شهادات ومذكرات

أحمد أبو زيد.. شيخ الأنثروبولوجيين العرب (2)

محمود محمد علينعود ونكمل  حديثنا عن شيخ الأنثروبولوجيين العرب الدكتور أحمد أبو زيد؛ وهنا نتحدث عن كتابه "البناء الاجتماعي"؛ حيث نجده كما يذكر سامي خشبة يقدم في البداية دراسة نقدية لنظرية البناء الاجتماعي البريطانية عند رادكليف براون، والفرنسية وهي أصل الأولي عند إميل دروكايم (والتي كانت شائعة في مصر) . وفي هذه الدراسة يكشف العلاقة بين النظريتين: فدوركايم يركز علي النسق الايكولوجي (أو البيئي) الذي ينعكس في مورفولوجيا (أو تركيبة المجتمع) وبروان يركز علي وظائف (فيزيزلوجيا) الأنساق الاجتماعية وتفاعلاتها، ويخرج أبو زيد من دراسته النقدية لهما بتصور خاص ومعرفة جديدة كما يقول سامي خشبة عن العلاقة بين تكوين البناء الاجتماعي وبين " التغير الاجتماعي" مبتعدا عن النزعة الاستاتيكية (الجامدة) والوصفية لدي أساتذته ومكسبا للنظرية فهما حركيا بصيرا بعمليات التغير الاجتماعي وعواملها ودوافعها . وفي الجزء الثاني يطبق " فهمه" للنظرية علي حد تعبيرة أو " نظريته " ليكشف طبيعة التفاعل بين كل من " الأنساق الإجتماعية": النسق البيئي والاقتصادي والقرابي، ثم انساق " الضبط الاجتماعي ": السياسي والقانوني والديني . وكان المهم أن جميع " أمثلته" أخذها من نتائج  دراساته الميدانية في مصر وجنوب السودان وشرق أفريقيا وغربها الملاصق عبر الصحراء للمغرب العربي أي  أنها  كانت نتاج خبرة شخصية نتجت عن بحث منهجي ميداني منظم وليست نقلا عن تجارب وخبرات آخرين ؛ ويستمر أحمد أبو زيد إلي الآن في بحوثه الميدانية مركزا علي قبائل وسكان سيناء المصرية الذين نشر أبحاثه عنهم (مشرفا علي فريق من مساعديه وتلامذته) في مجلدين عامي 1994، 1995، علي التوالي .

وفي كتاب: " المدخل إلي البنائية" أوضح العلاقة: " الأصولية بين البناء الاجمتاعي والنظرية البنائية التي تدرس الأنساق الفكرية الكامنة وراء البناء، والأسس اللغوية العقلية للبناء الاجتماعي من وجهة النظر البنائية وأهم مفكريها: ليفي ستروس وتلامذته والخارجين عليه المعاصرين: ميشيل فوكو ورولان بارت بشكل خاص وجاك دريدا ونزعته التفكيكية  . كما أصدار دراسته النقدية  عن: " ما بعد البنائية" التي يدرس فيها أفكار المخالفين لفوكو: جاك لاكان وجوليا كريستيفا، وفي، وفي عام 1992 أصدرت: " نظريات رؤي العالم ": دراسة ميدانية "، وذلك في عدد خاص من مجلة المركز القومي للبحوث الاجتماعية (قبل أن يصدره المركز في شكل كتاب) وكان ذلك استعدادا لإصدار كتابه الذي إنتهي من إعداده : رؤي العالم لدي المصريين المعاصرين .

وثمة إضافة أخرى قدمها أبوزيد كما يذكر سامي خشبة فيما يخص عينة البحث الأنثروبولوجي، حيث الأسلوب الغالب اعتمد اختيارها بطريقة عشوائية، لكن أبوزيد كما يري سامي خشبة عدّل هذا الأسلوب إلى الاختيار المتعمد، فيما تطلب الأمر شروطا معينة في المبحوثين الرئيسيين أو الإخباريين، ممن يقيم معهم علاقات وثيقة، دون أن يمنعه ذلك بطبيعة الحال من التواصل مع أكبر عدد ممكن من أعضاء المجتمع المبحوث.

إن المشكلة الرئيسية التي تواجه الباحث الميداني، تتمثل كما يذكر سامي خشبة في التغلب على الحواجز التي تحول بينه وبين فهم القيم والمعاني المحلية، والتي قد تختلف اختلافا جذريا عما يحمله الباحث من قيم ومعان، دأب أبوزيد على تنبيه الباحثين إلى خطورة فرضهم لقيمهم الخاصة، وضرورة امتلاكهم بصيرة الاحترام العميق لثقافة مبحوثيهم.

وفي مجال تطوير أدوات الجمع الميداني، أبدع أبوزيد في تقنين أدلة العمل الميداني، كمرشد للباحثين في جمع البيانات، مع إعطائهم الحرية في عدم التقيد الحرفي بما ورد في الدليل أو ترتيبه، أثناء حوارهم الحي مع المبحوث

وفي أدبيات البحث الأنثروبولوجي، يثار الالتباس أحيانًا كما يقول محمد حافظ دياب حول طبيعة العلاقة بين التأمل النظري والمعايشة الميدانية، خاصة مع اعتبار كل منهما مكونًا بحثيا مستقلا عن الآخر، فيما أكد أبوزيد على تداخلهما وتلاحمهما، انطلاقًا من أن ممارسة العمل الميداني في هذا البحث يجب أن تكون مسلحة بخلفيات ومعرفة نظرية، في الوقت ذاته الذي يساعد على جمع المعطيات الميدانية على الخروج بإضاءات نظرية، وبالذات ما يرتبط بتواصل الظاهرة المدروسة بظواهر أخرى ضمن نظام اجتماعي معين.

وقد ترجم أبوزيد تداخل وتلاحم التأمل النظري والمعايشة الميدانية كما يقول محمد حافظ دياب، حين رأى ارتباط هذه المعايشة بالإطار التصوري والإعداد الببليوغرافي واختيار مجتمع البحث وجمع بيانات مدونة عنه، حتى يكون الباحث قادرًا على استيعاب ما يلقاه من ظواهر وملاحظات، على نحو أغنى وأعمق مما تقدمه الأساليب الأخرى كالمسوح الاجتماعية والتوثيق المكتبي، بالنظر إلى إمكانات العمل الميداني غير المحدودة في استخدام أساليب الملاحظة والمقابلة ودليل العمل الميداني والتصوير الفوتوغرافي والتسجيل الصوتي والفيلم الإثنوغرافي. ذلك أنه، ومنذ البداية، رفض أبوزيد هيئة الأنثروبولوجي النظري، المعتمد على الأفكار التطورية أو اللاانتشارية، كشخص منذور لإعادة تشكيل البشرية ورسم مساراتها، مفضلاً المستكشف الميداني والمرتحل في كل المواسم. آزره في ذلك، معاينة الأنثروبولوجيا كعلم يقف قريبا من الخبرة المعيشية للأفراد، وأن لمشتغلي هذا العلم ميزة نسبية على نظرائهم الباحثين في علم الاجتماع، بسبب خبرتهم القريبة تمامًا من حياة الناس وخطابهم.

وذكرت سعاد عثمان في مقال لها حول «تكامل المنهجية عند أحمد أبوزيد»، الذي تعتبره رائد الجيل الحالي من الأنثروبولوجيين المعاصرين، حيث خلصت في المقال إلى أن هناك ركائز أساسية أراها شاخصة في أعماله هي: الاهتمام البالغ بالإطار النظري أو المفاهيم النظرية، والالتزام بالحبكة المنهجية، والشغف بالدراسة الميدانية، ومن ثم فهو مدرسة بحثية أكاديمية مكتملة الأسس والأركان. وبالتالي فإن القارئ – المهتم - بأعماله إذا تفهم توجيهاته الرصينة الناعمة التي لا يدركها ولا يشعر بها إلا من يمتلك الحس الأنثروبولوجي يمكنه أن يتعلم الدرس ويعرف كيف يجري بحثًا علميًا أنثروبولوجيًا. فتحاول أن تستخلص من كتاباته فحوى ما قصده حين قال: «إن الباحث الأنثروبولوجي الجاد لا يكتفي بالمناقشات النظرية أو بالدراسات الحقلية أو الميدانية التي لا تستند إلى نظريات محددة واضحة المعالم، بل يحاول المزاوجة بين الاثنين بقصد الوصول إلى تحقيق دقيق وفهم عميق للمجتمع الذي يدرسه». حيث وجدت أن الإجراءات المنهجية الأنثروبولوجية لدى أبوزيد هي: الجمع بين الأصالة والتجديد، وأدوات الجمع الميداني، من: المسح الاجتماعي، إلى الملاحظة بالمشاركة.. إلخ.

ويقدم د. فاروق أحمد مصطفى، مقالا حول أحمد أبوزيد والبداوة في الوطن العربي، وقد عنونه «كشف الغمة فى أسباب فرقة الأمة»، ويشرح فيه أسباب اهتمام العالم الأنثروبولوجي الجليل أحمد أبوزيد بالبداوة في الوطن العربي والمجتمعات الصحراوية، مثل: الواحات الخارجة (مصر)، وجماعات البدو الرحل في الصحراء الغربية (مصر) والصحراء السورية وصحاري الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تجلى شغف وحب أحمد أبوزيد بالبداوة وبالمجتمعات الصحراوية في دراسته (قصة الصحراء) التي نشرها كدراسة مستفيضة توضح مدى حب وشغف الأستاذ المبدع، والتي توصل فيها إلى أن الرحلة والتجوال الدائمين اللذين يقوم بهما البدو ليسا تحركات عشوائية وإنما حركات دائرية وحركات منظمة تفرض نوعًا من حقوق الرعي. وأن كل التقسيمات والتصنيفات عبارة عن تميزات تقسيمية وتقريبية إلى حد كبير مثل البدو الحقيقيين وأنصاف البدو والصغار. وأن هناك علاقات تكافل قوية بين جماعات البدو الرحل وأنصاف الرحل من ناحية الجماعات القبلية المستقرة في الصحراء والتي لا تزال تحتفظ بتنظيمها القبلي التقليدي رغم استقرارها وتحولها إلى الزراعة ورغم احتفاظها ببعض الماشية التي تسند أمر الاهتمام بها إلى رعاة مأجورين مثل الجماعات القبلية على الأطراف الشرقية والغربية لدلتا النيل أو على طول الساحل الشمالي الغربي.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور أحمد أبو زيد الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور أحمد أبو زيد، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

........................

المراجع

1- سامي خشبة: مفكرون من عصرنا .. ص 41-45 .

2- محمد زهران: الدكتور أحمد أبو زيد.. رائد الأنثروبولوجيا في مصر والعالِم الكوزموبوليتاني – مقال بجريدة الشروق المصرية.

3-أحمد مرسي: أحمد أبو زيد، مجلة الفنون الشعبية، العدد 96-97، لعام 2014.

4- محمد حافظ دياب: أحمد أبوزيد: رائد البحث الميداني- موقع أرنتروبوس.

5- سعاد عثمان حول: تكامل المنهجية عند أحمد أبوزيد (مقال).

6- د. فاروق أحمد مصطفى:  أحمد أبوزيد والبداوة في الوطن العربي(مقال).

 

في المثقف اليوم