شهادات ومذكرات

فردريك الثاني.. الملك الفيلسوف

يسري عبد الغنيكان فردريك الثاني (1712م  ـ 1786 م) ملك بروسيا يستيقظ كل صباح قبل الفجر بقليل، وكان الخادم الذي يذهب لإيقاظه يعاونه في ارتداء ثيابه، التي لم تكن تزيد عن حلة زرقاء قديمة (يونيفورم)، بها بقع من بقايا التبغ أو الطعام، وذلك هو الرداء الذي اعتاد عليه الملك .

وبينما يقوم خادم آخر بإزالة لحيته، يأخذ الملك فردريك في مراجعة أختام الخطابات والرسائل، التي تصله من سفراءه العديدين، وكذلك من وزرائه، وبعد ذلك مباشرة ينهمك في قراءتها، ويدون خلال ذلك ملاحظاته عليها، ويصدر تعليماته بشأن الرد عليها، وفي نفس الوقت، ينبعث من الغرفة المجاورة عزف خفيف على (فلاوت)، من شأنه أن يساعد ملك بروسيا على التفكير في شئون الدولة .

وبعد أن يتناول إفطارًا سريعًا أساسه القهوة والفاكهة، يستقبل العاملين في سكرتاريته، فيملي عليهم خطاباته، ويلقي أوامره، وفي حوالي التاسعة صباحًا يستقبل ياوره الخاص ن والذي يدبر معه بكل انتظام، كل ما يتعلق بالشئون العسكرية والقوات المسلحة للبلاد، وتتبع ذلك الاجتماعات، وبعدها يقوم بالتفتيش على جيشه .

وفي الظهر نمامًا، يجلس فردريك إلى مائدة الطعام، ويظل عليها فترة تتراوح بين ساعتين وثلاث ساعات، يقضيها بين الطعام ومعالجة الشئون المهمة للبلاد مع كبار موظفيه .

وفي العصر يخلد إلى الراحة وحيدًا في مكتبه حيث كان بطبعه يميل إلى العزلة والهدوء، ويعزف قليلاً على القيثارة، أو يقرأ، أو يكتب، أو يفكر، أو يتأمل، ذلك أن الحياة في رأي فردريك كان معناها القراءة ثم القراءة ثم القراءة، وفي حوالي الساعة السادسة مساء، يستقبل الفنانين والعلماء والأدباء، ويتحدث معهم طويلاً، ثم يختم المساء بأن يعكف على دراسة وثائق الدولة، ويتناول عشاء سريعًا، ويحضر حفلاً صغيرًا يشترك هو نفسه فيه .

كان فردريك الثاني يوجه الأمور في مملكته بأيد ثابتة غير مرتعشة، من قلعته التي كان يطلق عليها اسم (بدون مضايقات)، فلم يكن في تلك القلعة أحد إلا وتوافرت فيه القدرة على القيام بما يكلف به على خير وجه، كما لم يكن فيه إلا ما يبعث الحماس للعمل والإنجاز، ولقد كانت كل الأوامر تصدر منه، وكل ما يتم عمله في مملكة بروسيا دون تردد أو تلكؤ، لأن تلك هي إرادة الملك الهادفة إلى الصالح العام ولا شيء غير ذلك .

لم يكن فردريك يثق في أحد مهما كان، ولم يكن يستقبل في بلاطه الصغير، الذي لم تدخله امرأة أو متحذلق، إلا رجال الفن والأدب والعلم الذين يتبادل معهم الحديث، والموظفين الذين ينقل إليهم تعليماته، ولم يكن يميل على سبيل المثال إلى رؤية وزرائه والاجتماع بهم، الذين كان عليهم البقاء في برلين، ومهمتهم فقط تلقي أوامره وتنفيذها على الوجه الأكمل .

وعن طفولة فردريك الثاني ملك بروسيا والتي يمكن أن نصفها بأنها كانت طفولة بائسة، نقول : لقد بدأ نجم أسرة هوهنزولرن الكبرى، ونطق الاسم الصحيح هو : أوينزولرن، التي ينتمي إليها فردريك، في الصعود عام 1415 م، وذلك عندما انتزعت السيادة على منطقة برندنبورج الرملية الفقيرة، وإلى هذه المنطقة أو الإقليم الصغير راح آل هوهنزولرن يضيفون بين الحين والآخر قطعة أرض أخرى، بحيث انتهى بهم الأمر إلى ضم بروسيا ذاتها .

وقد أمكن لهذه الأسرة، بفضل ما كانت تتمتع به من ذكاء اقتصادي وسياسي أن تجعل من ممتلكاتها دولة قوية يخشى بأسها، وعندما ارتقى فردريك العرش عام 1470 م، وجد نفسه يحكم دولة تتكون من مليونين ونصف المليون نسمة، ولها جيش يتكون من عدد مذهل بالنسبة لمجموع السكان، هو 85 ألف جندي .

والواقع أن فردريك قضى حياته كلها يوجه أكبر العناية لقوات بلاده المسلحة، لقد كان والده الملك / فردريك غليوم رجل لا يكل ولا يمل ولا يتعب بدرجة أكبر من ولده، غير أنه وجه كل عنايته للجيش، وافتتن بالاستعراضات العسكرية وبالجنود، وقيل : إنه جعل من بروسيا معسكرًا حربيًا هائلاً .

ولقد كاد الملك / فردريك غليوم يطير فرحًا عندما رزق في عام 1712 م بولد ذكر، إذ تخيله على الفور وقد امتلأ حماسًا بالحياة العسكرية، وكله رغبة عارمة في أن يخدم بلاده كما يفعل أقل مواطن فيها، وتصوره بصفة عامة نموذجًا كاملاً له .

لكن الابن شب على صورة أخرى، إنه لم يكن كسولاً أو غير محب للعمل أو الإنجاز، بل على عكس من ذلك، كان مختلفًا تمامًا عن أبيه، وذلك ما لم يكن في استطاعة غليوم أن يقره بأي شكل من الأشكال .

كان الأب مجرد جندي يتبع النظام بدقة وصرامة، ولكنه غليظ من حيث العبقرية والذكاء، أما الابن فكان شعلة من الذكاء، وإن كان يبدو غريب الأطوار بالنسبة للمحيطين به، كان محبًا للأدب والفن، عاشقًا للقراءة والاطلاع، كما كان كاتبًا جيدًا .

وسرعان ما نشأ بين الأب والابن نفور لا يمكن التغلب عليه، غير أن الملك / غليوم لم يكن من النوع الذي يستسلم أو يتراجع بسهولة، ولكي يحمل الآخرين على طاعته، كان يعرف كيف يلجأ إلى الشدة وأحيانًا إلى العنف، وقد استخدم هذا الأسلوب مع ولده، فلم يكتف بأن منع عنه الكتب والأوراق والأقلام، فقد حرم عليه أيضًا الموسيقى وأدواتها، وحال بينه وبين رؤية والدته إلا خلسة، بل أنه كان يلجأ إلى ضربه علنًا وأمام الجمهور، كما جلده أكثر من مرة .

وعندما استولى اليأس على الشاب فردريك من مثل هذه الحياة، حاول الهرب من مملكة بروسيا ومعه صديق له، غير أن أمر الشابين أكتشف، وصدر عليهما حكم بالسجن، وصمم والد فردريك الملك / غليوم أن يرفع ضدهما قضية بوصفهما متمردين وخائنين للبلاد، حتى يحكم عليهما بالإعدام شنقًا، ولكنه اضطر إلى العدول عن مثل هذه القسوة .

وقد نجا فردريك من غضب أبيه، نتيجة لتدخل الأمبراطور / شارل الرابع إمبراطور / هابسبورج، وكذلك أمه ومجموعة من المقربين، ولكن يقال أن صديقه قد قتل مما أثر تأثيرًا شديدًا على فردريك أدى إلى حزنه واكتئابه .

فكر الملك / غليوم بعد هذه المأساة أن يغير من طريقة تربية ولده، فضاعف من شدته وقسوته عليه، فأثنى الابن تدريجيًا عن عناده، وفي الواقع أن الابن تظاهر بذلك، مضللاً أباه، بجعله يعتقد أنه يتبع تعليماته تلقائيًا، وهكذا أصبح الشاب فردريك منافقًا حقيقيًا، وممثلاً كاملاً رغم أنفه .

إن أولئك الذين كانوا يرون في الشاب البروسي إنسانًا طيبًا وديعًا محبًا للسلام، أدركوا أنهم قد خدعوا أنفسهم، عندما ارتقى العرش عام 1740 م باسم الملك / فردريك الثاني ملك بروسيا، ذلك أنه لم تكد جنازة أبيه تنتهي بما صاحب ذلك من حفلات عزاء، حتى سارع ابنه إلى مضاعفة عمليات تسليح الجيش وزيادة عدده مكملاً بذلك الطريق الذي كان والده أخذًا فيه .

كان فردريك قد ألف قبل ذلك ببضع سنوات كتابًا بعنوان : معارضة مكيافيللي، استنكر فيه نظرية الكاتب الإيطالي الشهير / مكيافيللي في كتابه (الأمير )، التي كانت تقول بأن جميع الوسائل صالحة، إذا كانت ستزيد من قوة الدولة .

ولكن الأمور لا تبقى على حالها دائمًا فما كاد فردريك يرتقي عرش بروسيا، حتى أخذ يتصرف كما كان يفعل الأمير في كتاب مكيافيللي، إذ فصم مواثيق التحالف التي كانت تربطه بالنمسا، وطلب من الملكة / ماريا تريزا أن تنزل له عن (سيليزيا)، بل أنه لم ينتظر أن يصله رد منها، وعمد إلى غزو ذلك الإقليم النمساوي بقواته الهائلة، وهكذا بدأت حرب طويلة، استمرت قرابة ثلاثين عامًا، تخللتها هدنات متقطعة، وتحولت سيليزيا بصفة نهائية لكي تصبح إقليمًا بروسيًا.

ولم يقف الملك / فريدريك الثاني عند مجرد زيادة عدد قواته المسلحة، بل إنه استمر في جعلها أكثر فعالية يومًا بعد يوم، وركز اهتمامه على تطوير المدفعية المحمولة على ظهور الجياد، وهو السلاح الذي ابتدعه هو نفسه .

ولم تكن الحروب وحدها هي التي خاضها الملك البروسي / فريدريك الثاني، بل إنه رغب في السلام، لكي يتمكن من الارتقاء بدولته اقتصاديًا، حيث أنه كان يؤمن بأن الاستقرار يعني الحياة الأفضل والأحسن للأمة في شتى نواحي الحياة، كما أنه في نفس الوقت كان إداريًا ناجحًا، ووزير اقتصاد غاية في الحكمة والحنكة، فقد عمد، أو ما عمد إلى تحويل برلين إلى مدينة صناعية كبرى، وفي نفس الوقت حمل بروسيا كلها على أن تعتمد على نفسها في سد كافة احتياجاتها فحقق لها الاكتفاء الذاتي ن دون أن تستورد شيئًا من الخارج، وقد طور الزراعة فيها، كما جعل صناعاتها متقدمة متقنة، وتمكن من تصدير سلع أكثر مما يستورد منها .

وعن طريق حروب جديدة، وعمليات دبلوماسية بارعة، استطاع فريدريك الثاني توسيع أراضيه على حساب كل من النمسا وبولندا، وكان هو الذي يطرح الحماية على الأمراء الألمان تجاه مطالب النمسا، وبالطبع لم تكن هذه الحماية منزهة عن الغرض، فالسياسة أساسها المصالح والمنافع، والواقع أن فريدريك الثاني كان يريد أن يحول دون دعم القوة النمساوية، وأن يمهد في نفس الوقت، لضم الإمارات الألمانية إلى بروسيا .

لقد كرس فريدريك الثاني آخر سنوات حياته الحافلة بالدفاع عن الأراضي التي عرف بذكائه وبقواته المسلحة كيف يحصل عليها خلال حوالي ثلاثين عامًا من الصراع العنيف، فلم يذق طعم الراحة أو الهدنة .

وقد بدأت صحته في تلقي الضربة الأولى خلال عرض عسكري أقيم في سيليزيا في شهر أغسطس عام 1785 م، ففي ذات صباح، أراد الملك أثناء أحد العروض، أن يضرب مثلاً لجنوده، بأن يظل ممطتيًا ظهر جواده ست ساعات كاملة، تحت وابل من المطر المنهمر، ثم اشترك في المساء في حفل ومأدبة، فدهمته الحمى في الليل .

فلما كان الصباح، غادر فراشه، وتابع تفتيش قوات الجيش، إلا أن المرض اشتد عليه، فاضطر إلى أن يلازم الفراش، وسرعان ما شفي، واستمر بعد ذلك يعمل ويقرأ كعادته، وإن كان قد ركز في تلك الفترة على قراءة كتب التاريخ، وبعد القراءة يجري المناقشات مع موظفيه، ولعدة أشهر ظل مقيمًا في قصر بوتسدام، منكبًا على عمله، مما جعل طبيبه الخاص ييأس منه ويصاب بالحيرة من أمره .

كان فريدريك الثاني ينام سويعات قليلة، ويضطر سكرتيريه إلى المجيء إليه في الرابعة صباحًا، حتى يجعل من الأسابيع المعدودة التي كانت باقية له في الحياة، شيئًا نافعًا للدولة، وقد سقط أحد هؤلاء السكرتيرين مغشيًا عليه من فرط الإرهاق، فما كان من الملك إلا أن استدعى سكرتيرًا آخر، واستمر يعمل معه .

وفي شهر أبريل سنة 1786 م، ذهب الملك فريدريك الثاني إلى قلعة (بدون مضايقات)، وهي المقر المفضل لديه، واستمر يعمل ويعمل، إلا أن قواه لم تسعفه، وفي 15 أغسطس من نفس العام أصدر أمره بالاستعداد للقيام لزيارة لبوتسدام، ليتفقد جيشه، وأملى عددًا من الرسائل المتعلقة بمصالح الدولة .

وفي اليوم الثاني أصيب الملك بأزمة قلبية حادة، وفقد كل قواه تقريبًا، وفي المساء استيقظ من نوم طويل متقطع، وفال ‘نه يريد أن يوقظوه في الرابعة صباحًا كعادته دائمًا، لكي يستأنف العمل، إلا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية صباحًا بين ذراعي خادمه المخلص، وكان في الرابعة والسبعين من عمره .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم