شهادات ومذكرات

مها كامل غانم.. ملاك الرحمة في زمن جائحة كورونا

محمود محمد علياعتني القدماء من المترجمين في مصنفات تراجمهم بجمهرة من أعلام النساء، ومنهم من خصهن بمصنفات خاصة ليس هنا في هذا المقال مجال لسردها، وذلك لأنهم لم يغفلوا أدوار النساء في مشاركاتهن في الحياة العامة وأدوارهن الطلائعية في مجتمعاتهن . وكانت النسوة من جيل الصحابيات وأمهات المؤمنين وآل البيت من أوائل ما سُطر وحُرر في هذا الباب توثيقاً لأدوارهن في مسار الدعوة الجديدة وما تلاها من محن وابتلاءات وفتن متعددة . ولعل من أجود من تتبع تفاصيل نساء المجتمع النبوي من المتأخرين المرحوم عبد الحليم أبو شقة (ت 1995) في سفره النفيس " تحرير المرأة في عصر الرسالة"، واحصي في أجزائه الستة جملة من تراجم الصحابيات، وتتبع دقائق حركتهن وإسهاماتهن في الدعوة ومشاركتهن في الحياة العامة. وفي العصر الحديث، وبالذات في الأدب الفرنسي وجدنا الكاتبة الفرنسية "سيمون دي بوفوار" ؛ تقول " لا تولد المرأة امرأة وإنما تصير كذلك".

ومن هذا المنطلق تنحو غالبية الدراسات الهادفة إلي تبيان مكانة المرأة في المجتمع، إلي اعتماد منهجين في مقاربتها للموضوع ؛ فإما منهجاً تحليلياً ينزع أحياناً كثيرة باتجاه المثالية، فيشدد بالدرجة الأولي علي مستويات الثقافة والتنشئة، متجاهلاً أهمية البني الاجتماعية التي تحكم تلك المستويات، وإما منهجاً وضعياً يروي بعض الوقائع والآراء والأقوال. وقد يعمد الكاتب إلي اعتماد المنهجين معاً لدعم وتأكيد الهدف الذي يصبو إليه من خلال كتاباته.

وفي هذا المقال سوف ألتزم بالمنهجين  منطلقاً من توجه ثابت ومحدود، وهذا التوجه  يعول علي أن معيار التقدم والرقي في أي بلد هو مشاركة المرأة في صنع القرار السياسي وقيامها بدور أساسي في بناء مجتمع أكثر رقيّ وديمقراطية، ولن ينجح أي بلد مهما كان شأنه في رسم خطوط الديمقراطية ما لم تكنِ المرأة شريكاً مناصفاً وعلى مستوى عالٍ من الوعي بمسؤوليتها في المجتمع والسلطة والحكم.

وفي سياق الاهتمام بالمرأة ومع تعدد وتنوع قضاياها واحتياجاتها فهي كغيرها تواجه التحديات التي تواجه أجيال هذا العصر والأجيال القادمة والمتمثلة في المشكلات البيئية بمختلف أنواعها وأشكالها، والتي يتطلب التعامل معها قناعة شخصية والتزاماً مجتمعياً بضرورة ترسيخ أولويات المحافظة علـى البيئة والموارد الطبيعية كهدف للتنمية المستدامة التي تضمن لهذه المجتمعات رفاهية مرتبطة ببيئـة نظيفة لا تعوق مسارها بل تؤكد استمرارها.

ويهتم العالم اليوم بترسيخ مبادئ المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية كقاعـدة أساسية للتنمية المستدامة، ويتطلب تحقيقها المشاركة الشعبية الفاعلة بكل مستوياتها الاجتماعية، بالإضافة إلى الجهد الحكومي على الصعيد السياسي والتشريعي والقانوني لكي يتم تأمين البيئة النظيفة للمجتمعات مع تحقيق أسباب الاستدامة.

وتأكيداً للدور الكبير الذي تؤديه المرأة باعتبارها نصف المجتمع، وبما لها من دور في المحافظة على الموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة، من خلال دورها التاريخي في تنشئة وتربيـة وتعليم وتوعية أجيال المستقبل ضمن دورها الريادي في رعاية الأسرة وتحديد أنماط السلوك وترشيد الاستهلاك؛ هذا بالإضافة إلى الدور المتزايد للمرأة العاملة فقد أولت الدول والمنظمات العربية والإقليمية والدولية اهتماماً كبيراً بترسيخ دور المرأة في تحقيق التنمية المستدامة داخل وخارج نطاق الأسرة.

ومن الأسماء النسائية التي سطع نجمها، وآتت شجرة كفاحها ثمار تفوقها الأستاذة الدكتورة  مها كامل غانم- أستاذة أمراض الصدر بكلية الطب بجامعة أسيوط  بجمهورية مصر العربية، حيث وهَبَت الأستاذة الدكتورة مها غانم حياتها كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظلت اهتماماتها الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن . وكانت تعتقد أن قدراتها الخاصة لا تقل بحال من الأحوال عن قدرات أي باحث مماثل لها في أوربا . لذلك فإن حوارها مع كبار الأساتذة في أوربا وأمريكا (عندما زارت بعض دولهما قبل جائحة كورونا)، كان يتسم بالندية . وكانت تصحح الكثير من آرائهم بالاعتماد علي المنهج العلمي الحديث في البحث والدرس الخاص بالأمراض الصدرية.

كما تعد الأستاذة الدكتورة مها غانم أول سيدة تتبوأ منصب نائب رئيس جامعة أسيوط، منذ تاريخ إنشاء الجامعة فى 1957، وهو ما يعكس ثقة الدولة في المرأة المصرية، وحرص القيادة على إتاحة الفرصة الكاملة لها لتقلد مختلف المناصب الرفيعة القيادية؛ علاوة علي أنها تمثل نموذج حقيقي لنضال المرأة المصرية فى سعيها للتميز والنجاح؛ حيث أبحرت بين أصعب الدراسات في الأمراض الصدرية في لغاتها الأصلية، وظلت تثق بنفسها وصريحة إلي حد التطرف في المصارحة والبعد عن المداهنة ولا تقول لنا إلا الحق، ولا شك أن إسهاماتها ستظل علامة مضيئة للمرأة المعاصرة، وهي ظاهرة لا تتكرر كثيرا بين النساء الصعيديات بمصر المحروسة.

وقد بدأت الأستاذة الدكتورة مها غانم حياتها الجامعية بحصولها على درجة البكالوريوس من كلية الطب جامعة أسيوط عام 1987، ثم تعيينها معيد بقسم الأمراض الصدرية بكلية الطب عام 1991، ثم حصلت على درجة الماجستير عام 1992، ورقيت إلى درجة مدرس مساعد بالقسم ذاته في نفس العام، ثم حصلت على الدكتوراه في أمراض الصدر والتدرن من كلية الطب عام 1999 لتصبح مدرساً بالقسم ذاته، وحازت علي جائزة الرعاية الفضية من الجمعية الأوربية للجهاز التنفسي لفضل الأبحاث في فيينا عام 2009، وواصلت مسيرتها العلمية المتميزة بترقيتها أستاذاً مساعداً بقسم الأمراض الصدرية عام 2005، ثم واصلت نجاحها حتى حصولها على درجة الأستاذية عام 2010.

ولم تكتف الأستاذة الدكتورة مها غانم بالإلمام بمقتضيات البحث العلمي في مجال دراسات أمراض الصدر والحساسية أو ترسيخها في قلوب وعقول تلامذتها وكل من يستمعون إليها، بل كان لها السبق في استبطان عقول من تشرف علي رسائلهم ؛ بمعني أنها كان مقتنعة تماماً بأن لكل باحث شخصيته وميوله، فمنهم من يميل إلي المنهج التاريخي المقارن، ومنهم من يميل إلي التحليل والتعمق، في حفر الأفكار، فلم تحرم الدكتورة "مها غانم" هؤلاء أو هؤلاء من ميولهم، ولكنها أضافت إليها، فحافظت علي شخصية تلاميذها والقواعد العلمية في آنا واحد، مما يندر أن يتوفر عند أساتذة كثيرين.

لقد تفردت الأستاذة الدكتورة مها غانم بفضيلة الجمع بين الأستاذية والصداقة لتلاميذها لدرجة كان يشعر معها هؤلاء التلاميذ أنهم يتحدثون ليس إلي أستاذتهم بل إلي صديقتهم الودودة التي لا تمل من شكواهم ولا تضيق بمشكلاتهم.

إنها الأستاذة التي كانت تؤمن بأن قيم الإنسانية تفوق قيم الأستاذية، وأن البحث العلمي والتقدم الاكاديمي لطلابها وتلاميذها مرهون بإحساسهم بالأمان إلي جوارها والأنس إلي رفقتها ومحبتها .ولذلك ضاقت المسافات بينها وبينهم رغم فارق السن والخبرة والأستاذية، إنها علي دراية بكل دقائق حياتهم تفتح لهم مكتبتها وتهبهم الساعات الطوال في صحبتها، لا تبخل عليهم بنصيحة ولا تتوقف عن رعايتهم ماديا وأدبيا وعلميا، والمدد عندها لهم بلا حدود؛ لقد اختلطت بهم واختلطوا بها حتي أصبحوا في مرتبة أصدقائها النجباء دون تكلف أو ادعاء مع حفظ المسافات بينها وبينهم .

وعندما أطلت علينا جائحة كورونا بوجهها القبيح في أوائل يناير 2020 م كانت الأستاذة الدكتورة مها غانم أحد خط الدفاع الأول من الأطباء العظام في وقت الأزمات بجامعة أسيوط، حيث أخذت تبذل سيادتها جهداً مضاعفاً للعناية بمئات للمصابين بفيروس كورونا بصعيد مصر، مما قد يعرض حياتهم للخطر، واليوم تضرب الأستاذة الدكتورة مها غانم بجهودها أكبر مثال عندما يقع الناس في أسيوط تحت تهديد خطر فيروس كورونا المستجد الذي أوقف الحياة في شرايين الدول، فنجدها من قلب مستشفيات جامعة أسيوط ( بجانب الأستاذ الدكتور طارق الجمال رئيس الجامعة، والأستاذ الدكتور "شحاته غريب" نائب رئيس الجامعة لشؤون التعليم والطلاب، والأستاذ الدكتور "أحمد المنشاوي" نائب رئيس الجامعة للدراسات العليا،) بطلة، غارقة في معاطف بيضاء، تتخذ القرار في محاربة الوباء لاستمرار الحياة..  وتقضي كل أوقاتها في المستشفيات ولا تقابل أبنائها وأحفادها : إما خوفا من العدوي أو لعدم كفاية الطاقم الطبي.. لقد قدمت الأستاذة الدكتورة مها غانم يقدمون تضحيات وبطولات، بل وأحيانا تجدها تصاب بالإرهاق الشديد؛ خاصة في بؤر الوباء.

إن الأستاذة الدكتورة مها غانم من الأساتذة الجامعيين الطبيبات العظميات اللاتي وقفن في الخطوط الأمامية، حيث اصطفت مع زملائها من الجيوش البيضاء أمام عدو لا يري، حيث سلمت ووهبت نفسها وروحها لخدمة الوطن .. امرأة لا أملك إلا أن أقول عنها لقد صدقت ما عاهدت الله .. فكانت سندا يستند عليها هي وغيرها من الطبيبات المصريات العظيمات الشخص السليم والمريض وحتي المعافي.. امرأة طبيبة وأستاذة جامعية من الطراز الفريد إلا أن الكورونا حولتها إلي جندي كتائب (في حين أنها جنرال من الدرجة الأولي)، همها الوحيد القضاء علي فيروس كورونا الذي تجاوز حدود الوطن دون إذن، وتربص بأرواح وصحة المواطنين..

تحية طيبة مني خاصة للأستاذة الدكتورة مها غانم التي أبت إلا أن تضع بصمة مميزة في وطنها الحبيب، وأن تساهم في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام ؛ حيث يحاول الكثيرون فيه أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لمها غانم تلك المرأة العظيمة التي لم تغيرها السلطة، ولم يجذبها النفوذ، ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم