شهادات ومذكرات

انهضْ فهناك من يفهم ما تعيشهُ في وجدانِك وعقلِك

خليل المرخيمنذ أن اطّلعت على سيرة د. عبدالجبار الرفاعي من خلال العدد الخاص لمجلّة (الموسم) الفصلية التي تعنى بالآثار والتراث، في كتابها التذكاري لسنة ٢٠١٤م الجزء (١٠٥)، تولّد لديَّ الشغف بمتابعة نتاجه الفكري.. وقد وجدتُ فيه الفكرة الجديرة بالترويج، واللغة المُنقِذة من التيهان بين صراعات أصحاب التيارات المتناحرة باسم الدين سياسيةً كانت أو حوزوية.

له المنّة علينا بهذا الطرح الذي وجدتُني غيرَ متردد بالإشارة إليه، وإرشاد الباحثين عن الرؤية المُقنِعة للفهم الديني، بروحٍ سمحةٍ، وعقلٍ خبيرٍ في الفصل بينَ ذاتيّة أصحاب الخطاب الديني وما تحويهِ من خصوصياتٍ نفسية، وتأثيراتٍ بيئية وتاريخية وبينَ الجوهر المجرّد للفكرة الدينية الصافية للاطلاع عليه بمحبةٍ وانفتاح.

ولله الحمد فقد وجدتُ في كل من دللتهم على النتاج الفكري للدكتور الرفاعي امتنانًا بالغًا لهذه النصيحة، فصاروا يتابعون ما يصدر عنه قدر الإمكان.

أمثاله يختصرون من خلال تجاربهم الكثيرة الثرية طريقًا طويلًا على الباحثين عن منهجية متوازنة في فهم الدين والحياة.

ممّا تولّد في ذهني وأنا أقرأ تجربته الشخصية من خلال السيرة الذاتية التي دوّنها في (الدين والظمأ الأنطولوجي)، أنّ هذه التجربة الثرية وما خرج عنها من نتائج يمكن أن تمثّل طوق نجاةٍ للكثيرين الذين لا يزالون في صراعاتهم الداخلية بين التراث الذي نشؤوا عليه منذ الطفولة، والواقع المتضارب الذي يعانون أجواءَه، والمستقبل المنظور الذي يخافون من عدم قدرتهم على بلوغهِ.

شكّلتْ كتابات الدكتور الرفاعي بالنسبةِ لي، صدًى كنتُ أترّقب أن يطرُق سمعي في وقتٍ اختلطتْ فيه الأصوات الناطِقة باسم الدين، وكان هذا الصدى الذي لا يزال يتردد:

"انهض فهناك من يفهم ما تعيشه في وجدانك وعقلك". وأن تغتربَ عن الانسجام مع واقعٍ مشوّهٍ، خيرٌ من أن تغتربَ عن الانسجام مع نفسكَ وعقلك.

1638 مؤلفات الرفاعي

كان أحد أعز أصدقائنا من حملة الدكتوراه يعيش حالةً نفسيّة صعبة بسبب الإحباط من الطرح التقليدي للخطاب الديني (المسموع والمقروء)، فاقترحتُ عليه كتاب (الظمأ الأنطولوجي..) فصار بعدها (متخصصًا في شرح عباراته)، حتى أنّ ملاحقته لما يصدر باسم الدكتور الرفاعي سبقتني بمراحل.

مشكلة الواقع عند شبابنا في مجتمعاتنا الدينية المحافِظة، أنهم بسبب تكثيف الخطاب الديني التقليدي، فضلًا عن المتوحّش، صاروا بين خياراتٍ صعبة:

إمّا التماهي مع هذا الخطاب، والتحوّل لجنودٍ مغسولي الأدمغة يدافعون عنه بشراسة أكثر من شراسة أصحابه، وكأنهم كالذي يخمشُ وجههُ بأظافرهِ، ولا يستطيعُ أحدٌ إنقاذه من خطر نفسهِ على نفسهِ وعلى غيرهِ.!

أو، التنكّر الكامل للتديّن، والتمرد على الحالة الدينية الشائعة بكل جرأة ودون مبالاة، حتى صار التحدي لكل المظاهر الدينية هو العنوان الذي يتفاخرون بهِ، رغمَ معاناتهم الروحية بينهم وبين أنفسهم!

أو، حياة التناقض بين القناعات المُضمَرة، والقناعات المُعلنة. وهي حالة المعاناة بصمتٍ، والمجاهدة للبحث عن الثغرات التي يعبّرون فيها عن هذه المعاناة رغم الحذر، وتقديم رِجل وتأخير أخرى.

أمّا خطاب عبدالجبار الرفاعي، فعلى الرغم من قدرته الفائقة على تقديم الحل لخصوص أتباع الخيار الثالث، إلّا أنّه لا يزال في دائرة المحرّمات عندَ أتباع الخيار الأوّل الذين يشكّلون القوة صاحبة الصوت الأعلى، والأدوات الأمضى في فرض حضورها الاجتماعي، باعتماد آليات الإرهاب الفكري، ومنها تفعيل أداة (الحرمان الديني) التي يخشاها أغلب أبناء المجتمع؛ لأنها تعني، ببساطة، النبذ من المحيط الذي لا مناص من التعايش مع سلبياتهِ، باعتباره البيئة التي ينتمون إليها.

غير أنّ التجربة أثبتت أنّ صوتًا كصوته يمكنه أنْ يجد الآذان الصاغية عند شريحة مهمّة؛ لذلك يشكل قلقًا للمتوحّشين. وهذا ما يؤكّد على أصحاب الطرح التنويري المتوازن أنْ يقوموا بدورهم في تقديم الصورة الجميلة للإسلام، كي لا تكونَ الحاكمية في الإعلام للنموذج المُعاق الذي لا عنوان له إلا: الخرافات، والتزمّت، والسوداوية، واختلاق المعارك والصراعات..

نسأل الله له التوفيق والسداد، ونأمل أن تتجذّر رؤيته الإصلاحية في مجتمعنا المُتعَب من خلال الاستمرار في الإصدارات النوعية النافعة.

 

خليل المرخي - كاتب من البحرين.

 

 

في المثقف اليوم