شهادات ومذكرات

محمد عبد العظيم طلب.. فيلسوف الاقتصاد (2)

محمود محمد علي"الثقافة الاقتصادية"

"الثقافة الاقتصادية"، تعبير أو مصطلح يبدو غريباً علينا، ويتساءل البعض منا ما هي علاقة الثقافة بالاقتصاد؟!. إلا أن الأمر عندما تخضعه للدراسة يصبح بديهياً لدرجة عضوية لا فكاك فيها بين علم الاقتصاد والثقافة. فقد عقد الكثير من الناس في الماضي على أن التنمية الاقتصادية تعتمد على الإصلاح، والعلم والتكنولوجيا، لكن في الوقت الحاضر يجب إضافة عامل الثقافة. وإضافة هذا العامل عدّ أساسياً في عملية تطوير أي بلد أو قومية أو حكومة، وأن الوعي الثقافي وثقافة الثقة بالنفس هي الخطة الأبرز لتقدم ثقافة أي نظام في العالم.

لقد كشفت لنا التجارب الحقيقية لنمو الشعوب وازدهارها، أن المجتمعات لا تنهض اقتصاديا دون النهوض بالتعليم والثقافة، وأي خطط تنموية تغفل هذا الجانب الثقافي المهم مآلها الفشل.

يقول علماء الأنثروبولوجيا إن الثقافة محدد مهم لقدرة الأمة على أن تزدهر، لأن الثقافة تصوغ أفكار الأفراد عن المخاطرة والجزاء والفرصة، حيث تعتبر القيم الثقافية مهمة لأنها تشكل المبادئ الأساسية التي ينتظم حولها النشاط الاقتصادي، وبدون نشاط اقتصادي يغدو التقدم مستحيلا.

قصدت أن أبرز هذه المقدمة لأكشف في هذا المقال عن قضية مهمة أكد عليها مراراً وتكرارا محمد طلب (مع حفظ الألقاب) ألا وهي انخفاض مستوى الثقافة الاقتصادية لدي الكثير من المثقفين العرب وغير العرب؛ حيث يري محمد طلب أن المعرفة الاقتصادية أو الثقافة الاقتصادية تعد مهمة للأفراد والحكومات . فعلى مستوى الفرد؛ تساعده على ترشيد قراراته الاقتصادية من إنتاج أو استثمار أو إذخار... الخ وكذلك، فإن الثقافة الاقتصادية تساعد الفرد منا على فهم ما يجري حوله من نزاعات وتحالفات دولية وعلى فهم طبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية بصفة عامة .

وعلى مستوى الحكومات، فإن وعي الناس بما يطبق من سياسات اقتصادية من حيث أهدافها وآلياتها يعتبر من العوامل المهمة في نجاح هذه السياسات في تحقيق أهدافها المعلنة، وذلك لأن الأفراد كما يري الدكتور محمد طلب عندما يزداد وعيهم بالسياسات الاقتصادية التي تتبناها الحكومة يغيرون ويعدلون سلوكهم الاقتصادي في الاتجاه المرغوب فيه .

فمثلا يؤكد محمد طلب أنه عندما يدرك الناس ما تتخذه الحكومة من سياسات أو إجراءات لتخفيض معدلات تضخم الأسعار، فإنهم يتوقعون انخفاضا في معدل التضخم، فيقل إقبالهم على السلع بغرض التخزين، وينخفض الطلب على السلع، والخدمات، ويتراجع بالتالي معدل التضخم، ويحدث عكس ذلك تماما عندما ينعدم الوعي بما يطبق من سياسات اقتصادية ويتوقع الناس ارتفاعا في الأسعار؛ فإن سلوك الأفراد في الاتجاه المعاكس، قد يؤدي إلى إجهاض أثر ما تتخذه الحكومات من سياسات . والأمثلة في هذا المجال كثيرة . وهذه الملاحظة تندرج تحت ما يطلق عليه الاقتصاديون أثر التوقعات على المتغيرات الاقتصادية .

وعلى الرغم من الأهمية البالغة للثقافة الاقتصادية فإن محمد طلب يلاحظ أن القراءة الاقتصادية في بلادنا مع الأسف قليلة جدا؛ ففيما عدا من دفعتهم حظوظهم لدراسة علم أو العلوم الاقتصادية فإن القليل من الناس من يقبل على القراءة في الاقتصاد ما لم يكن لهم مصلحة مباشرة في مثل هذا النوع من القراءات !.

ثم يؤكد محمد طلب علي أنه "توجد مصطلحات اقتصادية كثيرة شائعة الاستخدام لا يدرك الكثير من القراء معناها الحقيقي ! فهل يدرك كثير من غير المتخصصين مصطلحات اقتصادية شائعة الاستعمال مثل الناتج المحلي الإجمالي ومعدل نموه والفرق بينه وبين الناتج القومي؟، ومثل تعويم العملة وميزان المدفوعات والحساب أو الميزان الجاري؟، ومثل الموازنة العامة للدولة والعجز والفائض بها؟ ومثل الرقم القياسي لأسعار المستهلكين ومعدل التضخم؟، ومثل معدل البطالة، أو حتى مفهوم البطالة الذي لا يعرفه الغالبية العظمى من القراء؟ ... إلخ".

ثم يتساءل محمد طلب هذا السؤال: ما تفسير انخفاض الثقافة الاقتصادية في بلادنا؟

هنا يجيبنا فيقول: هذه الظاهرة أي ظاهرة تراجع الثقافة الاقتصادية تكاد تكون ظاهرة مصرية وعربية . ففي الدول الأخرى والمتقدمة بصفة عامة تجد أن الوعي الاقتصادي لدى الناس مرتفع وملحوظ جدا والناس هناك يدركون معاني المصطلحات الاقتصادية التي تبدو للقارئ عندنا لوغاريتمات لصعوبتها !!

ثم يستطرد محمد طلب قائلاً: دائما يتردد الرأي بأن الثقافة الاقتصادية ضعيفة لأن علم الاقتصاد علم صعب جاف قائم على المعادلات والرسوم البيانية والإحصاءات الكثيرة . وهذا الرأي غير مقنع وأقصى ما يقدمه من تفسير لنقص الثقافة الاقتصادية يعتبر محدودًا جدا. نعم، علم الاقتصاد ليس علمًا ممتعًا مسليًا؛ فالحديث في الاقتصاد لا يشبه الحديث في الشعر أو فن الرواية أو الفنون بصفة عامة أو علم النفس . لكن من قال بأننا نقرأ للمتعة والتسلية فقط؟! فبغرض المتعة والتسلية أو بدونهما، نحن نقرأ لنتعلم وندرك ما يدور حولنا . ومن ناحية أخرى ليست كل العلوم الاقتصادية غارقة في الرياضة والإحصاء؛ فيوجد ما يقرب من خمسين علمًا أو فرعًا تندرج تحت العلوم الاقتصادية أو اختصارا علم الاقتصاد وهي ليست كلها اقتصادا رياضيا أو قياسيا . ومن ناحية ثالثة، فإن العلوم الاقتصادية التي تعتمد على الأدوات الرياضية والإحصائية يمكن الحديث عنها وعما تتوصل إليها من معارف لعامة الناس دون الحاجة إلى ذكر المعادلات والإحصاءات، أي أننا نتحدث عن نتائج أو ما توصلنا إليه من تحليل هذه المعادلات والإحصاءات . ومن ناحية رابعة، فإن هذا الرأي لو كان صحيحًا لانطبق علينا وعلى غيرنا من الدول، فالعلوم الاقتصادية التي تدرس عندنا هي نفسها التي تدرس في الدول الأخرى.

لم بكتف محمد طلب بل يقول: قد يرى البعض أن ضعف الثقافة الاقتصادية راجع لضعف الثقافة بصفة عامة . ألم تبين الدراسات الجادة بأن المصريين والعرب بصفة عامة من أقل شعوب العالم في القراءة؟ ولكنني أسارع بالقول: بلى، ولكن القراءة الاقتصادية تعتبر قليلة مقارنة بغيرها من مجالات القراءة عند المثقفين ومن يقرأون حتى لو كانت نسبة القراء عندنا قليلة مقارنة بالدول الأخرى.

ثم يؤكد فيقول: أنا لست من الذين يدلون بآراء قاطعة لظاهرة لم تدرس بعناية ولكنني أرجح أن مسؤولية ضعف الثقافة الاقتصادية عندنا تقع على عاتق علماء الاقتصاد والتنفيذيين . فعلماء الاقتصاد عليهم تبسيط العلوم الاقتصادية وإتاحتها للقراء . ففي كل العلوم تقريبًا يوجد من يبسطها ويقدمها للثقافة العامة فأستطيع أن أضرب أمثلة كثيرة لمن قام ويقوم بتبسيط علوم مثل الهندسة والطب والزراعة والعلوم السياسية ... إلخ ولكن لا يوجد جهد مماثل يبذله علماء الاقتصاد فهؤلاء إما عاجزون أو متكاسلون أو خائفون؛ فيوجد طائفة من الباحثين الاقتصاديين عاجزة عن تبسيط العلوم الاقتصادية لأن القيام بذلك يحتاج لمهارة لا تتوفر لديهم فليس من يعرف يكون دائما قادرا على التبسيط . ومن ناحية ثانية، فإن من يقدر على التبسيط قد يتكاسل عن القيام بذلك لما يتطلبه من بذل الجهد والوقت. ومن ناحية ثالثة، فإن البعض من الباحثين الاقتصاديين القادرين على تبسيط العلوم الاقتصادية قد يحجمون عن ذلك خشية أن يتهمهم زملاؤهم أو حتى أساتذتهم بالسطحية وعدم التعمق ! وكأن الإنسان لكي يكون عالما يشار إليه بالبنان عليه أن يكتب بأسلوب صعب غامض يحتاج إلى قاموس متخصص لفك طلاسمه ! .

أما ما يتعلق بالتنفيذيين؛ فإن الكثير منهم كما يقول محمد طلب يميل للتعقيد وعدم الوضوح خشية المحاسبة ! فمن هم في جيلنا يذكر كيف أن أحد الوزراء في مصر استغل عدم إدراك الناس للفرق بين التوازن المحاسبي أو الحسابي للموازنة العامة للدولة وعدم توازنها الاقتصادي؛ فجميع الموازنات الحكومية متوازنة من الناحية المحاسبية لأنها قائمة على القيد المزدوج ولكن هذا التوازن الحسابي لا يمنع أن تكون الموازنة العامة بها عجز أي نفقاتها تفوق إيراداتها السيادية وأهمها الضرائب، وتكون هنا غير متوازنة اقتصاديا. استغل الوزير في عهد السادات عدم معرفة السادات وعامة الناس بالفرق بين التوازن الحسابي والتوازن الاقتصادي وأقسم -برحمة أمه - أن الموازنة العامة متوازنة ! وهو صادق في قسمه ولكنه كان مضللًا !!

وثمة نقطة أخري مهمة وجديرة بالإشارة نود أن نناقشها هنا في إطار حديثنا عن الثقافة الاقتصادية، ألا وهو الارتباط الوثيق بين التعليم والتنمية والذي لا يحتاج لأدلة وشواهد لإثباته كما يقول الدكتور محمد طلب ؛ فلا يمكن تصور وجود تنمية حقيقية بدون تعليم عصري عالي الجودة . أيضًا، التنمية هي الضمان لنجاح التعليم . فالعلاقة بين التعليم والتنمية كما يقول محمد طلب علاقة سببية فكلاهما ضروري للآخر . ونظرا لأهمية التعليم للتنمية فقد خصصت الأمم المتحدة غاية مستقلة له ضمن غاياتها لتحقيق التنمية المستدامة . وتنص هذه الغاية على ضمان التعليم الشامل والجيد للجميع مع تعزيز التعلم مدى الحياة.  وقد وضع لهذه الغاية وسائل تحقيقها وكذلك مؤشرات تساعد على متابعة التنفيذ.

في إطار العلاقة بين التعليم والتنمية يطرح محمد طلب تساؤلات أو قضايا حيوية نعرض لأبرزها باختصار فيما يلي:

١- ما أثر التعليم على النمو الاقتصادي؟ وما أثر النمو الاقتصادي على التعليم؟

٢- ما أثر التعليم على مستوى الفقر والتفاوت في توزيع الدخل بين فئات المجتمع؟

٣- ما أثر التعليم على الهجرة الداخلية من الريف إلى الحضر والهجرة الخارجية؟

٤- ما أثر تعليم الإناث بصفة خاصة على التنمية؟

فيما يتعلق بالقضية أو التساؤل الأول عن العلاقة بين النمو الاقتصادي والتعليم فقد لاحظ محمد طلب أن التقدم الذي أحرزته الدول الصناعية لم يكن نتيجة لامتلاكها الموارد المادية فقط بل السبب الأهم هو التعليم والاستثمار في رأس المال البشري فالعنصر البشري هو المخطط والمنفذ لكل عمليات النمو والتنمية .ومن ناحية أخرى فالنمو الاقتصادي يساعد على توفير التمويل اللازم للنهوض بالتعليم.

وفيما يتعلق بأثر التعليم على مستوى الفقر وعدالة توزيع الدخل، فالتعليم الجيد للجميع في نظر محمد طلب يؤدي إلى زيادة فرص العمل وزيادة الدخل لدى الفقراء وبالتالي تخفيض معدل الفقر وتحسين نمط توزيع الدخل. لكن مع الأسف، أظهرت الدراسات التطبيقية أن الأمر معكوس في الدول النامية فالفقراء هم أول من يتسربون من التعليم لحاجتهم إلى العمل كما أن مستوى تحصيلهم أقل مقارنة بالأغنياء بسبب سوء التغذية وانخفاض المستوى الصحي وعدم قدرتهم على الحصول على دروس خاصة. أضف إلى ذلك، بسبب تركيز التعليم المجاني في الدول النامية على الكم بدلا من الكيف مع إتاحة التعليم الخاص الأكثر جودة أمام الأغنياء ضاقت فرص حصول الفقراء على الوظائف الجيدة التي أصبحت حكرا على الأغنياء . وبالتالي يصبح التعليم في الدول النامية بوضعه الحالي باعثا على الفقر ومعززا للتفاوت غير العادل في توزيع الدخل !!

وفيما يتعلق بأثر التعليم على الهجرة الداخلية من الريف إلى الحضر فقد لاحظ محمد طلب في الدول النامية أن التعليم السائد في هذه البلدان يشجع على ترك القرى والهجرة إلى المدن الكبرى لمواصلة التعليم العالي والدراسات العليا وكذلك للحصول على فرص للعمل والاستفادة من التسهيلات المعيشية التي لا تتوفر في الريف الفقير. ومثل هذه الهجرة تضغط على المرافق والمساكن وتعمل على تضخم المدن وخلق أحياء عشوائية.

كذلك تعمل أنماط التعليم والحياة السائدة في الدول النامية على الهجرة الخارجية وهي الظاهرة المعروفة بهجرة العقول أو نزيف العقول. وتساعد هجرة العقول إلى حرمان الدول النامية من تحصيل مردود التعليم وزيادة الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة.

وأخيرا قضية تعليم الإناث، لقد بينت الدراسات المتاحة أن العائد المجتمعي من تعليم الإناث يفوق العائد من تعليم الذكور ! فتعليم المرأة يعمل على تخفيض عبء الفقر ويرفع من مستوى صحتها وصحة أولادها وهذا بالطبع له مردود إيجابي على التنمية . أضف إلى ذلك، فقد لاحظ محمد طلب أن تعليم الإناث يعمل على تأخير سن الزواج وتخفيض حجم الأسرة ومعدل المواليد مما يؤدي إلى تخفيض معدل النمو السكاني الذي يعوق التنمية؛  يقول محمد طلب: لا أعرف قضية عليها إجماع وطني مثل قضية التعليم في مصر فهي قضية المجتمع المصري كله بل هي أزمة المجتمع ! والدراسات والتوصيات بشأنها توجد في أدراج جميع مراكز البحوث والمعاهد المتخصصة. وكل ما نملكه هنا هو الإلحاح في المطالبة بإصلاح التعليم الذي ثبت أن له مردودا تنمويا بالغ القيمة .

ثم يلفت محمد طلب الانتباه إلي عدة نقاط ضرورية. أولا، إصلاح التعليم يجعل مصر قادرة على إقامة الصناعات الحديثة والتكنولوجيا المتطورة وأن تتبوأ المكانة التي تستحقها أسوة بالدول التي كانت حتى الستينيات من القرن الماضي في ظروف أسوأ من ظروفنا مثل كوريا الجنوبية وغيرها ! ثانيا، لابد من مراجعة البرامج والمقررات ووضع آلية للتطوير المستمر حتى تواكب العصر. ثالثا، ضرورة إعداد المعلم ومكافأته حتى يستعيد دوره التعليمي والتربوي الذي تراجع كثيرا أمام الدروس الخصوصية والتعليم الموازي. رابعا تطوير طرق التدريس بالبعد عن التلقين وتنمية القدرة على النقد والابتكار. خامسا، إعادة النظر في لغة التدريس فلم تعد العربية اللغة التدريسية الأولى في جامعاتنا ومدارسنا . هذا فضلا عن تدني مستوى اللغة العربية عند القائمين باستخدامها كلغة تدريس وغلبة اللهجة العامية عليهم . رابعا، مراجعة مجانية التعليم فقد لوحظ مع زيادة الإنفاق على التعليم تزداد المخرجات سوءا بسبب الاهتمام بالكم على حساب الكيف. فلماذا لا يدفع الطلاب الأغنياء؟

سادسا، أدرك أن إصلاح منظومة التعليم العام في مصر يحتاج إلى تمويل لا يتوفر في الظروف الراهنة حيث تعاني الدولة من العجز المزمن في الموازنة والعبء الثقيل والمتزايد للدين العام. ولكن بإعادة ترتيب أولوياتنا وتنفيذ الاستحقاقات الدستورية الخاصة بالإنفاق على التعليم سوف ننعم جميعا شعبا وحكومة بالمردود الاقتصادي للتعليم وما أعظم هذا المردود وتجارب الدول في الماضي والحاضر شاهدة على ذلك ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم