شهادات ومذكرات

يوسف زيدان: الفيلسوف المشاغب بين النقد والنقض (1)

محمود محمد عليإذا كان هناك من فيلسوف مشاغب في مصرنا الحبيبة الآن، فهو في اعتقادي أن هذا لا ينطبق جملة ولا تفصيلاً علي الأستاذ الدكتور "يوسف محمد أحمد زيدان" كما زعمت الأستاذة مي عبد الرحمن (في مقالها يوسف زيدان الفيلسوف المشاغب)، اللهم إلا إذا كان يُقصد بالفيلسوف المشاغب هو ذلك الرجل الذي يمشي عكس التيار، ويلفت إليه الأنظار بوساطة الاستفزازات، مع رغبته الجامحة في تطبيق مقولة: خالف تعرف، والذي يجد من خلالها سعادة بالغة في تحدي الجميع تقريباً.

إن الفيلسوف المشاغب في نظري هو ذلك المفكر الذي يتمتع بمواهب لا تنكر وبطاقة فلسفية حقيقية، بحيث يفرض علي الجميع أن يكون أحد الأسماء الهامة واللامعة في فكرنا المعاصر، وأن يسهم بسقط وافر في بناء هذا الصرح، بحيث تكون اللبنات الفكرية والأدبية والسياسية التي يضعها تكون بمثابة الأساس الذي يبني عليه الكثيرون (سواء من تلاميذه، أو من مشاهديه) مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية في الفكر العربي المعاصر، وأن يكون ليس مجرد فيلسوف يدعي أنه نذر حياته للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، ولكنه لا بد  أن يكون إنساناً في تفلسفه، وفيلسوفاً في إنسانيته، وبين الإنسان والفيلسوف تتجلي المشاغبة الفلسفية لهذا الرجل المتعدد الأوجه سواء كمترجم، أو محقق، أو ناقد، أو سياسي، أو أكاديمي، أو أديب .. الخ.

علاوة علي أن الفيلسوف المشاغب في نظري يجب أن يتمتع بصفات أخري منها : أن يكون مغامراً لا يحدّه خوف، ومناضلاً لا تتعبه خيبة، ومقاوماً لا تكسِره شراسة الأيام، وأن يخوض بمفرده أشرس المعارك الفكرية، وأن يتحمّل ما يكفي من معاناة أزهرت في ما بعد كتباً لم تكن في الحسبان؛ بحيث يكون سلاحُه الاحتراف والاشتغال على الذات، وأن يكون صاحب فكر متّقد انتهج النقد سبيلاً، والتجديد أسلوباً، والكشف عن المنسي هدفاً، وألا يكون لديه القدرة في التواصل البنّاء مع المتلقّين من حوله، وألا يرضي بالبكاء على الأطلال، ولا التغني بنهضة سبقت، إنما يُسنّ قلمه ويُنهض بنفسه في حراك لا يهدأ سفراً، وبحثاً، وإنتاجاً، وأن يكون له حركةٌ هادرةٌ لا تعرف الراحة، وأن تكون لديه القدرة علي  الدورانٌ في المعنى، والاستنطاق المستدامٌ الذي لا يعرف السكون، وأن يكون هو جيشٌ من الفعلة هو، وأن يكون مبدعاً في أكثر من مجال؛ وكأنه مركز أبحاث، أو خلية نحل لها استراتيجية خاصة بكل يوم، تنجزها وتنتقل إلى أخرى متّجهة نحو حقل أبعد.

ويوسف زيدان كما اعتقد بعيداَ عن هذا كله حتي وإن كان واحداً من فلاسفتنا المصرين المعاصرين الذين نعتز بهم لأنهم (كما قالت الأستاذة مي عبد الرحمن في مقالها سالف الذكر):" أمنوا بتحرير العقول ومن الذين أيضاً طرقوا قضايا دينية، فلسفية، وتاريخية راسخة فى الوجدان العربى ربما لم يطرقها أحد من أبناء جيله، حيث عمد يوسف زيدان من خلال مشروعه الفكرى إلى تفكيك الموروث الثقافي والديني المحاط بالأوهام والتى أدت إلى إحداث خلل فى الذهنية العامة للعرب والمسلمين، فبرز اسمه كأحد أكثر المثقفين شغبا وجرأة تارة، وإثارة للجدل تارة أخرى  ".

وحتي لا أتهم بعدم المهنية العلمية لعدم اتفاقي مع فكر يوسف زيدان فلابد لحكم كوني كاتباً للسير أن أكتب عنه كما هو مدون عنه فنقول:  يوسف زيدان: كاتب وفيلسوف مصري، ومتخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه، له عدة مؤلفات وأبحاث علمية في الفكر الإسلامي والتصوف وتاريخ الطب العربي، وله إسهام أدبي في أعمال روائية منشورة، وله مقالات دورية وغير دورية في عدد من الصحف العربية. عمل مديراً لمركز المخطوطات بالإسكندرية في مكتبة الإسكندرية.

وُلِدَ يوسف محمد أحمد زيدان في مركز ساقلتة بمحافظ سوهاج بصعيد مصر في الثلاثين من حزيران/ يونيو عام 1958، لكنه لم يمكث فيها كثيرًا حيث انتقل وهو لا يزال طفلًا إلى الإسكندرية مع جده وتربى ودرس هناك، وفي المرحلة الجامعية التحق يوسف زيدان بقسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة الإسكندرية ليحصل منها على ليسانس في الفلسفة عام 1980؛ شغل الفكر الإسلامي الصوفي فكره ومن هو لا يزال طالبًا فاستمر في الدراسة الأكاديمية للفلسفة لكن مزجها بالتصوف؛ فحضر للماجستير في الفلسفة الإسلامية برسالة عنوانها "الفكر الصوفي عند عبد الكريم الجيلي، دراسة وتحقيق لقصيدة النادرات العينية للجيلي مع شرح النابلسي" قبل أن يحصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية كذلك عام 1989 برسالة "الطريقة القادرية فكرًا ومنهجًا وسلوكًا، دراسة وتحقيق لديوان عبد القادر الجيلاني".

وعقب حصوله علي الدكتوراه قام بتدريس الفلسفة الإسلامية وتاريخ العلوم بكلية الآداب بدمنهور -جامعة الإسكندرية (الفترة من عام 1992 إلى عام 1997)، وفي نفس الوقت أشرف على سلسلة كتب الفلسفة والعلم التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وزارة الثقافة المصرية، وعمل مشرفاً ومديراً لتحرير مواد الفلسفة وتاريخ العلوم بموسوعة الشروق التي كانت تصدرها دار الشروق بالقاهرة. كما عمل مستشارا لمكتبة الإسكندرية منذ سنة 1994م، وأنشأ قسم المخطوطات فيها سنة 1994م وكان رئيسا له أيضا، وفى عام ٢٠٠٠م صار مديرا لمركز ومتحف المخطوطات، حتى استقال سنة 2012م.  ثم اكتفى بالكتابة، يقضي كل وقته في الكتابة.  وينشر مقالاته أو قصصه أسبوعيا في جريدة المصري اليوم اليومية.

لم يكتف يوسف زيدان بذلك، بل أكمل ليحصل على درجة الأستاذية في الفلسفة وتاريخ العلوم عام 1999، ومما يذكر أيضاً ان الدكتور يوسف زيدان أنشأ قسم المخطوطات في مكتبة الإسكندرية عام 1994 وعمل رئيساً له. وتم فصله من وظيفته عقب نشوب خلاف بينه وبين الدكتور إسماعيل سراج الدين رئيس مكتبة الإسكندرية في وقتها.

كتب يوسف زيدان العديد من المؤلفات في مجالات متعددة منها ما يتصل بالتراث الإسلامي، كذلك الانتاج الأدبي. وتتوزع أعماله على فروع: التصوف الإسلامي والفلسفة الإسلامية وتاريخ العلوم الطبية والرواية والقصة القصيرة وكذلك فهرسة المخطوطات التراثي نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: الفكر الصوفي عند عبد الكريم الجيلي، و شرح فصول أبقراط لإبن النفيس، و شعراء الصوفية المجهولون، و ديوان عبد القادر الجيلاني - دراسة وتحقيق، وديوان عفيف الدين التلمساني - دراسة وتحقيق، وقصيدة النادرات العينية للجيلي، والطريق الصوفي وفروع القادرية بمصر، وعبد القادر الجيلاني، باز الله الأشهب، ورسالة الأعصاء لإبن النفيس - دراسة وتحقيق، والمختصر في علم الحديث النبوي لإبن النفيس - دراسة وتحقيق، والمختار من الأغذية لإبن النفيس، و حي بن يقظان النصوص الأربعة، و الشامل في الصناعة الطبية لإبن النفيس ثلاثون جزءًا، و عزازيل - رواية - ترجمت إلى معظم لغات العالم، و اللاهوت العربي وأصول العنف الديني – تأليف، ومحال – رواية، ومتاهات الوهم – تأليف، دوامات التديّن – تأليف، وفقه الثورة – تأليف، وجونتنامو – رواية، وحل وترحال - مجموعة قصصية، وفقه الحب – تأليف، وشجون مصرية، وشجون عربية، وشجون تراثية نور – رواية، وفي التصوف الإسلامي.. الخ.

وخلال هذه الأعمال استطاع يوسف زيدان أن تكون لديه بصمة كبيرة في مجالات فلسفية عديدة، ففي مجال التصوف تتركز أعماله في موضوع التصوف الفلسفي في مرحلة النضوج، وهو أحد أكثر مباحث التصوف الإسلامي تعقيدا، نظرًا لتواشجه بالعديد من الأفكار والمذاهب الفلسفية. لذا نجده يكتب عن الشيخ الأكبر ابن عربي كتابه "شرح مشكلات الفتوحات المكية لابن عربي"، ثم يتناول عبد الكريم الجيلي في "عبد الكريم الجيلي فيلسوف الصوفية" و"الفكر الصوفي عند عبد الكريم الجيلي" ثم يتناول عبد القادر الجيلاني في "ديوان عبد القادر الجيلاني" و"عبد القادر الجيلاني باز الله الأشهب". وتمثل هذه المؤلفات التيار السائد في تأليف زيدان فيما يتعلق بالتصوف، فمؤلفاته هي أقرب إلى التصوف الفلسفي من فروع التصوف الأخرى.

أما في مجال في الفلسفة الإسلامية، فأهم ما يميز إنتاج زيدان فيما يتعلق بالفكر الفلسفي في الإسلام هو اهتمامه بالفلسفة المشرقية التي تعبر عن الفكر الفلسفي العربي الذي نزع عن نفسه ربقة الفكر المشائي اليوناني. لهذا نجد أهم أعماله في هذا السياق "حي بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها". لقد أخرج في هذا الكتاب النصوص التي تتناول قصة حي بن يقظان وتجلياتها المختلفة عند ابن سينا وابن طفيل والسهروردي وأضاف إليه نصًا آخر لم يكن قد حظي بشهرة سابقيه وهو نص فاضل بن ناطق لابن النفيس. وهكذا يكون هذا الكتاب أشمل إخراجٍ لواحدة من أعمق التيمات الفلسفية في التراث العربي. كما أن له كتاب آخر له أهمية كبيرة من زاوية مناقشة علم الكلام الإسلامي وأصوله وجذوره، وهو كتاب اللاهوت العربي، وجذور العنف الديني. والكتاب أيضاً يعد محاولة جديدة لفهم جذور العنف الديني في الديانات السماوية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.

وفي مجال تاريخ العلوم عند العرب، وبخاصة تاريخ الطب العربي، هو فرع من الفروع التي أسهم فيها يوسف زيدان إسهامًا كبيراً في إطار رؤيته للتراث العربي. فقد ألف وحقق عددًا من النصوص التراثية الهامة في هذا المجال. وهو يعد واحدا من أكبر الدارسين لعلاء الدين بن النفيس صاحب موسوعة "الشامل في الصناعة الطبية" التي تعد من أكبر الموسوعات الطبية وأشملها في القرون الوسطى. وقد قام يوسف زيدان بتحقيق هذه الموسوعة الضخمة ونشرها في ثلاثين مجلدا ضمن إصدارات المجمع الثقافي في أبي ظبي. وبنشرها حصل على جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (للمرة الثانية) بعد أن كان حصل عليها من قبل على دراساته عن ابن النفيس. ومن مؤلفاته وتحقيقاته في تاريخ الطب العربي.

أما فيما يتعلق بالقصص والأعمال الروائية، فيتمثل إسهام يوسف زيدان النقدي في مؤلفه "ملتقى البحرين" الذي يبسط فيه رؤيته النقدية لأعمال معاصريه من أمثال الروائي جمال الغيطاني. وله إسهاما روائيا في روايتيه "ظل الأفعى" المنشورة في سلسلة روايات الهلال، ورواية "عزازيل" التي فازت بأهم جائزة أدبية في الشرق الأوسط وفي العالم العربي الجائزة العالمية للرواية العربية لأفضل رواية عربية لعام 2009. وقد طبع من رواية عزازيل منذ وقت نشرها حتى الآن (أوائل 2010) 16 طبعة متتالية أصدرتها دار الشروق المصرية وهي من أهم الروايات العربية في تاريخ اللاهوت المسيحي .

وقد فازت روايته “عزازيل” سنة 2009م بالجائزة العالمية للرواية العربية لأفضل رواية عربية لعام 2008م. وفي الصفحات الآتية دراسة في حياته وأعماله الروائية.

وليس هذا فقط بل لقد حصل د. يوسف زيدان على العديد من الجوائز والتكريمات، على سبيل المثال حصل على (جائزة البوكر الدولية للرواية العربية) سنة 2009م عن روايته “عزازيل” كأحسن رواية عربية منشورة خلال السنة السابقة. وحصل على جائزة الفقه الطبي وتحقيق التراث من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي بالمشاركة مع المنظمة الإسلامية، لدراساته عن علاء الدين بن النفيس، وجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي  عن تحقيقه لـ موسوعة “الشامل في الصناعة الطبية” لعلاء الدين بن النفيس في 30 مجلدا.  كما أقيمت حول رواياته ندوات ومحاضرات كثيرة بالقاهرة والإسكندرية والكثير من البلاد العربية مثل لبنان، الأردن، الكويت، السعودية، الإمارات العربية المتحدة، تونس، والمغرب... وللحديث بقية...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم