شهادات ومذكرات

الأزهر منارة العالم الإسلامي التي لا تغيب (2)

محمود محمد علينعود مرة أخري ونكمل كلامنا حول الأزهر الذي يمثل بحق منارة العالم الإسلامي فنقول::" للأزهر الشريف تأثيره ودوره الحضاري والديني والثقافي عبر العصور، مما جذب المؤرخين والكتاب للاهتمام بتاريخه ومواقفه عبر العصور، فكتبوا عنه الكثير من المؤلفات، ومن تلك الكتابات الكتاب الرائع الذي كتبه الأستاذ حلمي النمنم بعنوان " الأزهر الشيخ والمشيخة"، وهذا الكتاب كما عرضت له الدكتورة سحر سامي يتميز بالكثير من الموضوعية، فهو يعد بحق قراءة للتاريخ، تنبع من نقطة محورية هي تاريخ مشيخة الأزهر ونشأة وتطور منصب المشيخة، انطلاقاً نحو تاريخ مصر كاملاً من الناحية الاجتماعية والسياسية بدءً من العصر الفاطمي الذي تم فيه بناء الأزهر الشريف، وحتي اللحظة الراهنة .

إن مرور 1080 عاما هجرياً على بدء العمل في إنشاء صرح الإسلام العظيم الممثل في الأزهر الشريف و 1078عاما على افتتاحه للصلاة  خير مناسبةً للحديث عن مكانة الأزهر وعن دوره في حماية الهوية الثقافية العربية الإسلامية، والدفاع عن قيم الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، ونشر العلوم الشرعية واللغة العربية، والتصدّي لتيارات التطرف والغلوّ التي تشذ عن صحيح الدين وتنحرف عن جادة الحق ومحجة الصواب، فالأزهر مؤسسة تعليمية ثقافية علمية ومجمع للعلوم الإسلامية وللبحوث والدراسات التي تخدم الثقافة والفكر الإسلاميين، والتي تقدم زاداً معرفياً روحياً للمسلمين في كل مكان، وهو إلى جانب ذلك كله منتدى لأعلام الدعوة وشيوخ العلم وأقطاب الفكر والثقافة الإسلامية، فمن هيئاته الرئيسَة، مجمعُ البحوث الإسلامية، وهيئة كبار العلماء، والمجلس الأعلى للأزهر، إلى جانب جامعة الأزهر، التي تضم أكثر من خمسين كلية تستوعب الآلاف من الطلاب، وشبكة واسعة من المعاهد الأزهرية، وهي المدارس الدينية التي منها ينتقل الطلاب إلى جامعة الأزهر، ويبلغ عددها الألاف من المعاهد، تغطي مختلف أنحاء مصر وللأزهر حضورٌ واسعٌ في عدد كبير من دول العالم، في آسيا وأفريقيا وأوروبا والأميركتين وأستراليا، من خلال المئات من المبعوثين من الوعاظ والأئمة والمدرّسين وخريجي الأزهر من أبناء تلك البلاد الذين ينقلون ثقافة الاعتدال والوسطية إلى العالم، وينشرون التعليم العربي الإسلامي على نطاق واسع.

إن الإسلام والأزهر الشريف يربطان مصر بأنحاء العالم الإسلامي برباط وثيق هو رباط الإسلام القوي، والنيل المبارك يصل بيننا وبين بلاد كثيرة افريقية .. وكفى أن ندرك أن العقيدة تربطنا بأكثر من مائة مليون أفريقي، من أصدقائنا المسلمين الذين نبادلهم ويبادلوننا الإخاء والمحبة والتعاون.

يعتبر الأزهر مركز إشعاع روحي ينهض لتأدية رسالته النبيلة فتفيد منه شعوب العالم الإسلامي، كما يغترف من علومه آلاف الطلاب الأسيويين والأفريقيين والأوربيين الذي يفدون إلى كليات الجامعة الأزهرية، بالإضافة إلى البعوض الكثيرة التي يبعثها إلى البلدان الشقيقة، ونذكر في هذا المجال أيضاً جهود المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في نشر المعرفة الإسلامية، وما يبذله من المنح للطلاب المجدين. حيا الله الأزهر.

ظل الأزهر رمزا لمصر وللمصريين ... فهو مسجد جامع تقام فيه الصلوات وتلقى على منبره الخطب والدروس الجامعة ...وهو قلعة علمية متميزة لتعليم علوم الدين واللغة وعلوم الدنيا..وهو حصن أمين لمصر والمصريين يقود نضالهم الوطني ضد الطغاة والمستعمرين ؛ وهو جامعة عريقة تحفل بمختلف وهو جامعة العلوم تخرج العلماء والدعاة الذين يجربون أنحاء العالم يمثلون مصر فى محافلها وجامعاتها ومدارسها ...وهو مقصد عشرات الآلات سنويا من طلاب العالم الذين يلتمسون التعلم فى أزهر مصر ...وهو جامعة لتخريج أجيال جديدة تنكب على التعليم الأزهري الفريد.

فالأزهر ليس مجرد جامع وجامعة، بل هو مؤسسة تنطلق بمصريتها العربية الإسلامية ومنارة تهدى العالم كله لعلوم الدين والدنيا من المنظور الإسلامي ؛ ومشيخة الازهر، القابعة أمام الجامع الأزهر والتى ستنشأ فى منطقة الدرّاسة على أعلى المستويات الانشائية على الطراز الإسلامي مقرا جديدا لها .

والأزهر انتشر فى جميع أنحاء مصر .. بدءً من جامعة الأزهر التى أنشئت داخل أعمدة الأزهر، منذ أن كان كل أستاذ عالم له عمود يجلس إلى جانبه وحوله تلامذته، ثم أروقة الأزهر، ثم إنشاء الكليات الأزهرية فى المنطقة التى تلى بيت الصلاة بالجامع الأزهر ثم إنشاء جامعة الأزهر الحديثة بمدينة نصر والتى تجمع كليات البنات بمفردها وكليات البنين العلمية والدينية بمفردها ثم إلى الكليات الأزهرية بمحافظات مصر المختلفة وانتهاء بالمعاهد الأزهرية الابتدائية والاعدادية والثانوية التي تقع فى مختلف قرى ومدن مصر فى كافة المحافظات

إن تاريخ الأزهر هو تاريخ الثقافة الإسلامية منذ القرن الرابع الهجري إلى اليوم، وإذا كانت مصر قد وضعتها الأقدار في هذا الموقع الخطير على خريطة العالم حيث تقع مركز اتصال بين القارات، ترسل من أشعتها الثقافية والحضارية إلى شتى أنحاء العالم شرقية وغربية، فان الأزهر قد نهض في هذا المكان - ولا يزال يقوم - بدور رائع عظيم الأثر في الفكر الإسلامي، بل والفكر الإنساني، يرسل دعاته وأفكاره في كل اتجاه ينشر العلم والمعرفة، وقد وقف الأزهر ألف سنة أو تزيد، يصارع الحوادث.

وضع أساس الجامع الأزهر كما ذكرنا في 14 من رمضان سنة (359هـ-971م) تحت إشراف جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي وتم بناؤه في سنتين، وفتح الجامع الأزهر للصلاة لأول مرة في 7 من رمضان 361هـ. فلم يلبث أن تحوّل الأزهر إلى جامعة تدرس فيها العلوم الدينية، يجتمع فيها طلاب العلوم والفنون من كافة الأقطار. وكان الخلفاء الفاطميون حريصين على الاهتمام بهذا المعهد الكبير وتزويده بكثير من الكتب وتخصيص موارد باهظة للأنفاق على طلابه الوافدين عليه، وبقى الأزهر منذ إنشائه مسجد الدولة الفاطمية الرسمي وكان الخليفة بنفسه يؤم الناس في صلاة عيدي الفطر والأضحى التي تقام فيه، وقام الأزهر بدور كبير في إذكاء الحركات القومية في مصر في العصور القديمة والحديثة وقد تجلت زعامته الشعبية بأروع مظاهرها أيام الحكم العثماني والاحتلال الفرنسي لمصر (1798 -1801) حينما تولى شيوخه وطلابه قيادة المقاومة الشعبية وتنظيمها واحتمل الأزهر خلال تلك الحوادث أقسى التضحيات.

وكان الأزهر ورجاله يغذون الثورات الوطنية بخطبهم وكتاباتهم ويتركون أثراً فعالا في تكوين شخصيات ثورية مثل أحمد عرابي قائد الثورة العرابية الذي تلقى علومه في الجامع الأزهر أربع سنين والسيد جمال الدين الأفغاني والسيد عمر مكرم والشيخ محمد عبده وسعد زغلول، وغيرهم من الذين أثاروا العقول لمحاربة الجهل والظلم والعدوان. وجدير بالذكر أن الزعيم سعد زغلول قائد ثورة سنة 1919 المصرية تلقى العلم في الأزهر وقد تخرج من الأزهر قبل دراسته للحقوق، ويعتبر سعد زغلول من المكافحين الذين حاولوا إعادة العزة والكرامة لطبقات الشعب.

ومن أكبر ما اهتمت به الحكومة المصرية إنشاء جامعة الأزهر الحديثة وفتح الكليات العلمية بها وكلية خاصة للبنات بشعبها المختلفة من علوم إسلامية وطب وأدب وفلسفة وعلوم. وجامعة الأزهر لا تختلف غايتها عن غاية الأزهر الشريف في تاريخه المديد إلا من تغيير الخطط وتعديل الوسائل بقدر ما تتطلبه الحياة المتطورة، ولن تنحرف طريقها عن طريق أبيها الجليل "الجامع الأزهر" فان التاريخ الصحيح يقول إن الأزهر كانت تدرس فيه، في ابهائه وصحونه، إلى جانب التفسير والحديث والفقه والأدب علوم الفلك والهيئة والميقات والطب والرياضة والحساب، وكانت تعقد فيه حلقات العلم للنساء؛ وكلية البنات الأزهرية هي نواة لجامعة إسلامية للبنات، لكي يقوم الأزهر بمختلف هيئاته ومعاهده وكلياته على إسداء الخير النافع العام إلى العالم الإسلامي كله.

والأزهر جزء بارز في كيان المجتمع الإسلامي، وهو تراث مجيد يعتز به كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وكان يجاهد في ميادين العلم والدين والإصلاح الاجتماعي والخلقي، والسياسة في العالم العربي والإسلامي.

وإن دور الأزهر في عشرة قرون حمى العالم الإسلامي من الانهيار أمام جحافل الصليبيين والتتار وأمام طغاة الحكام وعدوان المستعمرين، كما انفرد عن جامعات العالم الأخرى بخصائص لم تتيسر لغيره من ميزات تربوية وثروات فكرية عالمية وأساليب لغرس حب البحث والدرس للطلاب وتعويدهم على الجد في طلب الكمال. هذا إلى ما بذل علماؤه وطلابه من جهود في سبيل إعلاء منار الإسلام والمحافظة على تراثه المجيد. وقد ظل الأزهر - وسيظل - يؤدي رسالته على أكمل وجه ويقوم بأجل الخدمات للعالم الإسلامي في جميع العصور ويرسل أشعة العلم والعرفان في أقطار العالم، ويبقى مقصد طلاب العلوم العربية والثقافات الإسلامية من مختلف الأمم والشعوب.

كما يبقى للأزهر مكانته الرّمزيّة التي لا تخفى في مصر والعالم الإسلاميّ ككلٍّ؛ بسبب الذاكرة الأزهريّة الخالدة فإنّ “الميراث التاريخي الطويل الذي حظي به الأزهرُ كان عنصرًا أصيلاً فيما يمكن الاصطلاحُ على تسميته بــ «رأس المال الرمزي الأزهري»، وهو الذي اتخذه الأزهريون ذريعةً ما فتئوا يعتصمون بها لتسويغ موقعهم الديني، والدفاع عما استقام لهم من سلطةٍ معرفيةٍ لا يقبلون أن يمسَّها أحدٌ طعنًا وانتقاصًا أو شكًّا وتساؤلاً. ولستُ أُحصي كم مرةً سمعتُ فيها شيخًا أزهريًّا يُشِيد بتاريخ هذه المؤسسة العريقة التي أربى عمرُها على ألف عامٍ، في لهجة لا تخلو من ثقةٍ واستعلاءٍ، وبخاصةٍ إذا كان في مقام الدفاع عن “الثقافة المهيمنة” التي يمثِّلها الأزهر، في مجابهة مَنْ يبغون التأسيسَ لهيمنةٍ مضادةٍ سواء أكانوا من المنتمين إلى الأحزاب العلمانية بمختلف أطيافها، أم من أصحاب الرؤى الدينية المغايرة للرؤية الأزهرية؛ كالتيارات السلفية على تنوعها واختلافها”.

ولا يخفى على من يتتبع تاريخ الأزهر أن علماءه قد أسهموا في جميع المعارف والعلوم بالدرس والبحث والتأليف سواء في العلوم الدينية واللغوية وكذلك في المنطق والحساب والهندسة والجبر والفلك، ولما بدأت النهضة العلمية في مستهل العصر الحديث لم تجد لها منبعا إلا في رحاب الأزهر، لقد كان معظم المبعوثين من مصر - مثلا - إلى أوربا من رجال الأزهر، فلما عادوا بعد أن تخصصوا في مختلف العلوم والفنون وضعوا أسس النهضة العلمية والفنية في وادي النيل. وكان البارزون من أبناء الأزهر هم الذي وضعوا أساس النهضة الحديثة في مصر ومنهم أساتذة جامعة القاهرة وبقية المعاهد ومدرسة الألسن ومدرسة القضاء الشرعي وكلية دار العلوم وغيرها من مراكز الثقافات ودور العلم التي تفرعت من دوحة الأزهر الشريف.

ظل الأزهر منذ أن تأسس وحتى يومنا هذا قلعة دينية ومؤسسة إسلامية عالمية ذات تأثير عميق في المجتمع المصري والعالم الإسلامي، ورمزا من رموز وسطية الدين الإسلامي في مصر والدول الإسلامية الأخرى.

وهكذا استطاع الأزهر في تلك الأحقاب المظلمة، أن يسدي إلي اللغة العربية أجل الخدمات. وإذا كانت مصر خلال العصر التركي، قد لبثت ملاذاً لطلاب العلوم الإسلامية واللغة العربية، فأكبر الفضل في ذلك عائد إلي الأزهر، أن تحمي التراث ثلاثة قرون، حتي انقضي العصر المملوكي بمحنه وظلماته، وقبض لها أن تبدأ منذ أوائل القرن التاسع عشر حياة جديدة، يمازجها النور والأمل .

وربما كانت المهمة السامية، التي ألقي القدر زمامها  إلي الجامع الأزهر في تلك الأوقات العصبية، من حياة الأمة المصرية والعالم الإسلامي بأسره، من أعظم ما أدي الأزهر من رسالة وأعظم  ما وفق إلي إسدائه لعلوم الدين واللغة، خلال تاريخه الطويل الحافل.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

..................

المراجع

1- هدى إسماعيل: الأزهر الشريف.. منارة الوسطية في سماء العالم الإسلامي

2-أحمد محمود، صفحات من تاريخ الأزهر: من الفاطميين إلى المماليك، إضاءات، منشور بتاريخ 14 ماي 2017.

3- حلمي النمنم : " الأزهر الشيخ والمشيخة، ط1، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2012.

4- عبد العزيز محمد الشناوي: الأزهر جامعا وجامعة، ج1،، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2013.

5- محمد عبد الله عنان: الجامع الأزهر بين ماضيه وحاضره، مقال بجريدة المجلة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، س 2 ,ع 17، 1958.

 

 

في المثقف اليوم