة النظر في العلم؟..

يقول "عبد الحميد صبرة": الوقع أن الفائدة كبيرة، حيث يوجد لدي جواب قصير وإجابات كثيرة تتوقف حول ماذا وراء السؤال.. هناك جواب قصير، واعتقد أنه مهم ودائماً استخدمه مع الطلبة، وهو أنه طالما أننا قريبين من الانتاجات العلمية الحديثة، وهي التي تقطع خطوات كبيرة وواسعة بسرعة وبسرعة هائلة؛ وخصوصاً في العصر الذي نحن نعيش فيه..

النتيجة هي أننا بدون تفكير في الموضوع إطلاقاً نأخذ العلم قضية مسلمة، وكأنه شئ طبيعي كان يجب أن يكون موجود وما علينا إلا أن نقبل عليه ونشتغل به وكل شئ يسير علي ما يرام.. لكن الواقع أن هذا غير صحيح.. العلم لا يجب أن يؤخذ علي أنه قضية مسلمة وشئ حتمي.. كان لا بد أن يكون موجود.. الإنسانية احتاجت إلي كم قرن حتي تنتج ما يسمي بالثورة العلمية في القرن السابع عشر؟.. وماذا حدث في هذا القرن؟..

نسمع عن عباقرة في الرياضيات وغير الرياضيات قبل القرن 17 ؛ منهم العلماء المسلمون والعرب، وقبلهم علماء اليونان.. والسؤال هنا: كيف نجح العلم وبلغ مرتبة التقدم العلمي في كل هذه الفترة الطويلة حتي ينتج لنا عباقرة مثل نيوتن؟.. ما السر في هذا؟.. العلم إذن هو نوع من التقليد؛ أي عملية تاريخية متصلة.. وكما أن العلم قد اتخذ هذا الوقت الطويل لكي ينشأ بالطريقة التي ينشأ بها، يمكن أيضا أن يختفي..

هذه الملاحظة تبدو لنا غريبة!.. علم يختفي بعد أن ظهر هذا الظهور الواضح القوي!.. نعم يمكن أن يختفي، وعلي الأقل يمكن أن يتوقف عن النمو.. فالصينيون كان لهم علم وكانت لهم تكنولوجيا.. أما الإغريق فلم يكن لهم تكنولوجيا بالمعني الحديث ولا حتي بالمعني الصيني ولكن كان عندهم علم.. والعرب كانوا كذلك.. هذه الحضارات الثلاثة: الصينية واليونانية والعربية.. قطعت أشواط طويلة جداً، وهامة في تقدم الفكر العلمي.. توقفت.. لما كان هذا؟.. ربما يبدو من الآن أن التوقف بعد ارتباط العلم بالتكنولوجيا أصبح أكثر عسراً مما كان في الماضي.. ربما يكون هناك شئ من الصحة في هذا..

لكن هذا لا يمنع من أنه حين يتخذ العلم شكل محسوس، مثل شكل الميكروفون الذي أمامنا أو التلفاز.. الآن موجود في كتب يمكن أن تُقرأ.. فإذن من الصعب أن نفقد من معرفتنا التامة بكل هذه الأمور.. لكن ربما قد نفقد القدرة علي تقديم هذه المعرفة والمضي بها إلي الأمام.. والواقع أن هناك علماء كثيرون الآن يتكلمون عن هبوط في النشاط العلمي في السنوات الأخيرة.. شئ غير مستحيل.. لكن بصرف النظر،هو مستحيل أم لا.. لكي يكون عندي فهم تام لطبيعة الفكر العلمي وحدوده وتفاعل هذا الفكر مع المجتمع الذي ينشأ ويتطور فيه، لا بد من النظر في التاريخ، لأن التاريخ هو بعد من أبعاد التفكير العملي، والتكفير العلمي ليس شئ يظهر مرة واحدة في صورة إلهام يحدث في أنا واحد، وإنما هو عملية فيها كثير جداً من الأخطاء، وفيها كثير جداً من التصحيحيات، وفيها كثير جداً من التراجع، أو التقدم، والذي تكون حصيلته، والذي نسميها نحن "التقدم".. لكن كل هذا يحدث في إطار زمني.. وإذن فلا بد من الرجوع لهذا الإطار الزمني... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

المراجع

1- خالد قطب: فلسفة تاريخ العلم العربي: عبد الحميد صبره رائداً (دراسة)

2-أمسية ثقافية فاروق شوشة مع د عبد الحميد صبرة أستاذ تاريخ العلوم عند العرب (يوتيوب).

3- محمد زهران: الدكتور عبد الحميد صبرة... وتاريخ العلوم (مقال).

 

في المثقف اليوم